للأستاذ عطا الله ترزي باشي
تحدثت إلى القراء في أعداد الرسالة السابقة عن تاريخ الأدب التركي في عصوره المختلفة منذ النشأة حتى أوائل العهد العثماني بصورة مجملة.
وأعود اليوم إلى مواصلة البحث بدراسة الأدب العثماني دراسة عاجلة؛ على أن أترك أمر التفصيل والتمحيص فيها للقراء يراجعون المصادر التي استقيت منها مواد هذا المقال.
وأود قبل الخوض في مواد البحث أن أشير إلى أن الأدب التركي في هذا العهد لم يكن أدبًا منحصرًا في المناطق التي شملها الحكم العثماني فقط، وإنما كان نطاقه ممتدًا إلى بلاد غير خاضعة للحكم العثماني، يقطنها الأتراك. فهناك الأدب الآذري، وهو فرع هام من فروع الأدب التركي المنتشر في أرجاء العجم وبلاد الأذربيجان. وقد نشأ بعد انقراض السلجوقيين وظهور المغول في تلك الأنحاء، ونما نموًا سريعًا حتى تغلغلت فروعه في الأدب العثماني، وعاش متأثرًا به ومؤثرًا فيه، محافظًا على صبغته الآذرية حتى اليوم. وقد آثرنا أن نتحدث - عند الكلام عن الأدب العثماني - عن هذا الأدب بإيجاز، وذلك وفق ما يتطلبه الحاجة ويهواه المقام.
وهناك بجانب الأدبين العثماني والآذري الجغتائي، وقد انتشر في مناطق (الخوارزم وآلتون أوردو). نبغ فيه أدباء مفكرون وشعراء معروفون؛ وقد انتقل إلينا كثير من الآثار التي ألفوها في مواضيع الدين والأخلاق والتصوف. ويعد (قطب) أول شاعر جغتائي نعرفه. له منظومة تركية قيمة بعنوان (خسووشيرين). وكذلك (خوارزمي) من شعراء الجغتائية المعروفين الذي اشتهر بكتابه المنظوم (محبتنامه) وغيره من الشعراء كثير، سواء عاشوا في بداية تأسس الحكم العثماني أو ظهروا في القرون التي تليها.
وهناك أدب المماليك، وظهر بين الأتراك الذين عاشوا في مصر زمنًا وأسسوا لهم إمارات صغيرة هناك. وتميز هؤلاء بنشاطهم الأدبي الفعال وقدرتهم العظيمة على تنظيم الحركة الفكرية في البلاد. نشأ منهم عدد لا يحصى من العلماء والشعراء، وقد تركوا آثارًا فكرية كثيرة ومؤلفات أدبية قيمة. ويعد الشاعر (سيف سرائي) أشهرهم، وهو الذي ترجم كتاب (كلستان) للشاعر الإيراني (سعدي) إلى التركية نظمًا.
وهكذا فإن نظرة عاجلة في الأدب التركي تطلعنا على أن هذا الأدب كان متفرعًا عند ظهور العثمانيين إلى عدة فروع هامة، منها العثماني والآذري والجغتائي والمملوكي.
ولقد امتد أثر الأدبين الجغتائي والآذري قرونًا طويلة وذلك بامتداد الأدب العثماني، حتى فقد الأول منهما مميزاته الجوهرية الخاصة واندمج في غيره من الآداب (التركية). ولا يزال الأدب الآذري قائمًا بنفسه، محافظًا على مقوماته الأساسية حتى اليوم. أما الأدب العثماني، وهو موضوع دراستنا، فقد انقرض تدريجيًا بعد زوال الحكم العثماني وظهور الدولة التركية الحديثة، وغدا اليوم أدبًا تاريخيًا مقصورًا على بعض الأندية الأدبية ويمثله في الوقت الحاضر شعراء محصورون.
ولننتقل الآن إلى العهد العثماني، وقد رأينا أن نتبع في تقسيمه إلى الأدوار هذا الشكل:
(أولًا) صدور الدولة العثمانية (ثانيًا) دور الدواوين (ثالثًا) دور التنظيمات (رابعًا) دور ثروة الفنون.
صدور الدولة العثمانية:
ويبتدئ هذا الدور، حسب ما نراه، من وقت تأسس الدولة العثمانية (سنة 1300م - 699 هـ) حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. ويتميز الشعر في هذا الدور بنقاوة اللغة وسلاسة الألفاظ ورقة الأسلوب وقلة التكلف. فكان الشعراء يتجنبون غالبًا استعمال الكلمات الغريبة في أشعارهم وينفرون من التصنع والتلاعب بالألفاظ. ولذا فإن شعرهم يمثل باستثناء أشعار بعض المتأخرين من الشعراء أبدع ما نظمه الشعراء العثمانيون على الإطلاق.
وامتاز هذا الدور بشيوع (المثنوي) بين الشعراء شيوعًا هائلًا، إذ لا يخلو أثر من الآثار التي ألفها الشعراء في هذا الدور من شعر المثنوي.
والمثنوي لون من الشعر اشتهر به الفرس منذ القديم. فنظموا به الملاحم التاريخية الكبرى والقصص الخيالية الرائعة أمثال (الشاهنامه) للشاعر الفارسي العظيم (فردوسي). و (المثنوي) لمولانا جلال الدين الرومي. . وقصة (يوسف عليه السلام) وقصة (ليلى والمجنون) وغيرها كثير. . ويميز المثنوي عن غيره من الأشعار وجود القافية بين شطري كل بيت من أبيات المنظومة؛ ولا يشترط اتحاد الأبيات في القافية إذ يكفي أن يكون شطرا البيت مقفيين.
ولشعراء الأتراك آثار شعرية كثيرة جرت مجرى المثنوي. وقد امتاز شعراء هذا الدور بتعصبهم لنظم المثنوي. فلا نكاد نرى شاعرًا إلا وشغل نفسه بهذا النوع من الشعر.
وأول من اشتهر منهم في نظم المثنوي (مصطفى شيخ أوغلو) صاحب المثنوي المعروف (خورشيد نامه) ومترجم كتاب (كليلة ودمنة) إلى اللغة التركية. وقد عاش هذا الشاعر في عصر السلطان يلدبرم بايزيد. وكذلك الشاعر المشهور (عاشق باشا)(سنة 1272 - 1333) وقد اشتهر بمؤلفه (غريبنامه) في التصوف والأخلاق. وهو كتاب قيم يقع في اثني عشر ألف بيت من الشعر، في أوله مقدمة فارسية تتبعها قصائد تركية في نعت الإله ومدح الرسول ووصف المشاهير من المسلمين ثم يليها أبواب الكتاب العشرة، وكل باب مقسم إلى عشرة فصول تتضمن ملاحم شعرية مختلفة في وصف الجنة والجحيم والدنيا والآخرة والسماء والأرض والعناصر الأربعة في تكوين الحياة.
الخ
ومن شعراء هذا الدور، (كلشهري) وقيل إنه عاش قبل (عاشق باشا) بمدة. له منظومة مترجمة من كتاب (منطق الطير) للشاعر الفارسي (عطار).
احمدي:
ويعد زعيم الشعراء في عصره. ولد سنة 1224م في مدينة (كوتاهيه) أو في مدينة (كرميان) من ولاية (بروسه) وذلك في سنة 735 هـ حسب ما ذكره طاشكبري زاده، كما وأن لطيفي صاحب تذكرة الشعراء ذكر أن مسقط رأسه هو مدينة سيواس حيث درس فيها العلوم وارتحل بعد ذلك إلى القاهرة، وكان يتردد هناك على مواطنيه حاجي باشا الذي اشتهر في الطب ومولانا محمد شمس الدين الفناري. وعند عودته إلى وطنه الأصلي التحق بخدمة أمير كرميان.
وأدرك احمدي غزوة تيمورلنك في البلاد العثمانية وحظي عند هذا الطاغية وأصبح نديمًا له. ويروي عنهما لطائف كثيرة، وقيل إنه لم يعجبه البقاء عند تيمورلنك فالتحق بخدمة الأمير سليمان من أبناء السلطان يلدبرم بايزيد، وظل يصاحبه حتى مات السلطان فعاد احمدي إلى أماسيه.
واحمدي شاعر مبدع، وأهم ما يمتاز به هو إدخاله المواضيع الدنيوية في الأدب التركي الغربي. ويعتبر كتابه (اسكندر نامه) أول مؤلف تركي قصصي بأسلوب الملاحم، فقد وصف فيه حروب الملك اسكندر المقدوني في (8250) بيتًا من الشعر ويتضمن هذا الكتاب آراء فلسفية طريفة وأبحاثًا في الطب قيمة. ولاحمدي ديوان نفيس ضم مجموعة من أشعاره في القصائد والغزل، وله منظومة بعنوان (جمشيد وخورشيد). وهي مثنو يحتوي خمسة آلاف بيت من الشعر. وقد عثر على هذا الكتاب قبل عشر سنوات وبضع سنين الأستاذ نهاد سامي وحققه مع كتاب آخر لاحمدي هو التاريخ العثماني فنشرهما في مجلد سنة 1939.
أدب السلاطين:
ويعد السلطان عثمان غازي مؤسس الدولة العثمانية أول من نظم الشعر بين السلاطين. له منظومات شعرية بديعة في الحماسة.
وهناك سلاطين كثيرة اشتغلوا في ساحة الأدب منهم السلطان بايزيد الثاني والسلطان مراد الثاني من شعراء هذا الدور، ويعد الأخير أول سلطان عثماني جمع أشعاره في ديوان خاص. ويعتبر السلطان محمد الفاتح أثقف سلطان عثماني على وجه الإطلاق. فقد كان هذا السلطان يجيد، بالإضافة إلى اللغة التركية، اللغات العربية والفارسية (وله فيهما أشعار) والعبرانية ولغة الصرب. وقيل إنه تعلم اللغتين اليونانية واللاطينية أيضًا، وهو شاعر مجيد، اختار له في الشعر اسم عوني مخلصًا.
وكان السلطان بايزيد الثاني، ابن السلطان محمد الفاتح، شاعرًا وعالمًا. وكذلك كان أخوه السلطان (جم) شاعرًا مبدعًا له مكانة مرموقة في الأدب التركي. وأشعاره في غاية من الرصانة. . وكلها في الحزن. . فقد لاقى السلطان في حياته أنواعًا شتى من الهموم وألوانًا مختلفة من العذاب بما لا يتحمله الإنسان. . لقد دب دبيب الفساد بينه وبين أخيه على السلطنة فأغواهما الشيطان حتى تقاتلا، وقدر له ولجيشه أن ينهزم. ففر إلى أوربه، ووقع بيد البابا الذي وعده خيرًا، ولكنه لم يف. فلقي السلطان حتفه من كأس هيئت له وفيها سم مميت.
ووقائع هذا السلطان مشروحة في المصادر التاريخية بكل اهتمام. ولهذه الوقائع علاقة وطيدة بشعره، فهو يصف به آلامه ومصائبه بأسلوب عاطفي فياض يبعث في النفوس الألم، ويحدث في القلوب كلومًا لا تلتئم.
مميزات هذا الدور
ذكرنا أن هذا الدور كان قد امتاز بكثرة ما نظمه الشعراء من المثنوي ووفرة ما أنتجه رجال الفكر والأدب من الملاحم والقصص. ونضيف إلى ذلك بعض المميزات الأخرى. وأول ما يبدر إلى الذهن في هذا الخصوص هو ما نلحظه من الاهتمام الشديد بالأدب الشعبي والعناية البالغة به. وقد ظهر شعراء سلكوا مسلك الصوفي المعروف الشاعر الشعبي (يونس أمره)؛ منهم (سعيد أمره)؛ من منتسبي الطريقة البكتاشية. . و (تايغو سز آبدال) الذي عاش في دور السلطان مراد الثاني. . و (حاجي بايرام) مؤسس الطريقة البايرامية في الأناضول.
و (أشرف أوغلو) المتوفى سنة 1469م وغيرهم من الشعراء الذين كانوا متأثرين بأدب (يونس أمره) وبأسلوبه في الشعر.
وإن من أهم ما يختص به الأدب الشعبي في هذا الدور نشوء القصص الحديثة. وقد ظهرت هذه القصص تحت عنوان (حكايات دره قورقوت). وهي تعتبر كنزًا ثمينًا للأدب التركي، وقد كتبها أحد الشعراء بلغة تركية سليمة وبأسلوب ممتع جذاب، مصورًا الحياة الاجتماعية والأخلاقية عند الأتراك في العصور القديمة تصويرًا بديعًا؛ فيحدثنا فيها عن الحياة العائلية وعن العلاقة الزوجية، وعن موقف الأولاد من الأسرة، وكذلك يبحث لنا عن النواحي الثقافية والأدبية بصورة عامة.
ويمتاز هذا الدور من تاريخ الأدب التركي بنمو الأدب الجغتائي وتكامله. ولقد سبق أن رأينا أن الأدب التركي كان قد تفرع إلى فروع رئيسية ثلاثة: العثماني والآذري والجغتائي. وكلها آداب متشابهة من حيث الروح والجوهر، وإن كانت مختلفة في الشكل والمظهر. فنجد أنها جميعًا تنتظم تحت قواعد معينة وقيود متشابهة. فالأشعار في هذه الآداب التركية الثلاثة بأوزانها وأساليبها ومقاييسها ومفاهيمها متجانسة ومتشابهة إلى حد بعيد، وإنما الاختلاف كان في الألفاظ والحروف وفي قواعد اللغة وتنوع اللهجات في البلاد.
وامتاز الأدب الجغتائي في هذا الدور بنمو الوعي القومي بين شعرائه. وكانت فكرة القومية عندهم تستند على أسس علمية قوية وعلى مبادئ أخلاقية متينة. ويعد الشاعر (علي شير نوائي) من أعاظم الشعراء الذين قاموا بتمثيل الأدوار الرئيسية لتلك الحركة. فقد سجله في كتابه الموسوم: (محاكمة اللغتين) ألفه في المفاضلة بين اللغتين التركية والفارسية، وترجيح الأولى بعد مقارنة دقيقة على الثانية. فنراه يذكر في هذا الكتاب على سبيل المثال مئات الألفاظ التركية التي يندر العثور على مرادفاتها في اللغة الفارسية. . بل ويتعذر على الفارسي أن يعبر عن معاني تلك الألفاظ من دون أن يلجأ إلى استعمال عدة كلمات مقابل لفظة تركية واحدة. . ونراه بعد ذلك يخلص لنفسه برأي خاص وهو أن اللغة التركية أوسع مادة من الفارسية وأغزر منها موردًا.
وعلي شير نوائي عالم وأديب وشاعر قدير. نظم الشعر في اللغتين، وكان فيهما مبدعًا مجيدًا. ولقد ذهب البعض - على خلاف الأكثرية - إلى أن علي شير كان فارسيًا. ولنا فيه رأي نبديه في عدد قادم من الرسالة.
وبقدر ما كانت فكرة الميل إلى اللغة التركية ظاهرة بين الشعراء الجغتائيين في ذلك الدور، فإننا نتلمس آثار هذه الفكرة في كلام الآخرين من الشعراء بوضوح. وفي كتاب (غريبنامه) وقد أشرنا إليه في أعلاه، أشعار يستدل منها على أن صاحبها كان متحمسًا للأدب التركي واللغة التركية، حيث يبدي أسفه على وضع اللغة وحالة الترك بقوله:
تورك ديلنه كيمسنه باقماز أيدى
توركلره هركز كوكل آقماز أيدى.
الخ المنظومة.
بمعنى أنه لم يكن هناك من يهتم باللغة التركية ويبالي بها. ولم يكن كذلك من يعطف على الأتراك ويبدي لهم الحنان.
شيخي ونجاتي
وهما من مشاهير الشعراء الذين عاشوا في نهاية هذا الدور. ويعتبران بحق من مؤسسي الشعر العثماني في القرن الخامس عشر الميلادي. لا يعرف تاريخ ولادتهما على وجه التحقيق. وقيل إن الأول، واسمه الحقيقي سنان، توفي سنة 1429م، والثاني، واسمه عيسى، توفي سنة 1508م. وكان شيخي متصوفًا سلك طريقة (حاجي بايرام ولي) وله مثنو منظوم بعنوان (خسرو شيرين) وآخر يدعى (خرنامه) ويتضمن نصائح وإرشادات على لسان الحيوانات. وله ديوان حققه الأستاذ (علي نهاد) ونشره في سنة 1934 - 1936. كما وقام مؤتمر اللغة التركية بطبعة في سنة 1942. ولنجاتي ديوان يضم أشعاره كلها، وليس له أثر غيره. وقد اشتهر هذا الشاعر بعد إسلامه إذ كان نصرانيًا ووقع أسيرًا بيد الأتراك فأسلم واقترب من السلاطين وحظي كثيرًا عند بايزيد الثاني. وصاحب أحمد باشا وزير السلطان محمد الفاتح، وكان هذا الوزير من الشعراء البارزين.
وهناك غيرهم من الشعراء أمثال جمالي ونظامي وخليلي والشاعرة زينب خاتون والأديبة الفاضلة مهرى هانم، ممن عاشوا في القرن الخامس عشر الميلادي وتركوا آثارًا شعرية كثيرة.
أدب المولد
قلنا إن هذا الدور من الأدب التركي تميز بكثرة التآليف الدينية والمنظومات الأخلاقية، وقد أشرنا إلى البعض منها في هذا المقال. ولعل أهم حادث أدبي ظهر في نهاية هذا الدور هو ما استحدثه الشاعر الديني العظيم (سليمان جلبي) المتوفى سنة 1421م بتأليفه المنظومة المعروفة في مدح الرسول (ص) وسيرته المسماة بـ (مولد). وهي منظومة لها قيمتها الكبرى في الأدب التركي. لحنها أهل الفن وتغنوا بها زمنًا. ولا يزال الأتراك يتغنون بها في ذكرى المولد النبوي من كل عام، ويرددونها في إقامة المناقب النبوية في بعض الأوقات والمناسبات. وقد امتازت هذه المنظومة النفيسة بروعة النظم وطراوة الموضوع. ويعتبر أسلوبها مثالًا واضحًا للأسلوب السهل الممتع. وهي بهذا الاعتبار تعد بمثابة قصيدة البردة للبوصيري. وقد ألفها صاحبها في سنة 1409م إثر واقعة أثارت في نفسه الغيظ فأبدع في النظم؛ فجاء أثرًا رائعًا لا يضارعه فيه أحد. وقد قلده شعراء كثيرون لم يبلغ أحد شأوه حتى اليوم.
عطا الله ترزي باشي
-
للأستاذ عطا الله ترزي باشي
تحدثت إلى القراء في أعداد الرسالة السابقة عن تاريخ الأدب التركي في عصوره المختلفة منذ النشأة حتى أوائل العهد العثماني بصورة مجملة.
وأعود اليوم إلى مواصلة البحث بدراسة الأدب العثماني دراسة عاجلة؛ على أن أترك أمر التفصيل والتمحيص فيها للقراء يراجعون المصادر التي استقيت منها مواد هذا المقال.
وأود قبل الخوض في مواد البحث أن أشير إلى أن الأدب التركي في هذا العهد لم يكن أدبًا منحصرًا في المناطق التي شملها الحكم العثماني فقط، وإنما كان نطاقه ممتدًا إلى بلاد غير خاضعة للحكم العثماني، يقطنها الأتراك. فهناك الأدب الآذري، وهو فرع هام من فروع الأدب التركي المنتشر في أرجاء العجم وبلاد الأذربيجان. وقد نشأ بعد انقراض السلجوقيين وظهور المغول في تلك الأنحاء، ونما نموًا سريعًا حتى تغلغلت فروعه في الأدب العثماني، وعاش متأثرًا به ومؤثرًا فيه، محافظًا على صبغته الآذرية حتى اليوم. وقد آثرنا أن نتحدث - عند الكلام عن الأدب العثماني - عن هذا الأدب بإيجاز، وذلك وفق ما يتطلبه الحاجة ويهواه المقام.
وهناك بجانب الأدبين العثماني والآذري الجغتائي، وقد انتشر في مناطق (الخوارزم وآلتون أوردو). نبغ فيه أدباء مفكرون وشعراء معروفون؛ وقد انتقل إلينا كثير من الآثار التي ألفوها في مواضيع الدين والأخلاق والتصوف. ويعد (قطب) أول شاعر جغتائي نعرفه. له منظومة تركية قيمة بعنوان (خسووشيرين). وكذلك (خوارزمي) من شعراء الجغتائية المعروفين الذي اشتهر بكتابه المنظوم (محبتنامه) وغيره من الشعراء كثير، سواء عاشوا في بداية تأسس الحكم العثماني أو ظهروا في القرون التي تليها.
وهناك أدب المماليك، وظهر بين الأتراك الذين عاشوا في مصر زمنًا وأسسوا لهم إمارات صغيرة هناك. وتميز هؤلاء بنشاطهم الأدبي الفعال وقدرتهم العظيمة على تنظيم الحركة الفكرية في البلاد. نشأ منهم عدد لا يحصى من العلماء والشعراء، وقد تركوا آثارًا فكرية كثيرة ومؤلفات أدبية قيمة. ويعد الشاعر (سيف سرائي) أشهرهم، وهو الذي ترجم كتاب (كلستان) للشاعر الإيراني (سعدي) إلى التركية نظمًا.
وهكذا فإن نظرة عاجلة في الأدب التركي تطلعنا على أن هذا الأدب كان متفرعًا عند ظهور العثمانيين إلى عدة فروع هامة، منها العثماني والآذري والجغتائي والمملوكي. . . ولقد امتد أثر الأدبين الجغتائي والآذري قرونًا طويلة وذلك بامتداد الأدب العثماني، حتى فقد الأول منهما مميزاته الجوهرية الخاصة واندمج في غيره من الآداب (التركية). ولا يزال الأدب الآذري قائمًا بنفسه، محافظًا على مقوماته الأساسية حتى اليوم. أما الأدب العثماني، وهو موضوع دراستنا، فقد انقرض تدريجيًا بعد زوال الحكم العثماني وظهور الدولة التركية الحديثة، وغدا اليوم أدبًا تاريخيًا مقصورًا على بعض الأندية الأدبية ويمثله في الوقت الحاضر شعراء محصورون.
ولننتقل الآن إلى العهد العثماني، وقد رأينا أن نتبع في تقسيمه إلى الأدوار هذا الشكل:
(أولًا) صدور الدولة العثمانية (ثانيًا) دور الدواوين (ثالثًا) دور التنظيمات (رابعًا) دور ثروة الفنون.
صدور الدولة العثمانية:
ويبتدئ هذا الدور، حسب ما نراه، من وقت تأسس الدولة العثمانية (سنة 1300م - 699 هـ) حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. ويتميز الشعر في هذا الدور بنقاوة اللغة وسلاسة الألفاظ ورقة الأسلوب وقلة التكلف. فكان الشعراء يتجنبون غالبًا استعمال الكلمات الغريبة في أشعارهم وينفرون من التصنع والتلاعب بالألفاظ. ولذا فإن شعرهم يمثل باستثناء أشعار بعض المتأخرين من الشعراء أبدع ما نظمه الشعراء العثمانيون على الإطلاق.
وامتاز هذا الدور بشيوع (المثنوي) بين الشعراء شيوعًا هائلًا، إذ لا يخلو أثر من الآثار التي ألفها الشعراء في هذا الدور من شعر المثنوي.
والمثنوي لون من الشعر اشتهر به الفرس منذ القديم. فنظموا به الملاحم التاريخية الكبرى والقصص الخيالية الرائعة أمثال (الشاهنامه) للشاعر الفارسي العظيم (فردوسي). و (المثنوي) لمولانا جلال الدين الرومي. . وقصة (يوسف عليه السلام) وقصة (ليلى والمجنون) وغيرها كثير. . ويميز المثنوي عن غيره من الأشعار وجود القافية بين شطري كل بيت من أبيات المنظومة؛ ولا يشترط اتحاد الأبيات في القافية إذ يكفي أن يكون شطرا البيت مقفيين.
ولشعراء الأتراك آثار شعرية كثيرة جرت مجرى المثنوي. وقد امتاز شعراء هذا الدور بتعصبهم لنظم المثنوي. فلا نكاد نرى شاعرًا إلا وشغل نفسه بهذا النوع من الشعر.
وأول من اشتهر منهم في نظم المثنوي (مصطفى شيخ أوغلو) صاحب المثنوي المعروف (خورشيد نامه) ومترجم كتاب (كليلة ودمنة) إلى اللغة التركية. وقد عاش هذا الشاعر في عصر السلطان يلدبرم بايزيد. وكذلك الشاعر المشهور (عاشق باشا) (سنة 1272 - 1333) وقد اشتهر بمؤلفه (غريبنامه) في التصوف والأخلاق. وهو كتاب قيم يقع في اثني عشر ألف بيت من الشعر، في أوله مقدمة فارسية تتبعها قصائد تركية في نعت الإله ومدح الرسول ووصف المشاهير من المسلمين ثم يليها أبواب الكتاب العشرة، وكل باب مقسم إلى عشرة فصول تتضمن ملاحم شعرية مختلفة في وصف الجنة والجحيم والدنيا والآخرة والسماء والأرض والعناصر الأربعة في تكوين الحياة. . . الخ
ومن شعراء هذا الدور، (كلشهري) وقيل إنه عاش قبل (عاشق باشا) بمدة. له منظومة مترجمة من كتاب (منطق الطير) للشاعر الفارسي (عطار).
احمدي:
ويعد زعيم الشعراء في عصره. ولد سنة 1224م في مدينة (كوتاهيه) أو في مدينة (كرميان) من ولاية (بروسه) وذلك في سنة 735 هـ حسب ما ذكره طاشكبري زاده، كما وأن لطيفي صاحب تذكرة الشعراء ذكر أن مسقط رأسه هو مدينة سيواس حيث درس فيها العلوم وارتحل بعد ذلك إلى القاهرة، وكان يتردد هناك على مواطنيه حاجي باشا الذي اشتهر في الطب ومولانا محمد شمس الدين الفناري. وعند عودته إلى وطنه الأصلي التحق بخدمة أمير كرميان.
وأدرك احمدي غزوة تيمورلنك في البلاد العثمانية وحظي عند هذا الطاغية وأصبح نديمًا له. ويروي عنهما لطائف كثيرة، وقيل إنه لم يعجبه البقاء عند تيمورلنك فالتحق بخدمة الأمير سليمان من أبناء السلطان يلدبرم بايزيد، وظل يصاحبه حتى مات السلطان فعاد احمدي إلى أماسيه.
واحمدي شاعر مبدع، وأهم ما يمتاز به هو إدخاله المواضيع الدنيوية في الأدب التركي الغربي. ويعتبر كتابه (اسكندر نامه) أول مؤلف تركي قصصي بأسلوب الملاحم، فقد وصف فيه حروب الملك اسكندر المقدوني في (8250) بيتًا من الشعر ويتضمن هذا الكتاب آراء فلسفية طريفة وأبحاثًا في الطب قيمة. ولاحمدي ديوان نفيس ضم مجموعة من أشعاره في القصائد والغزل، وله منظومة بعنوان (جمشيد وخورشيد). وهي مثنو يحتوي خمسة آلاف بيت من الشعر. وقد عثر على هذا الكتاب قبل عشر سنوات وبضع سنين الأستاذ نهاد سامي وحققه مع كتاب آخر لاحمدي هو التاريخ العثماني فنشرهما في مجلد سنة 1939.
أدب السلاطين:
ويعد السلطان عثمان غازي مؤسس الدولة العثمانية أول من نظم الشعر بين السلاطين. له منظومات شعرية بديعة في الحماسة.
وهناك سلاطين كثيرة اشتغلوا في ساحة الأدب منهم السلطان بايزيد الثاني والسلطان مراد الثاني من شعراء هذا الدور، ويعد الأخير أول سلطان عثماني جمع أشعاره في ديوان خاص. ويعتبر السلطان محمد الفاتح أثقف سلطان عثماني على وجه الإطلاق. فقد كان هذا السلطان يجيد، بالإضافة إلى اللغة التركية، اللغات العربية والفارسية (وله فيهما أشعار) والعبرانية ولغة الصرب. وقيل إنه تعلم اللغتين اليونانية واللاطينية أيضًا، وهو شاعر مجيد، اختار له في الشعر اسم عوني مخلصًا.
وكان السلطان بايزيد الثاني، ابن السلطان محمد الفاتح، شاعرًا وعالمًا. وكذلك كان أخوه السلطان (جم) شاعرًا مبدعًا له مكانة مرموقة في الأدب التركي. وأشعاره في غاية من الرصانة. . وكلها في الحزن. . فقد لاقى السلطان في حياته أنواعًا شتى من الهموم وألوانًا مختلفة من العذاب بما لا يتحمله الإنسان. . لقد دب دبيب الفساد بينه وبين أخيه على السلطنة فأغواهما الشيطان حتى تقاتلا، وقدر له ولجيشه أن ينهزم. ففر إلى أوربه، ووقع بيد البابا الذي وعده خيرًا، ولكنه لم يف. فلقي السلطان حتفه من كأس هيئت له وفيها سم مميت.
ووقائع هذا السلطان مشروحة في المصادر التاريخية بكل اهتمام. ولهذه الوقائع علاقة وطيدة بشعره، فهو يصف به آلامه ومصائبه بأسلوب عاطفي فياض يبعث في النفوس الألم، ويحدث في القلوب كلومًا لا تلتئم.
مميزات هذا الدور
ذكرنا أن هذا الدور كان قد امتاز بكثرة ما نظمه الشعراء من المثنوي ووفرة ما أنتجه رجال الفكر والأدب من الملاحم والقصص. ونضيف إلى ذلك بعض المميزات الأخرى. وأول ما يبدر إلى الذهن في هذا الخصوص هو ما نلحظه من الاهتمام الشديد بالأدب الشعبي والعناية البالغة به. وقد ظهر شعراء سلكوا مسلك الصوفي المعروف الشاعر الشعبي (يونس أمره)؛ منهم (سعيد أمره)؛ من منتسبي الطريقة البكتاشية. . و (تايغو سز آبدال) الذي عاش في دور السلطان مراد الثاني. . و (حاجي بايرام) مؤسس الطريقة البايرامية في الأناضول. . . و (أشرف أوغلو) المتوفى سنة 1469م وغيرهم من الشعراء الذين كانوا متأثرين بأدب (يونس أمره) وبأسلوبه في الشعر.
وإن من أهم ما يختص به الأدب الشعبي في هذا الدور نشوء القصص الحديثة. وقد ظهرت هذه القصص تحت عنوان (حكايات دره قورقوت). وهي تعتبر كنزًا ثمينًا للأدب التركي، وقد كتبها أحد الشعراء بلغة تركية سليمة وبأسلوب ممتع جذاب، مصورًا الحياة الاجتماعية والأخلاقية عند الأتراك في العصور القديمة تصويرًا بديعًا؛ فيحدثنا فيها عن الحياة العائلية وعن العلاقة الزوجية، وعن موقف الأولاد من الأسرة، وكذلك يبحث لنا عن النواحي الثقافية والأدبية بصورة عامة.
ويمتاز هذا الدور من تاريخ الأدب التركي بنمو الأدب الجغتائي وتكامله. ولقد سبق أن رأينا أن الأدب التركي كان قد تفرع إلى فروع رئيسية ثلاثة: العثماني والآذري والجغتائي. وكلها آداب متشابهة من حيث الروح والجوهر، وإن كانت مختلفة في الشكل والمظهر. فنجد أنها جميعًا تنتظم تحت قواعد معينة وقيود متشابهة. فالأشعار في هذه الآداب التركية الثلاثة بأوزانها وأساليبها ومقاييسها ومفاهيمها متجانسة ومتشابهة إلى حد بعيد، وإنما الاختلاف كان في الألفاظ والحروف وفي قواعد اللغة وتنوع اللهجات في البلاد.
وامتاز الأدب الجغتائي في هذا الدور بنمو الوعي القومي بين شعرائه. وكانت فكرة القومية عندهم تستند على أسس علمية قوية وعلى مبادئ أخلاقية متينة. ويعد الشاعر (علي شير نوائي) من أعاظم الشعراء الذين قاموا بتمثيل الأدوار الرئيسية لتلك الحركة. فقد سجله في كتابه الموسوم: (محاكمة اللغتين) ألفه في المفاضلة بين اللغتين التركية والفارسية، وترجيح الأولى بعد مقارنة دقيقة على الثانية. فنراه يذكر في هذا الكتاب على سبيل المثال مئات الألفاظ التركية التي يندر العثور على مرادفاتها في اللغة الفارسية. . بل ويتعذر على الفارسي أن يعبر عن معاني تلك الألفاظ من دون أن يلجأ إلى استعمال عدة كلمات مقابل لفظة تركية واحدة. . ونراه بعد ذلك يخلص لنفسه برأي خاص وهو أن اللغة التركية أوسع مادة من الفارسية وأغزر منها موردًا.
وعلي شير نوائي عالم وأديب وشاعر قدير. نظم الشعر في اللغتين، وكان فيهما مبدعًا مجيدًا. ولقد ذهب البعض - على خلاف الأكثرية - إلى أن علي شير كان فارسيًا. ولنا فيه رأي نبديه في عدد قادم من الرسالة.
وبقدر ما كانت فكرة الميل إلى اللغة التركية ظاهرة بين الشعراء الجغتائيين في ذلك الدور، فإننا نتلمس آثار هذه الفكرة في كلام الآخرين من الشعراء بوضوح. وفي كتاب (غريبنامه) وقد أشرنا إليه في أعلاه، أشعار يستدل منها على أن صاحبها كان متحمسًا للأدب التركي واللغة التركية، حيث يبدي أسفه على وضع اللغة وحالة الترك بقوله:
تورك ديلنه كيمسنه باقماز أيدى
توركلره هركز كوكل آقماز أيدى. . . الخ المنظومة.
بمعنى أنه لم يكن هناك من يهتم باللغة التركية ويبالي بها. ولم يكن كذلك من يعطف على الأتراك ويبدي لهم الحنان.
شيخي ونجاتي
وهما من مشاهير الشعراء الذين عاشوا في نهاية هذا الدور. ويعتبران بحق من مؤسسي الشعر العثماني في القرن الخامس عشر الميلادي. لا يعرف تاريخ ولادتهما على وجه التحقيق. وقيل إن الأول، واسمه الحقيقي سنان، توفي سنة 1429م، والثاني، واسمه عيسى، توفي سنة 1508م. وكان شيخي متصوفًا سلك طريقة (حاجي بايرام ولي) وله مثنو منظوم بعنوان (خسرو شيرين) وآخر يدعى (خرنامه) ويتضمن نصائح وإرشادات على لسان الحيوانات. وله ديوان حققه الأستاذ (علي نهاد) ونشره في سنة 1934 - 1936. كما وقام مؤتمر اللغة التركية بطبعة في سنة 1942. ولنجاتي ديوان يضم أشعاره كلها، وليس له أثر غيره. وقد اشتهر هذا الشاعر بعد إسلامه إذ كان نصرانيًا ووقع أسيرًا بيد الأتراك فأسلم واقترب من السلاطين وحظي كثيرًا عند بايزيد الثاني. وصاحب أحمد باشا وزير السلطان محمد الفاتح، وكان هذا الوزير من الشعراء البارزين.
وهناك غيرهم من الشعراء أمثال جمالي ونظامي وخليلي والشاعرة زينب خاتون والأديبة الفاضلة مهرى هانم، ممن عاشوا في القرن الخامس عشر الميلادي وتركوا آثارًا شعرية كثيرة.
أدب المولد
قلنا إن هذا الدور من الأدب التركي تميز بكثرة التآليف الدينية والمنظومات الأخلاقية، وقد أشرنا إلى البعض منها في هذا المقال. ولعل أهم حادث أدبي ظهر في نهاية هذا الدور هو ما استحدثه الشاعر الديني العظيم (سليمان جلبي) المتوفى سنة 1421م بتأليفه المنظومة المعروفة في مدح الرسول (ص) وسيرته المسماة بـ (مولد). وهي منظومة لها قيمتها الكبرى في الأدب التركي. لحنها أهل الفن وتغنوا بها زمنًا. ولا يزال الأتراك يتغنون بها في ذكرى المولد النبوي من كل عام، ويرددونها في إقامة المناقب النبوية في بعض الأوقات والمناسبات. وقد امتازت هذه المنظومة النفيسة بروعة النظم وطراوة الموضوع. ويعتبر أسلوبها مثالًا واضحًا للأسلوب السهل الممتع. وهي بهذا الاعتبار تعد بمثابة قصيدة البردة للبوصيري. وقد ألفها صاحبها في سنة 1409م إثر واقعة أثارت في نفسه الغيظ فأبدع في النظم؛ فجاء أثرًا رائعًا لا يضارعه فيه أحد. وقد قلده شعراء كثيرون لم يبلغ أحد شأوه حتى اليوم.
عطا الله ترزي باشي
-