أرشيف المقالات

صورة من الحياة

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
هوى على الشاطئ للأستاذ كامل محمود حبيب - 1 - ما أتعس الطائر السجين إن انفلت يوماً من بين قضبان قفصه الضيق يبتغي الحرية والانطلاق! أنه سيحاول عبثاً أن يضرب الهواء بجناحيه ليستوي مطمئنا بين ثنايا الفضاء، لأنه - ولا ريب - سيجد في جناحيه الذبول وفي قوته الوهن وفي جلده الخور، فهو قد عاش عمره في سجن من حديد.
أو قفص من ذهب , ولم يبل الفضاء ولا عرك الحياة. أما صاحبي فلقد كان طائراً سجيناً أمسكته الحياة في أغلال من حنان أمه لا يحس إلا بنبضات قلبها الرقيق , وكبلته في قيود من عطف أبيه لا يستشعر إلا خفقات فؤاده الرحيم، وحبسته القرية في ظلمات من التقاليد العاتية تسدل على عينيه غشاوة تعميه عن أن يهتدي في مسارب الحياة ومسالكها، ومن ورائه أبوه يلقنه - فيما يلقن - مبادئ الدين الجافة.
.
الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفس الخنوع وينفث في الروح الخوف ويقيد الهمة بالاستسلام. ودفعه أبوه الشيخ إلى المدرسة، ووقف ينظر إليه وهو يدلف في البذلة والطربوش يتعثر في مشيته لا يكاد يتماسك.
وسرت النشوة في عروق الشيخ حين تراءى له هذا الصبي الضاوي من أعماق الخيال يوشك أن يصبح موظفاً في الحكومة.
.
موظفاً من ذوي المكانة والشأن، قد ذهب سمعه في الناس ودوى صيته في البلاد، له الأمر والنهي وعلى الناس الطاعة والخضوع؛ فأبتسم للأخيلة الجميلة. وأحي الصبي - منذ أول يوم - بالعبء الثقيل يفدحه، فهو هنا في المدينة يفتقر إلى العائل الرفيق الذي يربت على كتفه ويغمره بالحنان ويهيأ له حاجاته في عناية ويدلّله في حب , وهو قد نأى عن أترابه في الملعب ونزح عن رفاقه في الغيط، فافتقد اللهو والمرح، ليحس - أذى الوحدة وضيق النفس، وليجد مس عصا المدرس وهي غليظة قاسية.
وشعر بالأسى في أضعاف قلبه الغض - لأول مرة - يوحي إليه بأنه أمسى يتيماً ضائعا؛ فانطوى على نفسه ينشر أتراحه ويطويها، غير أنه لم يستسلم لخواطره السود إلا ريثما تنجاب عنه غمرات الوحشة التي اكتنفته منذ هبط المدينة. ورأى الصبي - بعد لأي - أن لا معدى له عم أن يلقي السلم لما أراد أبوه.
ولكنه كان يضطرب في ذعر وفرق كلما ذكر عصا المدرس وهي تفري جلده في قسوة وجفاء، وكلما ذكر كف الناظر الغليظة وهي تهوي على وجهه تصفعه في غير شفقة ولا رحمة.
والمدرس في تربية الطفل طريقة تبذر في التلميذ غراس الكذب والمكر، وتنفث فيه روح الملق والخداع؛ وللناظر وسيلة في حفظ نظام المدرسة توحي إلى الصبي بأنه لا يستطيع أن يتقي قسوة المدرسة إلا أن يفزع عنها ليقضي صدر النهار في منأى عن العلم ليتعلم فنون الشارع وفنون السيما معاً. وكان الصبي حديث عهد بالمدينة فما استطاع أن ينجرف في تيار الحضارة، وكان وحيداُ من الخلان فما استسلم لنزوات النفوس العابثة، وأراد أن يأمن كيد المدرس والناظر فعقد العزم على أمر، فراح يقضي وجه النهار في الفصل، يجلس في هدوء وصمت، لا تشغله نزعات الصبا ولا سفه الطيش ولا جهالة الحمق، وراح يقضي أول الليل في حجرته الصغيرة يستذكر درسه ويؤدي واجبه، عسى أن يرضى المدرس أو يستميل الناظر فما تلبث أن تصدر أترابه وبذ أقرانه وظفر - في غير جهد ولا عناء - بحب المدرس وتقدير الناظر واحترام الزملاء في وقت معا.
غير أنه ظل يرسف في أغلال ثقلال من الدين.
.
الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفس الخنوع وينفث في الروح الخوف ويقيد الهمة بالاستسلام. ومضت السنون تنفح في الصبي من روح الشباب، ومن ورائه أبوه الشيخ يثقنه - فيما يثقن - مبادئ الدين الجافة.
فبدت سمات الشباب الجياش على وجه الصبي وتألفت آثاره في عقله، ولكن قلبه ما زال يرهب الحياة ويفزع عن موكيها، فعاش في وحدته يضطرب بين الحياء والخجل فلا يجد ملجأ يعتصم به إلا الكتاب والدرس لطالما سولت له نفسه الشابة أمراً، ولكن أغلال الدين الثقال التي كبلته منذ شب عن الطوق كانت دائماً تمسكه عن أن يندفع وانطوت سنوات الدرس فإذا الشاب فتى يتأنق في زيه الإفرنجي وخواطره ما تزال هناك في الريف تعيش بين الحقول والدين.
وانكشفت أفكاره الفجة عن أمانيه من السذاجة والبله لم يهذبها الكتاب ولا شدبها الدرس.
.
أفانين من السذاجة والبله تغلغلت في نفسه لأنه عاش عمره في سجن من حديد.

أو قفص من ذهب لم يبل الفضاء ولا عرك الحياة وأراد الشاب أن يكون مدرساً فكان له ما أراد ونسى الشاب أن المدرس رجل حبته الحياة بصنوف من البلاء أيسرها الإرهاق في العمل والإملاق من المال، وأقلها أنه رجل مغموط الحق موزع النفس يحاسب حساباً عسيراً على عمل من لا يحسن العمل ولا يستشعر المسئولية.
أو لعله استمرأ الشظف واستعذب المتربة فأطمئن إليهما فأختار أن يعيش بينهما أبداً واختار له أبوه، فتزوج الفتى من فتاة ريفية من ذوي قرابته فيها الجمال والرقة وفيها الثراء والقناعة وفيها الطاعة والوفاء.
ووجدت الحكومة في الفتى اللين والانقياد فطوحت به في أنحاء البلاد تدفعه من قرية إلى قرية، وزوجته لا تحس العنت ولا الضيق، وهو صامت لا يجأر بالشكوى ولا يئن من ظلم.
وأنى له أن يفعل وهو لا يجد الوسيلة ولا يحسن الزلفى ولا يعتمد على كبير من ذوي المكانة والجاه، فقضى عمراً طويلاً من عمره تتقاذفه النوى وتتجاذبه القرى ورضيت نفس الفتى فأطمئن فأحس بالسعادة والنعيم وابتسمت له الحياة فنقلته الحكومة إلى القاهرة ليعيش في المدينة الزاخرة على حيد الطريق بين زوجته وأولاده، مثلما يعيش القروي في قريته، لا يندفع في غمار المدينة ولا يغتمر في صخب الحضارة ولا عجب فنوازعه الريفية ما تزال هناك تضطرب بين الحقل والدين. وفي القاهرة وجد الفتى رفاقاً في المدرسة ينزعونه من خلوته وهو يصبو إلى المتعة، وفي المقهى ألفى صحاباً يصرفونه عن الدار وهو يحن للحرية، وفي السيما أصاب أصدقاء يجذبونه عن الزوجة والولد وهو يهفو إلى اللذة.
وأوشك الفتى أن يتردى في هاوية ما لها من قرار، ولكن روح الدين كانت تضطرم في نفسه - بين الحين والحين - فتردعه عن الغي وترده إلى الدار والزوجة والولد، غير أن شياطين المدينة كانوا ينفذون - دائماً - إلى نفسه بأساليب شيطانية لا يسفل إليها عقله الديني الساذج، فيخضع لنزواتهم حيناً بعد حين. وتعاوره الدين ورفاق السوء فما يسكن إلى دينه وهو يجد فيه معاني السجن ولا يطمئن إلى رفاقه وهو يلمس في عبثهم معاني الزلة الكبرى.
والشباب المتأجج في قلبه يدفعه إلى غاية وهبت نسمات الصيف تلفح القاهرة بوقدة الهاجرة، وجلس الفتى إلى رفاقه يسمع الحديث وقد تفتق فنوناً يصف سفعات الحر ويضيق بأيامه وهي تتلهب كأن فيها لظى من الجحيم، والفتى لا يضرب في الحديث بسبب، فماله بحر القاهرة من عهد منذ زمان، فهو يقضي شهور الصيف - دائماً - في القرية.
وأجمع رأي المجلس كله - سوى صاحبنا - على أن يقضوا بعض أيام الصيف هناك في الإسكندرية على الشاطئ، عند الربيع الأزرق، يطلبون الجمام والراحة وينفضون عنهم عناء العمل وعناء التقاليد.
وضاق الجمع بالفتى الصامت فانبرى واحد منهم يحدثه ليرى رأيه، فقال الفتى (أما أنا فقد دأبت على أن أقضي شهور الصيف كلها في القرية) فقال واحد (وإذن فإنك لم تر الإسكندرية من قبل) فقال الفتى (لا، لم أفعل أبداً، ولم يدر بخلدي أن أفعل) فقال آخر (لا ضير، فهذه فرصة سانحة تستطيع أن تجد فيها متعة النفس وراحة الجسم وفرحة القلب) وتشقق الحديث، وانحط الجماعة على الفتى يزينون له الحياة في مرح الشاطئ وافتنوا في الحديث فلم تعجزهم الحيلة أن ينفذوا إلى قلب الفتى في سهولة ويسر، فالقى السلم لرغباتهم وهو يحدث نفسه: (لا ضير، فسأجد هناك الصحة والنشاط والمتعة) وبعد أيام أخذ الرفاق يتهيئون للسفر، وراح الفتى يعد نفسه للسفرة الحبيبة.
وانطلق الركب إلى الإسكندرية.
فماذا وجد صاحبي هناك.

وماذا رأى؟ كامل محمود حبيب

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن