للأستاذ علي العماري
- 5 -
على الرغم من وجود عدد غير قليل من الشعراء في السودان، فإن منزلة الشعر غير مرموقة، ورايته غير مرفوعة، وما زال كثير من الناس - حتى بعض المتعلمين - ينظرون إلى الشعر نظرهم إلى شيء ليس بذي بال، وقد كان الظن غير ذلك، فإن علماء السودان الأعلام قد احسنوا إحسانًا محمودًا حين نزلوا إلى ميدان الشعر، وهم أهل التقوى، وأهل الورع، فقالوه، وتناشدوه، ونشروه على الناس. وحسبنا أن نعلم أن من كبار العلماء أمثال الشيخ أبي القاسم، والشيخ الضرير، والشيخ البنا الكبير، قد قالوا شعرًا في النسيب، ومن هذا النسيب نسيب رقيق عذب، ربما كان يظن الجاهلون أنه مما لا يليق بمكانة العلماء. ولقد سرني أن رأيت عالمًا فاضلًا هو شيخ علماء السودان الأسبق الشيخ أبو القاسم هاشم يقول نسيبًا مستقلًا، على قلة استقلال هذا الغرض في شعر العلماء.
ولقد أحسن الأستاذ الفاضل سعد ميخائيل واضع كتاب شعراء السودان حين قال عن هذا العالم الجليل (ترى صورته وما عليه من برد الجلال والوقار فتظنه فقيهًا سيسمعك الشعر بروح الفقهاء، بينما هو يحمل بين جنبيه مع التقوى والنزاهة قلبًا رقيق الحاشية) نعم إن أكثر شعره في المدائح النبوية، ولكن تشبيبه لا يصدر إلا عن نفس ذات أريحية وهزة. والحق أن التزمت ليس من صفات العلماء الفاقهين لحقيقة العلم، وإنما هو حلة أنصاف العلماء. قال الأصمعي: أنشدت محمد بن عمران قاضي المدينة، وكان من أعقل من رأيت:
يأيها السائل عن منزلي ... نزلت في الخان على نفسي
يعدو على الخبز من خابز ... لا يقبل الرهن ولا ينسي
آكل من كيسي ومن كسرتي ... حتى لقد أوجعني ضرسي
فقال: أكتب لي هذه الأبيات، فقلت أصلحك الله، هذا لا يشبه مثلك، وإنما يروي مثل هذه الأحداث، فقال: أكتبها، فالأشراف تعجبهم الملح. هكذا.
الأشراف تعجبهم الملح، ومن تزمت ومن تزمت فإنما يتزمت على نفسه.
وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحدًا لا يشتهي النسيب؟ فقال: أما ممن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا.
وقيل لسعيد بن المسيب رضي الله عنه: إن قومًا من أهل العراق لا يرون إنشاد الشعر! فقال: لقد نسكوا أعجميًا! وأنا فقد أعجبني أن أرى في علماء السودان من يخرج عن الأغراض الجافة المتزمتة إلى أغراض أخرى مقبولة طيبة، قرأت للشيخ أبي القاسم قوله:
سلاها فهل قلبي سلاها وهل جرى ... حديث سواها في فمي ولساني
ألا إنني قد ضقت ذرعًا وشفني ... صدود الذي أحببته فجفاني
وقوله:
ما على عشاقها من حرج ... إن حب الحسن في الطبع كمين
وعدتني وصلها فازداد ما ... بي من الشوق إليها والحنين
إلى أشعار أخرى في وصف المحبوبة، والشوق إليها، والحديث عنها، والحنين إلى وصلها والتمتع بها.
وقديمًا مرت سكينة بنت الحسين على عروة بن أذينة - وكان على زهده وورعه وكثرة علمه وفهمه رقيق الغزل كثيره - فقالت له: أنت الذي تزعم أنك غير عاشق وأنت تقول:
قالت وأبثثتها وجدي فبحث به ... قد كنت عندي محب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطي هواك وما ألقى على بصري
والله ما خرج هذا من قلب سليم قط.
فليكن. أليس ابن قتيبة يقول، وهو يتحدث عن الشاعر العربي وابتدائه بالنسيب ليميل نحو القلوب، يعلل ذلك فيقول: لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد يخلو أحد من أن يكون متعلقًا منه بسبب، وضاربًا فيه بسهم حلال أو حرام).
ولكن، هل يمكن أن نعتبر النسيب فيشعر المدرسة القديمة التي نتحدث عنها، نسيبًا معبرًا عما في النفوس، حاكيًا عواطفها وأحوال الوجد والصبابة؟
وقد سبق أن أجبت عن مثل هذا السؤال، فقلت: إن هذا النسيب نسيب تقليدي أكثر منه معبرًا عن واقع الحياة، ذلك أن الشعراء في ذلك العصر حبسوا أنفسهم في الشعر القديم، وأطلوا على الحياة من نوافذه، فكانوا صورة منه لا من حياتهم، وقلدوه في الغرض والطريقة، وإن كان البون بعيدًا في الديباجة والمعاني. ونحن نضع بين يدي القارئ صورة للنسيب تكاد تكون عامة: ليس من البشر من تجافى الهوى قلبه، فإن الهوى كرم في الطبع، يمثله اللفظ الرقيق، والأخلاق الغر، وهو الحياة، والقلب من دونه بلقع من البلاقع لا ماء فيه ولا شجر، أو هو سرحة جرداء لا ظل ولا ثمر، وأما العاذل فهو غليظ القلب، جافي الطبع، والحبيب. . الحبيب كل المحاسن حارت في محاسنه، فما القمر، وما الكثيب، وما غصن البان؟
وهو مهفهف القد، ضامر الخصر، يكاد من ثقل الأرداف ينبتر، ريقه عذب، وثغره مؤثر، عابث بصبه، حانث في وعده، مسدود غدائره، يلج محاجره، دعج نواظره، في طبعه خفر، وهو يصبي الحليم، ويشفي السقيم، وهي الظبي جيدًا ومقلة، وخدها الورد، وعيناها السحر.
وهكذا يدور النسيب كله في هذه الدائرة، ولا يخرج عنها إلا القليل. ولكل شاعر حظ منها قل او كثر، وهذه أوصاف قد ألفناها كلها في الشعر القديم، ولئن كنا نقرأها هناك مسوقة في صور بديعة فيها الصنعة والروعة، فإنا نقرأها هنا - في الأعم الأغلب - ساذجة غفلا.
قلت إن النسيب تبتدأ به القصائد، وقل من الشعراء خرج عن هذا التقليد، وأكثر الشعراء من المشايخ وهؤلاء قل أن يقولوا قولًا غزلًا مستقلًا، ومن عجب أن أكثر تخلصهم إلى أغراضهم يكون بإنكار الحب. هذا شاعر يدعي الهوى، بل يقول إنه لا حياة له بدونه:
فتركتني ما أستفيق من الهوى ... ونصيبتي للعاشقين مثالا
وهذا الذي لا يستفيق من الهوى، والذي كان الغانيات أذنه، ويمتع بهن سمعه وبصره، هو الذي يقول:
أماطت لثامًا دونه الشمس زينب ... ولاح لنا منها بنان مخضب
وحيت فأحيتنا ومال بعطفنا ... حديث من الذي أحلى وأعذب
فأصبحت مشغوفًا وملت إلى الصبا ... على أن رأسي يا ابنة القوم أشيب
لعمرك ما هاجت غرامي خريدة ... ولا قادني نحو الغواية مطلب
ولكن وجدًا بالفضيلة هاجني ... فجاء بأبياتي هوى ونصيب
عشقت التي تدعى الفضيلة إنما ... يقال لها في مذهب الشعر (زينب)
نعم. وقد يقال لها ليلى، أو مهدد، أو دعد، أو هند، أو ما شاءوا من هذه الأسماء التي هي من الكتابات في مذهب الشعر، ولا وجود لها إلا في ثنايا السطور.
وقد يجيء الشاعر بما لا يصدقه الواقع، فيدلنا بذلك على أن للصناعة في هذا الشعر مكانًا.
نحن نعرف أن المرأة السودانية كهى في صعيد مصر، محجبة متمتعة، دون الوصول إليها أهوال وأهوال، ولكني مع إعجابي بهذه الأبيات وإحساسي بحرارة الحب فيها، أرى أن صاحبها نهج في غير نهجه، وسلك غير الطريق:
أستغفر الله لي شوق يجدده ... ذكر الصبا والمغاني أي تجديد
وتلك فضلة كأس ما دممت له ... طعمًا، على كبر برح وتأويد
أرنو لسالف أيام لهوت بها ... مع الأحبة حينًا مورقًا عودي
إن زرت حيًا أطافت بي ولائده ... يفدينني، فعل مودود بمودود
وكم برزن إلى لقياي في مرح ... وكم ثنين إلى نجواي من جيد
لو استطعن وهن السافحات دمي ... رشفتني رشف معسول العناقيد
يا دار لهوي على النأي اسلمي وعمى ... ويا لذاذة أيامي بهم عودي
ولهذا الشاعر المبدع الشيخ محمد سعيد العباسي غزل رقيق، بل كل شعره رائع، يقول:
يا بنت عشرين والأيام مقبلة ... ماذا تريدين من موءود خمسين
قد كان لي قبل هذا اليوم فيك هوى ... أطيعه، وحديث ذو أفانين
ولا مني فيك والأشجان زائدة ... قوم، وأحرى بهم ألا يلوموني
أزمان أمرح في برد الشباب على ... مسارح اللهو بين الخرد العين
والعود أخضر، والأيام مشرقة ... وحالة الأنس تغري بي وتغريني
أفديه فاتر ألحاظ وقل له ... أفديه، حين سعى نحوي يضربني
يقول لي وهو يحكي البرق مبتسمًا ... يا أنت، يا ذا، وعمدًا لا يسميني
أنشأت أسمعه الشكوى ويسمعني ... أدنيه من كبدي الحرى ويدنيني
وفي هذا الشعر تسجيل لتقليد عند إخواننا السودانيين، ذلك أن المرأة - مهما طال عهدها مع زوجها - فإنها لا تدعوه باسمه، فذلك حيث يقول (وعمدا لا يسميني). هذا ما أعرفه عن الزوجة، فهل تستحي العاشقة كذلك أن تدعو صاحبها باسمه؟ العلم عند الحب!!
ومن الشعراء من ينساق مع عاطفته، فيشبب تشبيبًا مكشوفًا ويذكر ما نال من المتع مع صاحبته ولكنه يتلفت حواليه فيضطر إلى أن يذر الرماد في العيون، فيؤكد أنه لم يأت ما يسخط المروءة والدين:
كلما استعذب الدعابة مني ... لج في عتبه ليعجم عودي
وإذا اهتاج من حرارة قبلا ... تي، أوما إلي بالتهديد
فإذا ما اندفعت ألثمه أس ... لم لي ثغره الشهي الورود
يتغاضى عن احتكامي في الخص ... ر، ويلتذ عند مس النهود
أليس هذا فعل امرأة صناع في الغزل؟ أليس هو حديث عاشق مدمن؟ ولكنه يسخر من القراء حين يقول:
لا تظنوا بي الظنون فإني ... يعلم الله واقف في حدودي
بخ! بخ! قد عرفنا ... ك فقف حيث شئت!
ولست في الواقع أقضي على الشعر السوداني بالتقليد في النسيب لأن الشعراء خلت قلوبهم من الحب، لا فإن لكل إنسان من الحب نصيبًا، كما يقول ابن قتيبة، وإن حب الحسن لكمين في الطباع كما يقول شيخ علمائهم، ولكن شتان بين إنسان يحب حبًا هادئًا رزينًا، لا يوحي بشعر، وبين إنسان يلذعه الحب، وتكوى الصبابة قلبه، فيعبر عن ذلك بشعر تحس وأنت تقرأه بأن فيه رائحة كبد تشوى على جمرة الهوى. وعند أكثر هؤلاء الشعراء لم يلق الحب في أشعارهم شيئًا من حرارة الجوى، أو رقة الوصال.
ومما يلفت النظر أنك لا تكاد تجد في هذه الأشعار وصفًا للغادة السودانية، فكل محبوباتهم يخجل البدر منهن، وقد سرق الورد حمرة خدودهن، وربما وجدنا لبعضهم لجة خفيفة. قرأت للشيخ إبراهيم أبو النور، وهو من علماء المعهد العلمي هذه الأبيات:
تخال الوجه منها بدر تم ... وتحسب ثغرها حب الغمام
وقد زادت ملاحتها بشرط ... على الخدين خطط بانتظام
محجبة فلم تبرز لشمس ... ولم تعرف محطات الترام
والذي استوقفني في هذا الشعر أمور، فإنه ذكر الشرط، وهو ما يصنع في أوجه السودانيات من علامات الجمال، ولكل قبيلة من القبائل أشراط معينة، بحيث يمكن معرفة القبيلة بمجرد النظر في الوجه، وهي عادة لا تزال موجودة في كثير من القبائل. وطريقة صنعها أن يؤتى بموسى، فتخط ثلاثة خطوط مستطيلة في كل خد من خدي الطفل، وهذه عامة. وبعض القبائل تضيف إليها شرطًا مستعرضًا أو شرطين، مستقيمًا أو مائلًا ويعتدون ذلك من علامات الجمال.
وقد حدثني الشيخ أبو النور هذا - وهو عالم واسع الاطلاع - أنه قرأ في تاريخ عبد القادر الجزائري أنه لما ذهب إلى مكة سئل عن هذه الأشراط، أهي موجودة عند العرب، فأجاب بالإيجاب، وذكر على ذلك شاهدًا قول شاعرهم:
رأيت لها شرطًا على الخد حوى ... جمالًا، وقد زاد الملاحة بالقرط
فقلت أريد اللثم قالت بخفية ... فقبلتها ألفًا على ذلك الشرط
ثم قال الشيخ: وتسمى هذه الشروط الشلوخ واللعوط، وهذه الأخيرة من لغة حمير، وأنشد على ذلك قول الشاعر:
وبي حبشية سلبت فؤادي ... فلم يمل الفؤاد إلى سواها
كأن لعوطها طرق ثلاث ... تسير به في النفوس إلى هواها
وعندي أن هذا الشعر أقرب إلى الصدق، من الشعر الذي يصف المحبوبة بأنها بدر السماء، أو زجاجة خمر:
أما الأمر الثاني الذي لفت نظري في شعر هذا الشيخ فقوله: ولم تعرف محطات الترام. وهل محطات الترام هنا كما هي في كثير من البلدان، ملتقى العشاق، ومكان لصيد الظباء الحرام.
وكدت أوقن بأن هذا شعر شاب عصري، لولا أن الشيخ دلني بباقي القصيدة على أنه من العلماء، وحسبك دليلًا على هذا قوله:
فمني بالزكاة على فقير ... ومسكين كثيب مستهام
ولم ينس الشعراء النؤى والأحجار والأطلال، لتتم صورة التقليد للشعر العربي، فهذا شاعر يعيش في عاصمة البلاد يقول:
أما وقد شطت بمهدد دارها ... ولقيت بعد فراقها الأهوالا
فتعال للأطلال نندب ماضيًا ... ولى وأيامًا مررن عجالا
(وبعد) فإني على أي حال معجب بهذا النسيب سواء كان صدى لنفس مكلومة، أو كان تقليدًا للشعر القديم؛ فإنه من حظ الشعر هنا أن يقيض هذا الغزل على ألسنة العلماء، وإنه لكسب للأدب وللشعر، وللتاريخ.
علي العماري
مبعوث الأزهر في المعهد العلمي بأم درمان
للأستاذ علي العماري
- 5 -
على الرغم من وجود عدد غير قليل من الشعراء في السودان، فإن منزلة الشعر غير مرموقة، ورايته غير مرفوعة، وما زال كثير من الناس - حتى بعض المتعلمين - ينظرون إلى الشعر نظرهم إلى شيء ليس بذي بال، وقد كان الظن غير ذلك، فإن علماء السودان الأعلام قد احسنوا إحسانًا محمودًا حين نزلوا إلى ميدان الشعر، وهم أهل التقوى، وأهل الورع، فقالوه، وتناشدوه، ونشروه على الناس. وحسبنا أن نعلم أن من كبار العلماء أمثال الشيخ أبي القاسم، والشيخ الضرير، والشيخ البنا الكبير، قد قالوا شعرًا في النسيب، ومن هذا النسيب نسيب رقيق عذب، ربما كان يظن الجاهلون أنه مما لا يليق بمكانة العلماء. ولقد سرني أن رأيت عالمًا فاضلًا هو شيخ علماء السودان الأسبق الشيخ أبو القاسم هاشم يقول نسيبًا مستقلًا، على قلة استقلال هذا الغرض في شعر العلماء.
ولقد أحسن الأستاذ الفاضل سعد ميخائيل واضع كتاب شعراء السودان حين قال عن هذا العالم الجليل (ترى صورته وما عليه من برد الجلال والوقار فتظنه فقيهًا سيسمعك الشعر بروح الفقهاء، بينما هو يحمل بين جنبيه مع التقوى والنزاهة قلبًا رقيق الحاشية) نعم إن أكثر شعره في المدائح النبوية، ولكن تشبيبه لا يصدر إلا عن نفس ذات أريحية وهزة. والحق أن التزمت ليس من صفات العلماء الفاقهين لحقيقة العلم، وإنما هو حلة أنصاف العلماء. قال الأصمعي: أنشدت محمد بن عمران قاضي المدينة، وكان من أعقل من رأيت:
يأيها السائل عن منزلي ... نزلت في الخان على نفسي
يعدو على الخبز من خابز ... لا يقبل الرهن ولا ينسي
آكل من كيسي ومن كسرتي ... حتى لقد أوجعني ضرسي
فقال: أكتب لي هذه الأبيات، فقلت أصلحك الله، هذا لا يشبه مثلك، وإنما يروي مثل هذه الأحداث، فقال: أكتبها، فالأشراف تعجبهم الملح. هكذا. . . الأشراف تعجبهم الملح، ومن تزمت ومن تزمت فإنما يتزمت على نفسه.
وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحدًا لا يشتهي النسيب؟ فقال: أما ممن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا.
وقيل لسعيد بن المسيب رضي الله عنه: إن قومًا من أهل العراق لا يرون إنشاد الشعر! فقال: لقد نسكوا أعجميًا! وأنا فقد أعجبني أن أرى في علماء السودان من يخرج عن الأغراض الجافة المتزمتة إلى أغراض أخرى مقبولة طيبة، قرأت للشيخ أبي القاسم قوله:
سلاها فهل قلبي سلاها وهل جرى ... حديث سواها في فمي ولساني
ألا إنني قد ضقت ذرعًا وشفني ... صدود الذي أحببته فجفاني
وقوله:
ما على عشاقها من حرج ... إن حب الحسن في الطبع كمين
وعدتني وصلها فازداد ما ... بي من الشوق إليها والحنين
إلى أشعار أخرى في وصف المحبوبة، والشوق إليها، والحديث عنها، والحنين إلى وصلها والتمتع بها.
وقديمًا مرت سكينة بنت الحسين على عروة بن أذينة - وكان على زهده وورعه وكثرة علمه وفهمه رقيق الغزل كثيره - فقالت له: أنت الذي تزعم أنك غير عاشق وأنت تقول:
قالت وأبثثتها وجدي فبحث به ... قد كنت عندي محب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطي هواك وما ألقى على بصري
والله ما خرج هذا من قلب سليم قط. . . فليكن. أليس ابن قتيبة يقول، وهو يتحدث عن الشاعر العربي وابتدائه بالنسيب ليميل نحو القلوب، يعلل ذلك فيقول: لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد يخلو أحد من أن يكون متعلقًا منه بسبب، وضاربًا فيه بسهم حلال أو حرام).
ولكن، هل يمكن أن نعتبر النسيب فيشعر المدرسة القديمة التي نتحدث عنها، نسيبًا معبرًا عما في النفوس، حاكيًا عواطفها وأحوال الوجد والصبابة؟
وقد سبق أن أجبت عن مثل هذا السؤال، فقلت: إن هذا النسيب نسيب تقليدي أكثر منه معبرًا عن واقع الحياة، ذلك أن الشعراء في ذلك العصر حبسوا أنفسهم في الشعر القديم، وأطلوا على الحياة من نوافذه، فكانوا صورة منه لا من حياتهم، وقلدوه في الغرض والطريقة، وإن كان البون بعيدًا في الديباجة والمعاني. ونحن نضع بين يدي القارئ صورة للنسيب تكاد تكون عامة: ليس من البشر من تجافى الهوى قلبه، فإن الهوى كرم في الطبع، يمثله اللفظ الرقيق، والأخلاق الغر، وهو الحياة، والقلب من دونه بلقع من البلاقع لا ماء فيه ولا شجر، أو هو سرحة جرداء لا ظل ولا ثمر، وأما العاذل فهو غليظ القلب، جافي الطبع، والحبيب. . الحبيب كل المحاسن حارت في محاسنه، فما القمر، وما الكثيب، وما غصن البان؟
وهو مهفهف القد، ضامر الخصر، يكاد من ثقل الأرداف ينبتر، ريقه عذب، وثغره مؤثر، عابث بصبه، حانث في وعده، مسدود غدائره، يلج محاجره، دعج نواظره، في طبعه خفر، وهو يصبي الحليم، ويشفي السقيم، وهي الظبي جيدًا ومقلة، وخدها الورد، وعيناها السحر.
وهكذا يدور النسيب كله في هذه الدائرة، ولا يخرج عنها إلا القليل. ولكل شاعر حظ منها قل او كثر، وهذه أوصاف قد ألفناها كلها في الشعر القديم، ولئن كنا نقرأها هناك مسوقة في صور بديعة فيها الصنعة والروعة، فإنا نقرأها هنا - في الأعم الأغلب - ساذجة غفلا.
قلت إن النسيب تبتدأ به القصائد، وقل من الشعراء خرج عن هذا التقليد، وأكثر الشعراء من المشايخ وهؤلاء قل أن يقولوا قولًا غزلًا مستقلًا، ومن عجب أن أكثر تخلصهم إلى أغراضهم يكون بإنكار الحب. هذا شاعر يدعي الهوى، بل يقول إنه لا حياة له بدونه:
فتركتني ما أستفيق من الهوى ... ونصيبتي للعاشقين مثالا
وهذا الذي لا يستفيق من الهوى، والذي كان الغانيات أذنه، ويمتع بهن سمعه وبصره، هو الذي يقول:
أماطت لثامًا دونه الشمس زينب ... ولاح لنا منها بنان مخضب
وحيت فأحيتنا ومال بعطفنا ... حديث من الذي أحلى وأعذب
فأصبحت مشغوفًا وملت إلى الصبا ... على أن رأسي يا ابنة القوم أشيب
لعمرك ما هاجت غرامي خريدة ... ولا قادني نحو الغواية مطلب
ولكن وجدًا بالفضيلة هاجني ... فجاء بأبياتي هوى ونصيب
عشقت التي تدعى الفضيلة إنما ... يقال لها في مذهب الشعر (زينب)
نعم. وقد يقال لها ليلى، أو مهدد، أو دعد، أو هند، أو ما شاءوا من هذه الأسماء التي هي من الكتابات في مذهب الشعر، ولا وجود لها إلا في ثنايا السطور.
وقد يجيء الشاعر بما لا يصدقه الواقع، فيدلنا بذلك على أن للصناعة في هذا الشعر مكانًا.
نحن نعرف أن المرأة السودانية كهى في صعيد مصر، محجبة متمتعة، دون الوصول إليها أهوال وأهوال، ولكني مع إعجابي بهذه الأبيات وإحساسي بحرارة الحب فيها، أرى أن صاحبها نهج في غير نهجه، وسلك غير الطريق:
أستغفر الله لي شوق يجدده ... ذكر الصبا والمغاني أي تجديد
وتلك فضلة كأس ما دممت له ... طعمًا، على كبر برح وتأويد
أرنو لسالف أيام لهوت بها ... مع الأحبة حينًا مورقًا عودي
إن زرت حيًا أطافت بي ولائده ... يفدينني، فعل مودود بمودود
وكم برزن إلى لقياي في مرح ... وكم ثنين إلى نجواي من جيد
لو استطعن وهن السافحات دمي ... رشفتني رشف معسول العناقيد
يا دار لهوي على النأي اسلمي وعمى ... ويا لذاذة أيامي بهم عودي
ولهذا الشاعر المبدع الشيخ محمد سعيد العباسي غزل رقيق، بل كل شعره رائع، يقول:
يا بنت عشرين والأيام مقبلة ... ماذا تريدين من موءود خمسين
قد كان لي قبل هذا اليوم فيك هوى ... أطيعه، وحديث ذو أفانين
ولا مني فيك والأشجان زائدة ... قوم، وأحرى بهم ألا يلوموني
أزمان أمرح في برد الشباب على ... مسارح اللهو بين الخرد العين
والعود أخضر، والأيام مشرقة ... وحالة الأنس تغري بي وتغريني
أفديه فاتر ألحاظ وقل له ... أفديه، حين سعى نحوي يضربني
يقول لي وهو يحكي البرق مبتسمًا ... يا أنت، يا ذا، وعمدًا لا يسميني
أنشأت أسمعه الشكوى ويسمعني ... أدنيه من كبدي الحرى ويدنيني
وفي هذا الشعر تسجيل لتقليد عند إخواننا السودانيين، ذلك أن المرأة - مهما طال عهدها مع زوجها - فإنها لا تدعوه باسمه، فذلك حيث يقول (وعمدا لا يسميني). هذا ما أعرفه عن الزوجة، فهل تستحي العاشقة كذلك أن تدعو صاحبها باسمه؟ العلم عند الحب!!
ومن الشعراء من ينساق مع عاطفته، فيشبب تشبيبًا مكشوفًا ويذكر ما نال من المتع مع صاحبته ولكنه يتلفت حواليه فيضطر إلى أن يذر الرماد في العيون، فيؤكد أنه لم يأت ما يسخط المروءة والدين:
كلما استعذب الدعابة مني ... لج في عتبه ليعجم عودي
وإذا اهتاج من حرارة قبلا ... تي، أوما إلي بالتهديد
فإذا ما اندفعت ألثمه أس ... لم لي ثغره الشهي الورود
يتغاضى عن احتكامي في الخص ... ر، ويلتذ عند مس النهود
أليس هذا فعل امرأة صناع في الغزل؟ أليس هو حديث عاشق مدمن؟ ولكنه يسخر من القراء حين يقول:
لا تظنوا بي الظنون فإني ... يعلم الله واقف في حدودي
بخ! بخ! قد عرفنا ... ك فقف حيث شئت!
ولست في الواقع أقضي على الشعر السوداني بالتقليد في النسيب لأن الشعراء خلت قلوبهم من الحب، لا فإن لكل إنسان من الحب نصيبًا، كما يقول ابن قتيبة، وإن حب الحسن لكمين في الطباع كما يقول شيخ علمائهم، ولكن شتان بين إنسان يحب حبًا هادئًا رزينًا، لا يوحي بشعر، وبين إنسان يلذعه الحب، وتكوى الصبابة قلبه، فيعبر عن ذلك بشعر تحس وأنت تقرأه بأن فيه رائحة كبد تشوى على جمرة الهوى. وعند أكثر هؤلاء الشعراء لم يلق الحب في أشعارهم شيئًا من حرارة الجوى، أو رقة الوصال.
ومما يلفت النظر أنك لا تكاد تجد في هذه الأشعار وصفًا للغادة السودانية، فكل محبوباتهم يخجل البدر منهن، وقد سرق الورد حمرة خدودهن، وربما وجدنا لبعضهم لجة خفيفة. قرأت للشيخ إبراهيم أبو النور، وهو من علماء المعهد العلمي هذه الأبيات:
تخال الوجه منها بدر تم ... وتحسب ثغرها حب الغمام
وقد زادت ملاحتها بشرط ... على الخدين خطط بانتظام
محجبة فلم تبرز لشمس ... ولم تعرف محطات الترام
والذي استوقفني في هذا الشعر أمور، فإنه ذكر الشرط، وهو ما يصنع في أوجه السودانيات من علامات الجمال، ولكل قبيلة من القبائل أشراط معينة، بحيث يمكن معرفة القبيلة بمجرد النظر في الوجه، وهي عادة لا تزال موجودة في كثير من القبائل. وطريقة صنعها أن يؤتى بموسى، فتخط ثلاثة خطوط مستطيلة في كل خد من خدي الطفل، وهذه عامة. وبعض القبائل تضيف إليها شرطًا مستعرضًا أو شرطين، مستقيمًا أو مائلًا ويعتدون ذلك من علامات الجمال.
وقد حدثني الشيخ أبو النور هذا - وهو عالم واسع الاطلاع - أنه قرأ في تاريخ عبد القادر الجزائري أنه لما ذهب إلى مكة سئل عن هذه الأشراط، أهي موجودة عند العرب، فأجاب بالإيجاب، وذكر على ذلك شاهدًا قول شاعرهم:
رأيت لها شرطًا على الخد حوى ... جمالًا، وقد زاد الملاحة بالقرط
فقلت أريد اللثم قالت بخفية ... فقبلتها ألفًا على ذلك الشرط
ثم قال الشيخ: وتسمى هذه الشروط الشلوخ واللعوط، وهذه الأخيرة من لغة حمير، وأنشد على ذلك قول الشاعر:
وبي حبشية سلبت فؤادي ... فلم يمل الفؤاد إلى سواها
كأن لعوطها طرق ثلاث ... تسير به في النفوس إلى هواها
وعندي أن هذا الشعر أقرب إلى الصدق، من الشعر الذي يصف المحبوبة بأنها بدر السماء، أو زجاجة خمر:
أما الأمر الثاني الذي لفت نظري في شعر هذا الشيخ فقوله: ولم تعرف محطات الترام. وهل محطات الترام هنا كما هي في كثير من البلدان، ملتقى العشاق، ومكان لصيد الظباء الحرام.
وكدت أوقن بأن هذا شعر شاب عصري، لولا أن الشيخ دلني بباقي القصيدة على أنه من العلماء، وحسبك دليلًا على هذا قوله:
فمني بالزكاة على فقير ... ومسكين كثيب مستهام
ولم ينس الشعراء النؤى والأحجار والأطلال، لتتم صورة التقليد للشعر العربي، فهذا شاعر يعيش في عاصمة البلاد يقول:
أما وقد شطت بمهدد دارها ... ولقيت بعد فراقها الأهوالا
فتعال للأطلال نندب ماضيًا ... ولى وأيامًا مررن عجالا
(وبعد) فإني على أي حال معجب بهذا النسيب سواء كان صدى لنفس مكلومة، أو كان تقليدًا للشعر القديم؛ فإنه من حظ الشعر هنا أن يقيض هذا الغزل على ألسنة العلماء، وإنه لكسب للأدب وللشعر، وللتاريخ.
علي العماري
مبعوث الأزهر في المعهد العلمي بأم درمان