دفاع عن الأدب
للأستاذ علي الطنطاوي
لقد كانت معركة (عين جالوت) مثلا، أجل خطرًا، وأعظم أثرًا، وأبرك على الحضارة، وأجدى على الإنسانية، من موقعة (الحدث)، ولكنها لم تجد الشاعر المارد الجبار الذي ينهض بها، ويرفعها بيمينه يلوح بها في طريق التاريخ، ليراها الناس أبدًا، أمة بعد أمة، وجيل عقب جيل، كما صنع المتنبي بموقعة (الحدث) حين فتح لها في الشعر فتحًا ولا فتح سيف الدولة في بلاد الروم، وبنى لها في البلاغة صرحًا ولا ما بناه الحمداني (فأعلى والقنا يقرع القنا، وموج المنايا حوله متلاطم)، بنى هذا البيت وإنه لقلعة باقية، على حين قد خرب الدهر تلك القلعة، فكان من معجزات الشعر (وإن في الشعر لإعجازا) أن خلدت هذه الموقعة، وحلت وملأت الأسماع والأفواه والقلوب، ونسيت مواقع أعظم منها، ولولا قصيدة ابن الحسين ما عرفت طريق الخلود.
ولقد كان فتح عمورية عظيمًا في الفتوح، ولكن فتح حبيب في بائيته أعظم منه. ومن قبل خلدت بلاغة هوميروس بطولة القوم في طروادة، ولولاه لضاعت في ظلام ما قبل التاريخ. وإني لأكرم القراء أن أسيء بهم ظني فأرى بهم حاجة إلى سرد الأمثلة، وإقامة البينات، على أمر ما بهم جهله ولا نكرانه، فلولا الأدب ما خلدت المكرمات، ولا ذكرت البطولات. ورب قصيدة تجيش بها نفس شاعر منكر مجهول، قد شغل الناس عنه سناء الأمير ورواه، أبقى على الدهر من هذا السناء وهذا الرواء. وربما جاء زمان نسى الناس فيه الأمير نفسه، فغاص في هذا النهر البشري الذي يجري أبدًا من المهد إلى اللحد، يولد أهله ويعيشون ويموتون ولا يدري بهم أحد ولا يذكرهم إنسان - ولم يمسسه من الخلود إلا النفحة التي ينفحه بها الشاعر.
هذا حق لا يجهله أحد إلا ذوي السلطان منا، وكانوا هم أولى بمعرفته والاستفادة منه، والأحداث تدعوهم إلى ذلك ولكنهم لا يجيبون. وهاهو ذا حادث الشام القريب، أحبوا أن يدونوا تاريخه، ويعرفوا صوره، ويعرفوا به البعيد النائي، ويذكروا به القريب الرائي، فأجمعوا أمرهم على إخراج (الكتاب الأسود) في وصف هذا الحادث، وسموا له رجالا، طيبين ممتازين، غير أنهم ليسوا من ذوي الاقلام، ولا من الأدباء، وإن في دمشق (لو كانوا يعلمون) أقلاما حدادًا، إذا أنتضتها الحكومة قطت بها وقدت وفرت، فإلام تدخر هذه الأقلام، إن لم تستل في هذا اليوم الأسود؟ ومن يعرض على الدنيا كلها حديث (الحادث) إذا أهملت هذه الأقلام، ونسيت وتركت تصدأ في أغمادها؟ أيعرضه صحفي بمقالة تعيش ما عاش (العدد) الذي تنشر فيه، أم موظف بتقرير أسلوبه لعنة للبلاغة في عليائها؟
ثم استلمنا الجيش وعرضه رئيسنا فكان يومًا أغر محجلًا في عمر الشام، فمن يمسك هذا اليوم إلا يهوى في وادي النسيان؟ من يحفظ له جلاله وجماله وعظمته غير الأدباء؟ فما لأولي الأمر دعوا له كل قاص ودان إلا أهل الأدب الحق؟ أهل البلاغة، ما دعوهم ولا سألوا عن مكانهم ولا ذكروهم، ولو دعوا أديبًا لصنع لهم بمقالة واحدة شيئًا يبقى إذا ذهب كل هذا الذي أعدوه.
وفي كل يوم تنبت أقلام غضه فلا يتعهدها أحد بسقي ولا رعاية فتجف وتموت. وتحطم عواصف الأيام وأرزاؤها أقلاما متينة كأشجار السنديان طالما أظلت وبسقت فلا يبكي عليها أحد. وتزهر أقلام ثم تؤتي أكلها ثمرًا ناضجًا حلوًا نافعًا فلا يستبشر بها أحد، ويقولون بعد ذلك لماذا لا ينتج الأدباء؟ لماذا لأي خلدون أيام الوطن. يا ويحكم! إننا والله لا نعرف أيام الوطن إلا على السماع، والفضل لنا إذا استطعنا أن نكتب عنها سطرًا واحدًا.
قال لي أديب أعرفه بليغًا مبينًا له قلم ماضي السنان:
(لقد أردت أن أدخل القلعة غداة يوم الحادث، وأن أجول خلال الحرائق، وألج البرلمان، فمنعني جنود لا يعرفونني ولا يفهمون عني بلساني، ولو تركت ألج ورأيت بعيني ما أصفه الآن على السماع لكتبت لكم شيئًا يبكي المحب ليلة الوصال، والعروس ليلة الزفاف، ويرقق قلب الموتور ساعة الانتقام. ولو أشهدت هذا العرض لكتبت لكم قصيدة مجد تكون للأعصاب نارًا تشعلها حماسة، وللقلوب خمرًا تميلها طربًا، ولهذا الجيش جيشًا آخر. ولو أحضرت حفلة رفع العلم على الثكنة الحميدية لكتبت غير ما كان نشر في الرسالة، لان الذي يتخيل ويكتب بارد الدم هادئ الأعصاب، غير الذي تمشي الكهرباء في أعصابه فتهزها هزًا، فيمسك قلمه ويدع روحه تملي عليه.
ولست - علم الله - أريد مالا من أولي الأمر أو عطاء، ولا أبتغي من بمجالستهم شرفًا، فعندي من المال ما يسد حاجتي، ومن الشرف ما يكفيني، وإنما آسف على قوة في، وفي أمثالي من حملة الأقلام، تذهب هدرًا، وتضمحل، والوطن يحتاج إليها، وهي تستطيع أن تكسبه مجدًا لا ينال بغيرها).
انتهى كلامه.
فيا أيها الحاكمون! اذكروا أنكم تحتاجون إلى الأدباء ليكسبوكم الخلود، وليفيضوا على أمجادكم الحياة، أما هم فلا يحتاجون إليكم، لأنهم يستطيعون أن يخلقوا بأدبهم ملوكا وأبطالا، وينشئوا عالمًا، ويقيموا لأنفسهم وللناس دنيا، إن تكن من الوهم، فرب وهم فعل في نفس صاحبه من الحقيقة، وأثبت من الواقع. ورب شخص (روائي) خرج من خيال أديب، أحيا حياة، وأظهر وجودًا من أشخاص اللحم والدم، أسمعتم بعطيل ودون جوان وآرباجون؟
وبعد فهذا دفاع عن الأدب، لا عن الأدباء، فاقبلوه أو لا تقبلوه، إنما علينا أن نقول، وقد قلنا.
علي الطنطاوي
دفاع عن الأدب
للأستاذ علي الطنطاوي
لقد كانت معركة (عين جالوت) مثلا، أجل خطرًا، وأعظم أثرًا، وأبرك على الحضارة، وأجدى على الإنسانية، من موقعة (الحدث)، ولكنها لم تجد الشاعر المارد الجبار الذي ينهض بها، ويرفعها بيمينه يلوح بها في طريق التاريخ، ليراها الناس أبدًا، أمة بعد أمة، وجيل عقب جيل، كما صنع المتنبي بموقعة (الحدث) حين فتح لها في الشعر فتحًا ولا فتح سيف الدولة في بلاد الروم، وبنى لها في البلاغة صرحًا ولا ما بناه الحمداني (فأعلى والقنا يقرع القنا، وموج المنايا حوله متلاطم)، بنى هذا البيت وإنه لقلعة باقية، على حين قد خرب الدهر تلك القلعة، فكان من معجزات الشعر (وإن في الشعر لإعجازا) أن خلدت هذه الموقعة، وحلت وملأت الأسماع والأفواه والقلوب، ونسيت مواقع أعظم منها، ولولا قصيدة ابن الحسين ما عرفت طريق الخلود.
ولقد كان فتح عمورية عظيمًا في الفتوح، ولكن فتح حبيب في بائيته أعظم منه. ومن قبل خلدت بلاغة هوميروس بطولة القوم في طروادة، ولولاه لضاعت في ظلام ما قبل التاريخ. وإني لأكرم القراء أن أسيء بهم ظني فأرى بهم حاجة إلى سرد الأمثلة، وإقامة البينات، على أمر ما بهم جهله ولا نكرانه، فلولا الأدب ما خلدت المكرمات، ولا ذكرت البطولات. ورب قصيدة تجيش بها نفس شاعر منكر مجهول، قد شغل الناس عنه سناء الأمير ورواه، أبقى على الدهر من هذا السناء وهذا الرواء. وربما جاء زمان نسى الناس فيه الأمير نفسه، فغاص في هذا النهر البشري الذي يجري أبدًا من المهد إلى اللحد، يولد أهله ويعيشون ويموتون ولا يدري بهم أحد ولا يذكرهم إنسان - ولم يمسسه من الخلود إلا النفحة التي ينفحه بها الشاعر.
هذا حق لا يجهله أحد إلا ذوي السلطان منا، وكانوا هم أولى بمعرفته والاستفادة منه، والأحداث تدعوهم إلى ذلك ولكنهم لا يجيبون. وهاهو ذا حادث الشام القريب، أحبوا أن يدونوا تاريخه، ويعرفوا صوره، ويعرفوا به البعيد النائي، ويذكروا به القريب الرائي، فأجمعوا أمرهم على إخراج (الكتاب الأسود) في وصف هذا الحادث، وسموا له رجالا، طيبين ممتازين، غير أنهم ليسوا من ذوي الاقلام، ولا من الأدباء، وإن في دمشق (لو كانوا يعلمون) أقلاما حدادًا، إذا أنتضتها الحكومة قطت بها وقدت وفرت، فإلام تدخر هذه الأقلام، إن لم تستل في هذا اليوم الأسود؟ ومن يعرض على الدنيا كلها حديث (الحادث) إذا أهملت هذه الأقلام، ونسيت وتركت تصدأ في أغمادها؟ أيعرضه صحفي بمقالة تعيش ما عاش (العدد) الذي تنشر فيه، أم موظف بتقرير أسلوبه لعنة للبلاغة في عليائها؟
ثم استلمنا الجيش وعرضه رئيسنا فكان يومًا أغر محجلًا في عمر الشام، فمن يمسك هذا اليوم إلا يهوى في وادي النسيان؟ من يحفظ له جلاله وجماله وعظمته غير الأدباء؟ فما لأولي الأمر دعوا له كل قاص ودان إلا أهل الأدب الحق؟ أهل البلاغة، ما دعوهم ولا سألوا عن مكانهم ولا ذكروهم، ولو دعوا أديبًا لصنع لهم بمقالة واحدة شيئًا يبقى إذا ذهب كل هذا الذي أعدوه.
وفي كل يوم تنبت أقلام غضه فلا يتعهدها أحد بسقي ولا رعاية فتجف وتموت. وتحطم عواصف الأيام وأرزاؤها أقلاما متينة كأشجار السنديان طالما أظلت وبسقت فلا يبكي عليها أحد. وتزهر أقلام ثم تؤتي أكلها ثمرًا ناضجًا حلوًا نافعًا فلا يستبشر بها أحد، ويقولون بعد ذلك لماذا لا ينتج الأدباء؟ لماذا لأي خلدون أيام الوطن. يا ويحكم! إننا والله لا نعرف أيام الوطن إلا على السماع، والفضل لنا إذا استطعنا أن نكتب عنها سطرًا واحدًا.
قال لي أديب أعرفه بليغًا مبينًا له قلم ماضي السنان:
(لقد أردت أن أدخل القلعة غداة يوم الحادث، وأن أجول خلال الحرائق، وألج البرلمان، فمنعني جنود لا يعرفونني ولا يفهمون عني بلساني، ولو تركت ألج ورأيت بعيني ما أصفه الآن على السماع لكتبت لكم شيئًا يبكي المحب ليلة الوصال، والعروس ليلة الزفاف، ويرقق قلب الموتور ساعة الانتقام. ولو أشهدت هذا العرض لكتبت لكم قصيدة مجد تكون للأعصاب نارًا تشعلها حماسة، وللقلوب خمرًا تميلها طربًا، ولهذا الجيش جيشًا آخر. ولو أحضرت حفلة رفع العلم على الثكنة الحميدية لكتبت غير ما كان نشر في الرسالة، لان الذي يتخيل ويكتب بارد الدم هادئ الأعصاب، غير الذي تمشي الكهرباء في أعصابه فتهزها هزًا، فيمسك قلمه ويدع روحه تملي عليه.
ولست - علم الله - أريد مالا من أولي الأمر أو عطاء، ولا أبتغي من بمجالستهم شرفًا، فعندي من المال ما يسد حاجتي، ومن الشرف ما يكفيني، وإنما آسف على قوة في، وفي أمثالي من حملة الأقلام، تذهب هدرًا، وتضمحل، والوطن يحتاج إليها، وهي تستطيع أن تكسبه مجدًا لا ينال بغيرها). . . انتهى كلامه.
فيا أيها الحاكمون! اذكروا أنكم تحتاجون إلى الأدباء ليكسبوكم الخلود، وليفيضوا على أمجادكم الحياة، أما هم فلا يحتاجون إليكم، لأنهم يستطيعون أن يخلقوا بأدبهم ملوكا وأبطالا، وينشئوا عالمًا، ويقيموا لأنفسهم وللناس دنيا، إن تكن من الوهم، فرب وهم فعل في نفس صاحبه من الحقيقة، وأثبت من الواقع. ورب شخص (روائي) خرج من خيال أديب، أحيا حياة، وأظهر وجودًا من أشخاص اللحم والدم، أسمعتم بعطيل ودون جوان وآرباجون؟
وبعد فهذا دفاع عن الأدب، لا عن الأدباء، فاقبلوه أو لا تقبلوه، إنما علينا أن نقول، وقد قلنا.
علي الطنطاوي