أرشيف المقالات

دعوة محمد

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
8 ُحمّد لتوماس كارليل للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ الإخلاص والصدق في دعوة مُحمّد إن البغض والحسد والحقد والموجدة طبيعة من طبائع البشر، وخاصة إذا غزاها التعصب الأعمى، فإذا قام إنسان ما بعمل جليل، عمت فائدته على بعض الناس وشملت من حوله، كثر حساده وشانئوه، فنراهم يهبون والحقد يملأ نفوسهم والبغض يكاد يمزق صدورهم، محاولين الانتقاص من قدر عمل هذا العظيم، هذا بالنسبة لمن يقوم بعمل نافع في حدود بيئته، فما بالك برجل، كمحمد جاء بما فيه خير البشرية جمعاء وصلاح الكون كله، وقد بلغ من المرتبة والرفعة في نفوس مئات الملايين من الناس ما لم يبلغه أي إنسان مهما كانت أعماله.
فليس عجباً أن نرى الكثيرين ممن أعمالهم التعصب وملأهم الحقد، يحاولون النيل من محمد ومما جاء به، ولو عقلوا لأراحوا أنفسهم وأراحوا غيرهم من جعجعتهم وصخبهم، لأنهم كالرجل الذي ينطح الصخرة محاولا تحطيمها فإنه سيرتد وقد أدميت قرونه. فالمتعصبون من النصارى والملحدون.
يسيئهم أن يعرف الناس حقيقة دعوة محمد.
فيذيعون أن محمداً لم يكن يبغي من قيامه بهذه الدعوة إلا الشهرة والمنفعة الشخصية والمفاخرة بالجاه والسلطان وإشباع نزعة حب السيطرة الذي يملأ نفسه، وقد وغلوا في عرض هذا الرجل ودعوته بما لا يصدقه عقل، ويستحي أحط الناس قدراً أن يذكروه على ألسنتهم.
وهم يعلمون أنهم كاذبون مدعون. إن محمداً لم يكن يريد مفاخر الجاه والسلطان والشهرة والسيطرة، كلا وايم الله، فلقد كان في قلب ذلك الرجل العظيم ذي النفس الممتلئة خيراً ورحمة وبراً وحناناً، ذي العقل المتميز بالحكمة والإربة والنهى والحجى، أفكار أسمى من الطمع الدنيوي الذي يستوي بنو البشر الآخرين في الدرجة سعياً له، ونوايا أشرف من السعي في طلب السلطة والجاه.
، لم يفكر يوماً أن يكون كما يتمنى كل إنسان، ولو أنه أراد الملك لناله، ولو سعى وراء المال لملأ منه خزائن كثيرة، ولو ابتغى السيادة لكان ما أسهلها عليه، ولو أراد أن يجمع بين كل هؤلاء جميعاً لما استعصى عليه الأمر.
ولكن كيف يكون ذلك وهو ذو النفس الكبيرة التي كل همها إسعاد البشرية وإنقاذها مما هي فيه، إننا لا يمكن أن نتهمه بعدم الإخلاص لدعوته، لأنه من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين فيما يعملون، ولولا ذلك لما نجحت دعوته، لأن الإخلاص هو أساس كل نجاح.
فبينما نرى الآخرين الذين يبتغون عرض الحياة الدنيا يرضون بالإصلاحات الكاذبة ويسيرون خلف الاعتبارات الباطلة، ترى محمداً يأبى أن يستعين بمألوف الأكاذيب ويتوشح بما كان متبعاً في زمن من الخرافات والأباطيل، فقد كان منفرداً بنفسه العظيمة مقتنعاً بحائق الأمور، متفكراً في أسرار الكائنات، بل كان سر الوجود يسطع لعينه - كما قلت - بمخاوفه وأهوائه ومباهجه وزخارفه، فلم يستطيع شيء من الأباطيل أن يحجب عنه كل ذلك، وكأني بلسان ذلك السر الهائل يناجيه في خلوته (ها أنذا) إن هذا الإخلاص في الدعوة والتفاني في القيام بها لا يخلو من معنى إلهي مقدس، وما كلمات محمد التي كان ينطق بها، إلا صوت خارج من صميم قلب الطبيعة وصميم الواقع، كان إذا تكلم فكل الآذان برغمها صاغية، وكل القلوب خاشعة واعية، وكل كلام بعد ذلك غير كلامه هباء، وكل قول سوى قوله جفاء. لقد ظل منذ أيام أسفاره ورحلاته إلى بلاد الشام، تجول بخاطره آلاف من الأفكار التي لا يمكن أن تأتي إلا لكل ذي عقل راجح ونظر ثاقب.
من أنا؟ وماذا أكون؟ ما هي الحياة وما قيمتها؟ وما هو الموت وماذا سيكون بعده، وماذا أعتقد وماذا أفعل؟ وما هو أعبد ما يعبد هؤلاء القوم من أصنام وأوثان لا تنفع ولا تضر؟.
كل هذه الأسلة والخواطر كانت تجول بفكرة في خلوته، فهل أجابته عنها صخور جبل حراء أو ما يحيط به من الفلوات والقفار، أو ما كان يمر به من شماريخ طود الطور.
كلا لم يجبه شيء من ذلك حتى ولا قبة الفلك الدوار، أو تعاقب الليل والنهار، ولا النجوم الزاهرة، ولا الكواكب الظاهرة، ولا الأنواء الماطرة.
لم يتلق جواباً من كل هذه الأشياء ولا من واحد منها.
ولكن سرعان ما جاءه الجواب شافياً مبيناً منقذاً له من حيرته واضطرابه، في خطاب الله العلي القدير لنبيه موسى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى، إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى.
فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فترى)
.
إنه جواب لا لبس فيه ولا غموض، وإنه السر الذي أروعه الله روح محمد، فنزل برداً وسلاماً على روحه. والذي يجب على كل إنسان أن يسأل نفسه عنه ما كان يجول بخاطر محمد، وما أحسه في نفسه ذلك الرجل القفري.
إن هذه هي المسألة الكبرى والأمر الأهم - الذي يجب على كل إنسان أن يضعه في الرتبة الأولى من تفكيره إذ أن كل شيء بجانبها عديم الأهمية. إن هذه المسألة لو بحثنا عنها في فرق اليونان الجدلية أو نقبنا عنها في روايات اليهود المبهمة أو فتشنا عنها في نظام وثنية العرب الفاسدة فإننا لن نجد لها جواباً شافياً.
وأما فيما جاء به محمد فإن الجواب يطالعنا في كل مكان سواء في القرآن أو في أقوال محمد نفسه الذي لا ينطق عن الهوى، وهذا دليل على أهميتها وخطرها. لقد سبق لي أن قلت إن أهم ما يميز الباطل وأولى خصائصه، هي نظره خلال ظواهر الأمور إلى بواطنها، وأنه يقيس الباطن على الظاهر.
أما الاعتبارات والإصلاحات والعادات والاستعمالات فإنه لا ينظر إليها سواء أكانت جيدة أم رديئة، حقة كانت أم باطلة.
لقد كان محمد ينظر إلى الأوثان التي يعبدها قومه ويقول في نفسه: إن هذه المعبودات لا بد أن يكون وراءها شيء.
وما هي إلا رمز وإشارة لمعبود أعظم، ولكن القوم ضلوا السبيل إليه وإلا كانت زوراً وباطلاً وقطعاً من الخشب لا تضر ولا تنفع، وهذا أكبر شاهد على إخلاص محمد لقومه فهو يريد أن ينقذهم مما هم فيه من ظلمة واضطراب، ولكنهم لجوا في بادئ أمرهم وعتوا عتوا كبيراً. لو كان محمد يريد الجاه والسلطان لما استطاع أن ينقذ هؤلاء العرب الجفاة ولا قدر على تحطيم معبوداتهم.
لقد اتهموه بأبشع التهم ولصقوا به أحط الصفات.
فقالوا إنه ساحر كذاب (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا ساحر كذاب.
أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا الشيء عجاب.
وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد.
ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق)
وقالوا إنه شاعر مجنون (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا أله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون) ثم دعوه إلى عبادتها وترك دعوته مرغبين، ثم مغرين، ثم حرموه وأهله وعشيرته مصاهرتهم والعمل معهم، وحرموا على العرب التقرب منهم حتى كادوا يهملون، ثم هددوه بالقتل إن هو لم يثب إلى رشده ويرجع عما هو فيه من تحقير آلهتهم والنيل من معبوداتهم.
ولكن ما لمحمد وهذه المعبودات، وأنى تؤثر في نفسه هذه الأوثان ولو أنها رصعت بالشهب لا بالذهب، وكيف يسيغ له عقله أن يعبد هذه الأصنام ولو عبدها الحجاج من عدنان والأقيال من حمير، وأي خير يرجوه منها ولو عبدها الناس جميعاً؟ لقد عاش محمد حياته الأولى بين قومه رائحاً غادياً ولكنه كان في الحقيقة يعيش في واد من التفكير المنظم والنظر الثاقب، وقومه كلهم في واديهم يعمهون وفي ضلالاتهم سادرون وعن الحق مبتعدون، عاش مائلاً بين يدي ربه، سابحة أفكاره في ملكوت السموات والأرض، فلما سطعت لعينه الحقيقة الكبرى وجاءه الناموس الأعظم وانشرح صدره وزالت كربة نفسه.
ما كان له إلا أن يجيبها، وإلا فقد حبط سعيه وضاع جهده وأصبح هو وقومه سواء بسواء. فقال لنفسه: فلتجبها يا محمد، أجب وإلا كنت من الخاسرين.
.
أجب فقد وجدت الجواب الذي حيرك طوال هذه الأعوام.
. أفبعد هذا يزعم الكاذبون الحاسدون أن الذي أقام محمداً وأثاره هو الطمع وحب الدنيا والرغبة في الجاه والسلطان، حمق وايم الله وهوس وسخافة، وظلم بين إجحاف للحق وتضليل للحقائق.
ليقل لي هؤلاء الطاعنون، أي فائدة لرجل مثل محمد في جميع بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها، وأي خير له في تاج كسرى وصولجان قيصر.
بل أي قيمة عنده لجميع ما بالأرض من تيجان وعروش؟! لأنه يعرف المصير الأخير لجميع الممالك والتيجان.
.
وأين تصير الدولة جميعها بعد حين من الزمان (كل من عليها فانِ).
أيطمع في مشيخة مكة وقضيبها ذا الطرف المفضض.
.
أم في ملك كسرى وتاجه ذي الذؤابة الذهبية.
.
أم في صولجان قيصر وعزة ملكه؟ وهل في كل هذا منجاة للمرء من هول يوم الحساب إن لم يكن له من عمله منجاة ومظفرة.
كلا.
إذن ما علينا إلا أن نضرب برأي هؤلاء الجائرين القائلين إن محمداً كاذب لا يبغي من دعوته إلا السلطان والجاه، عرض الحائط، فإن مذهبهم عار وسبة على البشرية فلقد أصبح من أكبر العار على أي إنسان متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يشاع من أقوال مفتراة وأكاذيب ملفقة عن دين الإسلام وأنه كذب، وأن محمداً رجل خداع مزور شهواني فاسد.
بل أصبح من أوجب الواجبات علينا أن نحارب كل من يحاول أن يلصق هذه التهم وأمثالها بمحمد ودعوته إن كنا نريد للحق أن ينتصر وللعالم أن يسير نحو سلام دائم وحياة لا اضطراب فيها ولا فتن، لقد آن أن نقول لهؤلاء الذين يشيعون مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، إنكم أنتم الكاذبون الخداعون.
إنكم أنتم الذين تريدون أن تشيعوا في العالم الفوضى والاضطراب وتحاولوا الوصول إلى الجاه والسلطان عن طريق الطعن في الحق وأصحابه والجور في القصد، لا عن طريق هداية العالم إلى الخير والسلام كما فعل محمد، ولكن ما أبعد الفرق بينه وبينكم فإن الرسالة التي جاء بها محمد ما زالت السراج الوهاج والطريق السوي لمن أراد أن يصل إلى نعيم الحياة ويفوز بجنات عرضها السموات والأرض، وما زالت قبلة الأنظار مدة أثني عشر قرناً لأكثر من مائتي مليون من الناس أمثالنا خلقهم الله الذي خلقنا وجعل لهم عقولاً كما جعل لنا، وفيهم من بلغ أسمى درجات الرقي الفكري الذي تدعون أنكم وصلتم إليه، فلا تستحون من قولكم، إن هذه الرسالة التي آمن بها ومات عليها كل هؤلاء الملايين الفائقة الحصر، خدعة وكذب.
فوا أسفاه ما أحقر هذا الزعم الباطل وأسوأ هذا القول السخيف، وما أضعف عقول أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة، لأنهم ظنوا أن جميع الناس مجانين مثلهم.
أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبداً ولا أسكت عن قائليه، ولو أنى أرى أن الغش والكذب ينتشران بشكل مريع بين الناس ويروجان رواجاً كبيراً ويصادفان كثيراً من التصديق والقبول. إن الحق إذا لم يجد له نصيراً يدفع عنه سخف القول ويذود عن حوضه المفتريات لضاع بين أمثال هؤلاء الذين لا يرعون فيه إلا ولا ذمة.
ولو أن الحق عدم أنصاره لأصبحت الحياة سخفاً وعبثاً، وكان الأولى بها ألا تخلق.
وأي حق أحق منا بالذود والدفاع عنه من دعوة محمد التي تدعو إلى السلام والمحبة.
وهما اللذان جاء بهما جميع الأنبياء لأنهما ظل الله في الأرض وما الله إلا محبة وسلام. إن من أراد أن يبلغ منزلة ما في علوم الكائنات، يجب عليه ألا ينظر إلى شيء مما يقوله أولئك السفهاء، وألا يصدق كلمة واحدة من أقوالهم، لأنها أفكار سقيمة وأقوال جيل كفر بالله.
.
ونتاج عصر جحد بالإنسانية وقيمتها، وهي أبلغ دليل على خبث قلوب هؤلاء وموت أرواحهم وفساد ضمائرهم.
وإذا فسدت الضمائر وخبثت القلوب وماتت الأرواح في الأبدان، فإن لصاحبها أن يفعل ما يشاء لأنه أصبح كالأنعام بل أضل. ولعل العالم لم ير قط رأياً الأم من هذا الرأي ولم يسمع قولاً أكفر من هذا القول، فهل يعقل أن رجلاً كاذباً خداعاً يستطيع أن ينشر ديناً بين الناس وأن يوجد العجب من القوانين والأحكام التي كانت مدار الأحكام والتي أصبحت محور القوانين جميعاً رغم كل ما يقال.
والله إن الرجل الكاذب لا يستطيع أن يقيم بيتاً من الطوب، لأنه يدعى أنه عليم بخصائص الجير والجص ومواد البناء وهو لا يعرف منها شيئاً.
فإن يبنيه إنما هو تل من الأنقاض وكثيب من أخلاط المواد، لا يستطيع أن يثبت اثنتي عشرة ساعة إذا هبت عليه ريح عاصف، لا أن يقف كالطود الشامخ أمام مختلف الأعاصير والأنواء اثني عشر قرناً يسكنه مائتا مليون من الأنفس، لا يمر عليهم وقت إلا وهم في ازدياد مستمر ونمو مطرد.
أفبعد هذا يقال إن محمداً كاذب خداع. وليعلم من لم يكن يعلم أن على المرء أن يسير في جميع أمره طبق قوانين الطبيعة لا يخالفها، وإلا استعصى عليه الأمر وأبت هي أن تجيب طلبته وتعطيه ما يشاء ويبتغي. كذب وافتراء والله ما يذيعه أولئك الكفار، ولابد أنهم سيعودون في النهاية مهزومين وإن زخرفوا أقوالهم حتى تخيلها بعض الناس حقاً. باطل وزور والله ما يدعون إليه وإن زينوه حتى أوهموا السذج أنه صدق.
ومحنة والله ومصاب ما بعده مصاب أن ينخدع الناس بهذه الأباطيل، ويجد الكذب له بين الأمم والشعوب آذاناً صاغية. ولكن مهما كان الأمر فإن الناس سيأتي عليهم اليوم الذي يدركون فيه كذب هؤلاء؛ إنه كما ذكرت لكم قبيل الأوراق المالية المزيفة، يبذل لها صاحبها غاية الجهد، ليتخلص منها ويخرجها من كفه القذرة الأثيمة، ليقع في ضررها غيره ويحيق مصابها بسواه، ولكن لا يلبث زيفها أن يظهر للناس، فيلقون بها في سلات المهملات وهم يصيحون بملء أفواههم (هذه أوراق مزيفة). إننا لو قارنا بين دعوة محمد وصدقه فيما أتى به، وبين دعوة زعماء الثورة الفرنسية - لا على سبيل المساواة في القيمة الروحية ولكن على سبيل المثل فقط؛ إذ من الظلم البين أن نقرن الثانية بالأولى - وما حاول أولئك الزعماء نشره، لوجدنا أن الأولى قد جاءت من قبل مجيء الثورة الفرنسية بعدة قرون وبقيت بعدها وستظل ثابتة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أما الثانية فقد ذهبت بذهاب دعابتها، بل إنهم هم أنفسهم لم يأخذوا بها لم يسيروا على ما كانوا يدعون إليه، وهذه أكبر شاهد على أن محمد لم يكن أخا شهوة كما يتهمه أولئك الضالون، ظلماً وعدواناً. والله لشد ما نتعدى حدود الجور والخطأ، إذا اتهمنا محمداً بأنه رجل شهواني لا هم له إلا إشباع نفسه من الملاذ وقضاء مآربه من الشهوات.
فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ والشهوات، بل لقد كان زاهداً في حياته كلها متقشفاً في مأكله وملبسه ومسكنه، وجميع أحواله، فقد كان طعامه عادة لا يزيد على الخبز والماء، وكثيراً ما كانت الشهور تمضي ولا يوقد بداره ناراً تحت قدر، وإنهم ليذكرون.

ونعم ما يذكرون - أنه كان يقوم بأعماله بنفسه، يرفو ثوبه ويخصف نعليه بيديه، فهل بعد هذا تواضع ومفخرة؟ وهل هذه هي صفات الرجل الذي يسعى إلى الجاه والسلطان والملك والصولجان! حبذا محمداً من رجل خشن الطعام مرقع الثياب مجتهد في الله ساهر ليله يذكر ربه وينصت لوحيه جاهداً في نشر دينه، لا يطلب رتبة ولا يطمع في دولة أو سلطان أو غير ذلك مما يتطلع إليه أصاغر الرجال. والله لو لم يكن محمد صادقاً في دعوته مخلصاً في تأدية رسالته لما لقى من أولئك العرب الغلاظ الأكباد توقيراً ولا احتراماً ولا تعظيماً ولا إكباراً، وما كان مستطيعاً معاشرتهم أكثر أوقاته بعد أن قام بدعوته ثلاثاً وعشرين حجة.
وما كان مقدوره أن يقودهم إلى ميادين القتال لا يهابون الموت، يلتفون حوله ويقاتلون بين يديه ويجاهدون في سبيل دعوته، يلقون مصارعهم آمنين مطمئنين إلى المصير الذين وعدهم الله إياه (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم وذلك هو الفوز العظيم). لقد كان في هؤلاء العرب غلظة وجفاء وكبر وعجرفة، وكانوا حماة الأنوف أباة الضيم صعاب الشكيمة وعر المقادة ليسوا بالمنساقين وراء كل ناعب، فمن استطاع تذليل جانبهم وقدر على رياضتهم، حتى رضخوا له وساروا وراءه مسلمين له القياد، فلولا ما أبصروا فيه من آيات النبل والصدق والإخلاص، لما خضعوا له ولا أذعنوا لأمره.
وإني أعتقد أنه لو كان أتيح لهم بدل محمد، قيصر من القياصرة بتاجه وصولجانه، لما لقى من طاعتهم واحترامهم بعض ما لقيه في ثوبه المرقع بيده.
وهذا أكبر دليل على عظم محمد وصدقه في دعوته وإخلاصه لربه. عبد الموجود عبد الحافظ

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣