أرشيف المقالات

نصيب السودان في ثقافتنا المدرسية

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم لا أود أن أعتب في هذه الكلمة على الماضي؛ فقد انقضى بخيره وشره، ولكني أنبه إلى حاضر يختلف في طبيعته واتجاهاته، وأشير إلى مستقبل قريب يتطلب منا العمل الحاسم السريع.
أما الحاضر الذي اختلف، فمرد اختلافه إلى أننا قد نظرنا الآن إلى السودان نظرة جد وحزم، أوضحت أمامنا المسالك، بعد أن التوت علينا أزمانا.
وأما المستقبل القريب ففيه الأمانة التي ارتهنت بها مصر لشباب الوادي جميعا، وهي تهدف من ورائها أن يرتبط الشعبان، وان يلتقيا معا على الفهم الواضح الصحيح، والمعرفة الوثيقة؛ ليعيشا معا في ظل الخاء والوئام.
ولا احسبنا واصلين إلى ما نبتغي، إلا إذا سعينا إلى هذا المستقبل على علم صحيح بما في الجنوب من معالم وأحداث، وثقافة وعادات؛ ولهذا فقد رأيت عند أوبتي من السودان في ديسيمبر الماضي أن أذكر وزارة المعارف بهذه الحقيقة؛ لتأخذ الأهبة، وتتحفز للعمل، فبعثت إليها بتقرير، أوضحت فيه ما يجب أن تعمل حيال الاتجاه الجديد؛ ولكني عدت فخشيت أن تطوي الوزارة هذا التقرير فلا تفيد منه، فيظل شباب الوادي في حيرة لا تنتهي، ونظل كذلك بعيدين عن واقع الحياة الحاضرة وبوادر الحياة المستقبلة؛ فرأيت أن أنشر على صفحات الرسالة الغراء بعضا من هذا التقرير؛ لأنه - على ما اعتقد - ضرورة يجب الأخذ بها في سرعة واهتمام: أولا: لا يزال الطلبة في مدارسنا المصرية يجهلون الضروري من أحوال السودان؛ فهم لا يعرفون من تاريخه إلا القليل، ولا يدركون عن طبيعته وتياراته السياسية، وحياته الاجتماعية إلا صورا ضئيلة باهتة لا تغني ولا تفيد هذا هو منهج الجغرافيا، لا يلقي على السودان ضوءا واضحا، يبصر التلاميذ بما فيها، وإنما هو إيجاز مخل، لا يكاد الزمن يمضي عليه، حتى يذهب من الأذهان، لضآلة أثره وقلة غنائه، لا يتناول من أحداث السودان إلا القليل مما يأتي عرضا، على حين يعني المنهج بدراسة الحوادث في بعض الممالك الأجنبية دراسة تفصيلية.
وهذه هي النصوص إليها لا تلم في أية مرحلة من مراحلها بأبيات لشاعر سوداني، وفي هذا ما فيه من غمط لحقوق شعراء طالما رددوا صوتهم عاليا بحب مصر والمصريين. لقد حان إذا أن تحقق المعارف رغبة كريمة، طالما جاشت في صدور الكثير من المصريين والسودانيين، فتولي الدراسات السودانية بالمدارس المصرية العناية اللائقة بها؛ حتى يعرف الطالب المصري عن جنوب الوادي ما يدركه عن شماله، وعندئذ فقط تتأكد الروابط، وتشتد الصلات، ونبلغ الغاية التي نصبو إليها من التئام الشعب، وتوثيق العرى. من الخير أن ننظر الآن في مناهج الجغرافيا والتاريخ والتربية الوطنية نظرة جديدة، قوامها العناية بما في الجنوب من تراث وثقافة ونظم وشؤون.
ومن الخير كذلك أن تنتظم النصوص إليها طرفا من الشعر التيجاني يوسف بشير، والعباسي، واحمد صالح، وعبد اله عبد الرحمن وغيرهم؛ فقد جاهد الكثير منهم بإنتاجهم القيم في سبيل الإنسانية والعروبة الوطنية، واصبح من حقهم علينا أن نعتني بأشعارهم اعترافا منا بهذا الجميل. ثانيا: مما لا شك فيه أن الصحف مرآة تنعكس عليها صور الحياة الحاضرة، فهي التي تحمل للقراء الآراء والاتجاهات، وتوضح ما يجري في البلاد من أحداث.
ومن المؤسف حقا أن القراء في الشمال قد تجاهلوا الصحف التي تصدر في الجنوب، فخفي عليهم بعض أحواله الراهنة، وكان من الطبيعي أن يجهل الشبان المتعلمون بعض أخبار الجنوب وأحداثه.
أقول ذلك وأنا اعلم أن صحف السودان لم تكتمل بعد نهضتها، ولا تزال تجاهد في سبيل الرقي المنشود، ولكنها على أي حال تلقي الكثير من الأضواء على الحياة السودانية الحاضرة.
ومن الواجب - إذا أردنا أن نبصر التلاميذ بما يجري في الجنوب - أن تشترك كل مدرسة ثانوية في صحيفتين على الأقل من صحف السودان؛ إحداهما معتدلة، والأخرى من الجرائد الاتحادية؛ ليطلع عليهما الطلبة، أو تقوم الجماعة الأدبية في المدرسة بتخليص الأخبار المهمة، وتسجيلها في مجلة حائط؛ لتكون قراءتها في متناول الجميع. ثالثا: لا يجهل السودانيون أن طائفة من علماء مصر وأدبائها، قد عنوا بشؤون السودان؛ فألفوا في بعض نواحيها كتب قيمة، ولا يجهلون كذلك أن بعض السودانيين قد طرقوا هذا الباب، فاصدروا بعض الكتب في السياسة، واللغة السودانية العامية، والتاريخ والأدب.
ومن الواجب في وقتنا الحاضر أن تتولى إحدى اللجان دراسة الكتب جميعا؛ لتزود بالمصالح منها مكتبات المدارس، وستجد - ولا شك - من كتب إخواننا السودانيين طائفة تصلح للاطلاع الحر في المدارس الثانوية، ستجد كفاح جيل، وديوان إشرافه، وديوان العباسي، والعربية في السودان، وتاريخ مكي شبيكة، وشعراء السودان، والطريق إلى البرلمان، وغيرها من الكتب. رابعا: لست أريد الانتهاء من هذه الكلمة الموجزة قبل الإشارة إلى ناحية مهمة تتصل بالروابط الثقافية بين الشمال والجنوب؛ فقد درجت المعارف في العهد الأخير على إيفاد طائفة صالحة من العلماء والأدباء يلقون المحاضرات في جنوب الوادي، وهي سنة محمودة، وخطة حكيمة تستحق التقدير؛ فقد شهد الناس هناك ألوانا ممتازة من معالجة الموضوعات على اختلاف أنواعها فقابلوها بالشكران والتقدير، وتأكدت بينهم وبين إخوانهم المحاضرين الصلات الثقافية والروحية. حدث هذا فعلا في الخرطوم وأم درمان، فأفاد منه أهل هاتين المدينتين، ولكن سكان المدن الأخرى لم يسمعوا إلا تلخيصا لعدد ظئيل من المحاضرات في الإذاعة، فكان إسماعهم لهذا التلخيص جانبان: جانب أسف؛ لأنهم لم يجدوا من العناية ما وجده سكان المدينتين الكبيرتين، ففاتهم الكثير من الفوائد.
وجانب استبشار؛ لأنهم أدركوا في هذا التلخيص من الفوائد ما لم يدركوه من قبل، وودوا جميعا لو طوف هؤلاء المحاضرون في المدن الكبيرة الأخرى كمدنى وكسلا والأبيض وعطيرة، يحملون إلى الناس هذه الثقافة العالية الممتازة.
ودوا ذلك ويودون مستقبلا أن تتحقق رغبتهم؛ لتعم الفائدة ويصيب منها القريب والبعيد. وبعد فهذا رأي أدلي به، موقنا أن الحاجة ماسة إليه في وقتا آمنا فيه وآمن الناس أن الشعب الذي يعيش على ضفاف النيل من منبعه إلى مصبه شعب واحد يجب أن يلتقي تحت تاجه، ويتحد في سياسته وثقافته، وارجوا أن تبذل المعارف جهدها لتسهم - كما أسهمت من قبل - في تحقيق ما تبقى لها نحو غايتها الكريمة. أحمد أبو بكر إبراهيم

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١