أرشيف المقالات

الدين والسلوك الإنساني

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 8 - الدين والسلوك الإنساني للأستاذ عمر حليق الجماعة الدينية توصلنا في الفصل السابق من هذه الدراسة إلى القول بأن وظيفة الدين لتحقيق التكافل الاجتماعي في الجماعة الإنسانية تتوقف على صدق الإيمان والاختبار الديني لدى أعضاء تلك الجماعة وعلى مدى تحديد العقيدة الدينية التي تدين بها الجماعة لأسس ذلك التكافل. ورأينا أن سلامة العقيدة الدينية وصيانتها من التحوير والتبديل شرط أساسي لحفظ ذلك التكافل الاجتماعي وهذا لا يعني الجحود والتعصب وإقفال باب الاجتهاد. فالمشكلة في صيانة العقيدة وسلامتها ووصف المدافعين عنها بالجحود والرجعية والمعتدين عليها بالإلحاد والزندقة ترجع إلى الخطأ في تفهم معنى السلامة ومغزى الصيانة. فإذا كان للدين أن يكون وسيلة جوهرية فعالة لحفظ التكافل الاجتماعي وتنميته يجب أن تحدد وظائفه ومعانيه.
وهذا التحديد لا يمكن أن يمس العقيدة لأن العقيدة فطرة وغريزة كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم (30، 30) (فأقم وجهك للدين حنيفا.
فطرة الله التي فطر الناس عليها.
لا تبديل لخلق الله.
ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
.
وقد استعرضنا في مكان آخر من هذا البحث رأي بعض علماء الاجتماع والأنترولوجيا في صدق هذا القول. فالاجتهاد إذا في بحث الفلسفة الدينية لا يخضع لأصول المنطق العلمي إذا توخى التعرض للدين من حيث أنه عقيدة، فالعقيدة الدينية قديمة في السلوك الإنساني قدم الأزل لم يطوح بها تطور الفكر الإنساني في العلوم والفنون. ولئن سعى بعض الناس إلى تحديد معنا الدين ووظائفه فإن سعيهم هذا كثيرا ما يعد من قبيل سوء الاجتهاد إذا تعمد مس العقيدة مسا رقيقا أو غير رقيق. والاجتهاد الذي من هذا القبيل يبدأ في هدم الأساس الذي يحاول واعيا أو غير واع أن يبني عليه تكافلا اجتماعيا جديدا. فالعقيدة فطرة غريزية وظيفتها محدده معينة أصولها في النظام الكوني والتكوين النفساني والجسماني للإنسان.
ولقد أصاب الغزالي حين شبه العقيدة الدينية بجذع الشجرة ووظائف الدين الاجتماعية بالأغصان.
وقد يستطيع عالم النبات بمعادلة حديثة أن يطعم غصون الشجرة لتؤتي ثمرا حديثا.
قد يكون ألذ من الثمر الأصلي أو قد لا يكون ولكن عالم النبات لن يستطيع أن يسلط معادلة على صميم التكوين الطبيعي لجذع تلك الشجرة وإلا قتلها. ولعل هذا المثل ينطبق على سوء اجتهد بعض الباحثين في تعرضهم للعقيدة وفي سعيهم لتطعيم الدين بالمستجد من التطور الفكري والاجتماعي الذي تمر به الإنسانية في مجرى التاريخ. ولإشكال الذي صاحب تاريخ الديانات يعود إلى سعي بعض أولي الفكر لتطعيم العقيدة الدينية بالآراء والنظم التي استعدوها، من بيئتهم الاجتماعية والفكرية.
وهذا خطأ وصوابه أن توجه تلك النظم والآراء الفكرية والاجتماعية بحيث تلازم جوهر العقيدة الدينية.
وذلك لسباب بسيط وهو أن العقيدة فطرة غريزية هي من صميم الوجود؛ بينما النظم والآراء المستجدة متقلبة تبعا لتطور الفكر والبيئة والأوضاع السياسية والاقتصادية. فالصراع يصبح إذا بين الغريزة الفطرية السليمة وبين البيئة والتطور الفكري.
فالأولى أبدية راسخة والثانية متقلبة بتقلب الظروف والملابسات. والاجتهاد عادة ضرورية للنمو العقلي.
فإنك لن تستطيع أن توقف عقرب الساعة وتؤجل استمرار الزمن.
والمشاكل الاجتماعية تختلف باختلاف المجتمعات والأزمنة، ولا بد للدين أن يؤدي وظيفته الاجتماعية إلى جانب وظيفته الروحانية الفطرية الغريزية.
ولن يكون ذلك بإقفال باب الاجتهاد على النحو الذي يدعو إلية بعض حفظة الدين في إخلاص وصدق لا مراء فيهما.
فمثل هذه الدعوة من قبيل سوء الاجتهاد.
فه تنكر على الزمن تطوره وعلى الفكر نموه وعلى المجتمع اضطراد مسيره وميلاد مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة فيه. والإخلاص والصدق في الدفاع عن العقيدة الدينية وجوهرها وأصولها اجتهاد حميد ولكنه لا يكفي لمواجهة التحدي الذي يواجهه الدين في عالم يزخر بالمستجد من المشاكل والآراء والنظريات التي لم يعالجها الدين في القرون الغابرة. وهذا التحدي للعقيدة الدينية وحفظها يستوجب التعرف على أسس تلك المشاكل الاجتماعية وعلى جواهر الآراء والنظريات التي تتحدى الدين ووظيفته. فالذين يحملون على الدين ووظيفته الاجتماعية هم في معظم الحالات مفتقرون إلى الاختيار الديني الصادق، أو بمعنى آخر مفتقرون إلى الغريزة الدينية الفطرية التي هي - كما رأينا - جزء من نظام الكون والتكوين النفساني والعقلي والجسماني للإنسان.
فاجتهادهم إذن اجتهاد مريض فقد غريزته فجاء اجتهاده وتفكيره وتحليله مشوها لا تتوفر فيه عناصر الكمال. وحفظة الدين الذين لا يتعرفون على جوهر المشاكل الاجتماعية والمذاهب الفكرية والسياسية والاقتصادية المعاصرة عاجزين - سواء اعترفوا بذلك أم لم يعترفا بذلك أم لم يعترفوا - عن صياغة اجتهادهم في قلب يحقق النفع الجزيل.
فهم والحالة هذه يقفلون باب الاجتهاد ويحولون بين الدين وتأدية وظيفته الاجتماعية - سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه -. فلو طبقت هذا الوضع على حاضر العالم العربي لوجدت كلا النقيضين ولوجدت تحديا للدين من جماعة فقدوا غريزتهم الدينية الفطرية - أو طمروها تحت ركام من التعليل المنطقي السيئ - ولوجدت كذلك إجابة على هذا التحدي من بعض حفظة الدين يفتقرون إلى سلاح المعرفة الحديثة وهي معرفة شاسعة معقدة لا يكفي للتعرف عليها دروس من الجغرافية والحساب والطبيعة والكيمياء. فالمكتبة العربية فقيرة فقرا مدقعا في أكثر ما تطفح به الثقافات المعاصرة من فلسفة ودراسات اجتماعية بنيات عليها المذاهب الفكرية المعاصرة - اجتماعية كانت أم فلسفية أم سياسية أم اقتصادية - التي تتحدى الدين ووظيفته الاجتماعية. ولقد واجهت العقيدة المسيحية في أوربا وأمريكا مثل هذا التحدي في الأزمنة الحديثة فسعت معاقل الديانات المسيحية لمواجهته بالتسلح بالعلم الحديث. ولقد تسنى لكاتب هذا السطور أن يلمس عن كثب ثروة مناهج العلم والتدريس في بغض المعاقل الرئيسية في أمريكا؛ وبرامج التدريس العالي في هذه المؤسسات لا تترك شاردة ولا واردة من العلم الحديث إلا خصصت لها حصصا تتكافأ وأهميتها ومبلغ تحديها للعقيدة المسيحية الدينية.
فهناك فصول في علوم الاجتماع والنفس والاقتصاد والفلسفة السياسية والهندسة والفيزياء العالية والكيمياء المتقدمة وألف نوع ونوع من العلوم الحديثة تدرس في أرقى مناهج التعليم وأحدثها.
وطلبة العلم في هذه المؤسسات يلقنون العقيدة الدينية فترسخ فيهم ويؤمنون إيمانا صادقا مخلصا ثم يدفعون إلى التحصين ضد أسلحة الإلحاد بالتعرف على جوهر تلك الأسلحة علمية مادية أو فلسفة منطقية. فليس من الغرابة أن تجد قسيسا في أميركا الآن بروتستانتيا أو كاثوليكيا يحمل شهادة الدكتوراه في الاقتصاد أو الهندسة أو علوم الطبيعة بالإضافة إلى شهادة اللاهوت.
بل الواقع أن هذا الاتجاه أخذ ينتشر الآن انتشارا واسعا في معظم المعاهد الدينية في بريطانيا وأمريكا على وجه الخصوص. وقد لخص أحد أقطاب الفكر المعاصر في أمريكا هذا الاتجاه فقال: - (المرء عدو لما يجهل ولكن عداءه يزداد قوة إذا تعرف على ما يجهله واكتشف فيه مواطن الضعف والقوة.
فأني أهيب بحفظة الدين وخصومه على السواء أن يحاولوا - قبل أن يتخطوا المنطق الحرام - التعرف تعرفا إيجابيا صادقا على مواطن الضعف والقوة في جوهر تلك الخصومة.
فهم لا بد مدركون بالعلم والدين أنهم متممان بعضهما لبعض وكل ما يستجلب السماحة والحالة هذه ملاقاة بعضهما لبعض على صعيد من المعرفة الحقة لجوهر الأشياء لا لظواهرها.
وبهذا تزداد عداوتهما قساوة لا لبعضهما بعضا ولكن للجهل الذي ولد بينهما الخصومة.)
ولعل أبرز مزايا حركة الإحياء الديني للإسلام في باكستان تعود إلى تسلح قادتها بهذا السلاح المزدوج الذي قوامه صدق الاختبار الديني والإلمام بالعلوم الدينية في أعلى مراقيها. فأنت حين تطالع آثار هؤلاء القادة تلمس اتساع الأفاق وقوة الإقناع والاعتزاز بالعقيدة اعتزازا لا يعود فقط إلى رسوخ الاختبار الديني والتقوى في نفوس هؤلاء المصلحين بل إلى إلمامهم إلماما واسعا بالعلوم وعلى تراثها المعاصر والقديم في الشرق والغرب وإلمام هؤلاء السادة بهذه العلوم واستيعابهم للتعاليم الإسلامية استيعابا شاملا مهد لهم سبل الإيمان بقوة الدين الاندفاعية وصلاحها لبناء مجتمع صحيح لا يتعارض مطلقا مع المستجد المفيد في الحضارات الغربية المعاصرة.
وأبحاث هذه المدرسة الفكرية الإسلامية في الهند والباكستان لا تعتمد على اللفظ والإنشاء والتبرير أو الاعتذار والوقوف موقف المدافع عن الدين وتعاليمه، وإنما تتوخى تطعيم النظم السياسية الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة التي وجدت سبيلها إلى حاض المسلمين بجوهر العقيدة المحمدية وتعاليمها.
وحركة الإحياء الدينية على هذا الأسلوب تترك العقيدة الدينية وشأنها فهي أجل من أن تجادل وتزج في معترك الجدل البيزنطي ولأنها - وهي غريزة فطرية - لا تستدعي النكران والشك فهي قسم من الوجود الإنساني وجزء من فلسفته وحقيقته.
إنما الاتجاه الرئيسي في حركة الإحياء الديني هذه تتوخى صياغة النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في قالب إسلامي.
وتراث الإسلام - وهو دين عملي ودنيوي - زاخر بالأسباب التي تسهل هذه الصياغة وتجعل منها أسلوبا جديدا من أساليب الحياة، حياة الروح والمادة، وبذلك تحقق للدين تأدية وظيفته الاجتماعية - وهي وظيفة رئيسية على وجه لا يثير الاعتراض ولا يستدعي الثورة الجامحة العاصفة وإنما يستهوي الأفئدة والعقول.
فإذا تسلح المصلح بالوجدانيات، المستمدة من الاختبار الديني وواجه بها مشاكل المجتمع، وبالعلم الحديث ثم صاغ الحلول في قالب منطقي مقبول استطاع أن يواجه الحياة العملية في نشاط فريد وفي روحانية تجند لنصرتها العقول الدنيوية (العلمانية) التي لا تؤمن إلا بالمنطق المادي والقلوب المؤمنة التي تبحث عن المجتمع الصالح في إطار الشريعة والحياة الدينية. نيويورك (للبحث صلة) عمر حليق

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣