أرشيف المقالات

رباعيات العلامة ابن القيم رحمه الله (1)

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
رباعيات العلامة ابن القيم رحمه الله (1)
 
أحمد الله بمحامده التي هو لها أهل، والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه، محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد:
فإن مطالعة كتب العلامة الرباني وشيخ الإسلام الثاني ابن قيم الجوزية - رحمه الله - مما يثري المطَّلع بجملة كبيرة من الفوائد العظام، ولا سيما تلك الاستنباطات والتقسيمات المبنية على الاستقراء التام والتتبُّع الجاد؛ فهي تشكل كنزًا معلوماتيًّا، وهي جزء كبير من ذلكم البنك المعلوماتي العجيب، تشد لها الرحال، وتعمل لها المطي، ويعلم ذلك المطالع لذلكم الكم الكبير من تراثه - رحمه الله.
 
وإن منها - كما ذكرنا - تلك الفوائد التي تضم التقسيمات...، وقد اخترت أن أذكر لكم في هذه السلسلة من المقالات جملة منها، وسوف أخص بالذكر فيها ما كان منها مندرجًا تحت الرقم أربعة؛ إذ هي مما انفرد به ابن القيم عن غيره، حتى عن شيخه - رحم الله الجميع؛ ولذلك سميتها: رباعيات العلامة ابن القيم (رحمه الله)، وسوف أذكرها بشيء من الاختصار، والتصرف بحذف، أو تقديم وتأخير؛ إذ القصد هنا أمران اثنان:
الأول: جمعها من مظانها؛ ليتسنى لمن يريد الوقوف عليها الرجوع إليها - مجتمعة - في مكان واحد.
 
والثاني: الإشارة إليها؛ إذ المقصود الاستفادة منها وحسب.
 
وقد وضعت لها عناوين تلخص مضامينها وتوضحها، بعضها من وضع ابن القيم - رحمه الله، وبعضها من عندي.
 
وإلى هذه الرباعيات فنقول، منها:
غاية الكمال:
قال ابن القيم - رحمه الله -: في قوله - عز وجل -: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ [1] لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].
 
"قال الشافعي -رضى الله عنه-: لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم[2]، وبيان ذلك: أن المراتب أربعة، وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله:
إحداها: معرفة الحق.
الثانية: عمله به.
الثالثة: تعليمه من لا يحسنه.
الرابعة: صبره على تعلمه، والعمل به، وتعليمه.
فذكر -تعالى- المراتب الأربعة في هذه السورة"[3].
 
الأسباب مع مسبباتها[4]:
وقال - رحمه الله -: "والأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع:
[الأول]: محبوب يفضي إلى محبوب.
[والثاني]: ومكروه يفضي إلى محبوب.
وهذان النوعان عليهما مدار أقضيته وأقداره سبحانه بالنسبة إلى ما يحبه وما يكرهه.
 
والثالث: مكروه يفضي إلى مكروه.
والرابع: محبوب يفضي إلى مكروه.
وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه؛ إذ الغايات المطلوبة من قضائه وقدره الذي ما خلق ما خلق، ولا قضى ما قضى إلا لأجل حصولها - لا تكون إلا محبوبة للرب، مرضية له"[5].
 
أسئلة السائلين:
وقال - رحمه الله -: "أسئلة السائلين لا تخرج عن أربعة أنواع لا خامس لها:
الأول: أن يسأل عن الحكم، فيقول: ما حكم كذا وكذا؟
والثاني: أن يسأل عن دليل الحكم.
والثالث: أن يسأل عن وجه دلالته.
والرابع: أن يسأل عن الجواب عن معارضيه"[6].
 
أنواع الحب:
وقال - رحمه الله -: "وها هنا أربعة أنواع من الحب يجب التفريق بينها، وإنما ضل من ضل بعدم التمييز بينها:
أحدها: محبة الله، ولا تكفي وحدها في النجاة من الله؛ من عذابه، والفوز بثوابه؛ فإن المشركين وعبَّاد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله.
 
الثاني: محبة ما يحب الله، وهذه هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة، وأشدهم فيها.
 
الثالث: الحب لله وفيه، وهي من لوازم محبة ما يحب الله، ولا يستقيم محبة ما يحب الله إلا بالحب فيه وله.
 
الرابع: المحبة مع الله، وهى المحبة الشركية، وكل من أحب شيئًا مع الله، لا لله ولا من أجله ولا فيه، فقد اتخذه ندًّا من دون الله، وهذه محبة المشركين.
 
وبقي قسم خامس - ليس مما نحن فيه - وهي المحبة الطبيعية، وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه؛ كمحبة العطشان للماء، والجائع للطعام، ومحبة النوم، والزوجة، والولد؛ فتلك لا تذم إلا إن ألهت عن ذكر الله وشغلته عن محبته؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [المنافقون: 9]، وقال تعالى: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [النور: 37]"[7].
 
أحاديث الكي:
وقال - رحمه الله -: "تضمنت أحاديث الكي[8] أربعة أنواع:
أحدها: فعله.
والثاني: عدم محبته له.
والثالث: الثناء على من تركه.
والرابع: النهي عنه.
ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى؛ فإن فعله يدل على جوازه،، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه، فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه، فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه، بل يفعل خوفًا من حدوث الداء..
والله أعلم"[9].
 
أنواع الفروسية:
وقال - رحمه الله -: "والفروسية أربعة أنواع:
أحدها: ركوب الخيل، والكر والفر بها.
الثاني: الرمي بالقوس.
الثالث: المطاعنة بالرماح.
الرابع: المداورة بالسيوف، فمن استكملها استكمل الفروسية"[10].
 
القزع[11]:
وقال - رحمه الله -: " القزع أربعة أنواع:
أحدها: أن يحلق من رأسه مواضع من ها هنا وها هنا، مأخوذ من تقزع السحاب، وهو تقطعه.
الثاني: أن يحلق وسطه ويترك جوانبه، كما يفعله شمامسة النصارى.
الثالث: أن يحلق جوانبه ويترك وسطه، كما يفعله كثير من الأوباش والسفل.
الرابع: أن يحلق مقدمه ويترك مؤخره، وهذا كله من القزع، والله أعلم"[12].
 
الملتزم الطاعة لله:
وقال - رحمه الله -: "الملتزم الطاعة لله لا يخرج التزامه لله عن أربعة أقسام:
أحدها: التزام بيمين مجردة، نحو قوله: "والله لأتصدقن".
 
الثاني: التزام بنذر مجرد، نحو: "لله علي أن أتصدق".
 
الثالث: التزام بيمين مؤكدة بنذر، نحو: "والله إن شفى الله مريضي، فعلي صدقة كذا".
 
الرابع: التزام بنذر مؤكد بيمين، نحو: "إن شفى الله مريضي، فوالله لأتصدقن"، وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [التوبة: 75]، فهذا نذر مؤكد بيمين، وإن لم يقل فيه: فعليَّ؛ إذ ليس ذلك من شرط النذر، بل إذا قال: إن سلمني الله تصدقت، أو لأتصدقن، فهو وعد وعده الله؛ فعليه أن يفي به، وإلا دخل في قوله: ﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 77]"[13].
 
شروط الواقفين:
وقال - رحمه الله -: "شروط الواقفين أربعة أقسام:
[الأول]: شروط محرمة في الشرع.
[الثاني]: وشروط مكروهة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
[الثالث]: وشروط تتضمن ترك ما هو أحب إلى الله ورسوله.
[الرابع]: وشروط تتضمن فعل ما هو أحب إلى الله ورسوله.
فالأقسام الثلاثة الأول لا حرمة لها ولا اعتبار، والقسم الرابع هو الشرط المتبع الواجب الاعتبار، وبالله التوفيق"[14].
 
ما يبتلى به العبد:
وقال - رحمه الله -: "البلاء الذي يصيب العبد في الله، لا يخرج عن أربعة أقسام، فإنه:
[الأول]: إما أن يكون في نفسه، وقد يكون بتلفها تارة، وبتألمها بدون التلف.
[الثاني]: أو في ماله.
[الثالث]: أو في عِرضه.
[الرابع]: أو في أهله ومن يحب.
فهذا مجموع ما يبتلى به العبد في الله"[15].
 
النضال:
وقال - رحمه الله -: "النضال[16] على أربعة أقسام:
[الأول]: مفاضلة.
[الثاني]: ومحاطة.
[الثالث]: ومبادرة.
[الرابع]: ومباعدة.
وكلها جائزة، إلا المباعدة؛ فإن فيها خلافًا، وليس على منعها دليل"[17].
 
الدور:
وقال - رحمه الله -: "الدور أربعة أقسام:
[الأول]: دور حكمي.
[الثاني]: ودور علمي.
[الثالث]: ودور معي.
[الرابع]: ودور سبقي تقدمي"[18].

[1] الإنسان: اسم جنس محلى باللام، فيوجب العموم.

[2] وهو بنحوه في الاستقامة (2/ 259) لشيخه ابن تيمية، وفي تفسير القرآن العظيم (1/ 82) لابن كثير، قال الشافعي - رحمه الله -: "لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم"، وقال ابن تيمية - رحمه الله -: "وهو كما قال"؛ انظر: مجموع الفتاوى (28/ 152).

[3] مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 56).

[4] سيأتي معنا في السلسلة الثانية من رباعيات العلامة ابن القيم - رحمه الله -: أقسام الناس في طلب الأسباب وأنهم أربعة.

[5] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 420).

[6] إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 167).

[7] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 134).

[8] انظرها: في المرجع المشار إليه بعد.

[9] زاد المعاد (4/ 58).

[10] الفروسية (ص: 440).

[11] سيأتي معنا في السلسلة الثانية من رباعيات العلامة ابن القيم - رحمه الله -: حلق الرأس، وأنه أربعة أنواع.

[12] تحفة المودود بأحكام المولود (ص:100).

[13] إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 147)

[14] إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 121).

[15] إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (2/ 193).

[16] الرمي.

[17] الفروسية (ص:389).

[18] بدائع الفوائد (1/ 196).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١