أرشيف المقالات

رسالة الفن

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
دراسات في الفن الحرب والفن للأستاذ عزيز أحمد فهمي الشعوب المحاربة بطبعها هي الشعوب التي تسكن الصحارى والمراعي، وما يشبه الصحارى والمراعي من الأرض القاسية على أبنائها التي لا تجود عليهم برزق كاف أو رزق منتظم، فيحملهم الفقر على هجرة أرضهم والإغارة على أرض غيرهم لينهبوها ويعودوا إلى أرضهم، أو ليغتصبوها ويستوطنوها سادة لأهلها.
فإذا اطمأنوا في أرضهم الجديدة فإنهم على مر الزمن قالعون عن طبعهم داخلون في طبعها فلا يبقى لهم من نزوعهم إلى المحاربة إلا ما سمحت به أما وهم على طبعهم الميال إلى الحرب فإن فنونهم تكون مما يلائم حياتهم.
وهم في حياتهم رحالة، فقراء، مقاتلون؛ وقلقهم الدائم الذي يضطرهم إلى الهجرات المتتابعة لا يخلق عندهم الفنون التي تحتاج إلى أدوات ثقيلة، والى مكان تسكنه.
لهذا لم يكن عند القوقاز تماثيل ولا صور، ولهذا لم يكن عند العرب موسيقى مما يستلزم عزفها الأدوات الثقيلة التي تزحم المحارب في المحارب.
ولهذا لم يكد يكون عند الشعوب المحاربة من الفنون إلا الشعر والغناء والرقص أما فقرهم فيصبغ روح الفن نفسها، فهو يخلق فيهم حباً للمال كما يخلق فيهم زهداً فيه.
فهم يحبونه لأنه دليل على البطولة الواجبة للحصول عليه لأنه لا يستخلص إلا بالحرب والمجاهدة؛ وهم يزهدون فيه لأنه ليس دليلاً على شيء من هذا، فقد يبذل الكريم ماله للمحتاج حتى يفتقر فلا يأسف على ضياعه ولا يمكنه أن يعلن حسرته عليه إلا إذا أراد أن يعرض بأهله وأن يتهمهم بالتخلي عنه حتى ليستشعر الذل، أو إذا كان هذا الفقر نتيجة لكارثة لم يكن للإنسان يد في صدها كالطوفان أو الحريق ودأبهم على المقاتلة يشارك هذا الفقر في صبغة روح الفن كذلك، إذ يخلق لهم مثلاً علياً م البطولة، والشجاعة، والكرم والسماحة، والمروءة، والعزة، واحترام الكبير صاحب التجارب مهما هرم وضعف، واحترام الصغير الضعيف، واحترام المرأة العاجزة، إلى غير ذلك من أخلاق الفتوة والفروسية. ومن أبرز ما تخلقه الطبيعة في نفوس هؤلاء المحاربين: شدة الإيمان بالقضاء والقدر، وبإسراع هذه الحياة إلى الذهاب، وبهوان شأن هذه الحياة نفسها؛ فيخلق هذه في فنونهم إلى جانب عنفها الأصيل، روحاً من المرح والمجون والاستخفاف الذي يشبه الطيش أحياناً، تشجيعاً لهم على الحرب، وتعزية لهم بين الحرب والحرب. ويظهر هذا في الشعر، كما يظهر في الغناء، وكما يظهر في الرقص أما الشعر، فتكاد لا تخلو قصيدة جاهلية مما يدل على طبيعة العرب الأولى من ذكر النساء والخمر، والعبث.

فوق أساسها القائم على الفخر وتعداد المآثر، ودلائل البطولة، وأيام النصر وأما الغناء فلم تجد به الطبيعة على العرب إلا لينفس به أفراد عن خوالج ذواتهم.
وذلك أن الطبيعة في بلاد العرب تكاد تكون بكماء لا تعلم الآذان إلا حسن الإصغاء إلى الصمت، وذلك على خلاف أوطان القوقاز التي تشارف البحور من بعض أطرافها، وللبحور أصوات، والتي تنطوي على الجنات الصغار في بعض أنحائها، وفي هذه الجنات مياه وأطيار وأشجار ودواب، ولكل هذه أصوات، والتي قد تهب فيها على هذه الجنات نسائم، وقد تهب رياح، وللنسائم همسات، وللزوابع صرخات؛ وقد تعلم القوقاز من شدو الطبيعة هذا غناء أوفر مما تعلمه العرب، فكان لغنائهم ألوان للأفراد، وألوان للجماعات، وألوان أخرى لشتى المباهج والأحزان، وألوان طاوعتهم في التعبير عن أنفسهم وما في أنفسهم من الحماسة والفخر والبطولة.

وإلى جانب هذا، فإن في غناء القوقاز ما يقوم دليلاً على حبهم للنساء والخمر والعبث وأما الرقص ففيه هذا كله أيضاً.

فهو رقص بالخناجر والسيوف.
وهو ليس إلا تمثيلاً للحرب، فيه من عنفها وحدتها كل عنفها وحدتها، لا يخففها شيء إلا ما يذكره المحاربون دائماً وهم في (أوقات الفراغ) من جمال النساء، وحلاوة الخمر، وبهجة العبث. فالراقص العربي والراقص القوقازي يكران ويفران، ويضربان ويطعنان، ولكنهما مع هذا يتثنيان ويتخلعان رشاقة وتلطفاً إرضاء للمرأة، كما يرتشفان الهواء وهما يرقصان ثم يترنحان سكراً أو تمثيلاً للسكر، كما يهزلان ويخلطان عبثاً ومرحاً ومجوناً هذه هي فنون الحرب في الشعوب المطبوعة على الحرب وهي منطلقة بفطرتها في براح الأرض. وعندما تستقر هذه الشعوب تبدأ فيها فنون الاستقرار، فينشأ الرسم والنحت والخط والعمارة والتمثيل.

ولعل أقرب مثل لهذه الشعوب هو الشعب التركي، فإنه لم تنشأ عنده هذه الفنون الأخرى إلا عندما اطمأن في أوربا، أما قبل ذلك فقد كان الشعب كله جيشاً، والجيش لا يملك أن يستقر لفن ما.
ولم يظهر النحت في الحضارة التركية العثمانية لأنها كانت حضارة إسلامية، ولأن المسلمين ظلوا زمناً طويلاً وهم يكرهون النحت لصلته القديمة بالوثنية الجاهلية التي أقام العرب فيها الأصنام ليعبدوها محاكاة لما كانت تفعله المدنيات التي كانت تطوق جزيرتهم.
فالنحت ليس من فنون المحاربين، ولذلك فإننا لا نراه عند القوقاز الذين لم يتسرب إليهم مثلما تسرب إلى العرب من رشح المدنيات وعندما تحارب الشعوب المستقرة بعضها بعضاً، أو عندما تصد هذه الشعوب غارة الغائرين عليها، تكف العمارة، ويكف النحت.
وقد كان للرسم أن ينام أيضاً لولا أن الطباعة تمهد له الانتقال الذي يلائم الحرب.
وقد كان للتمثيل أن يهدأ كذلك لولا أنه ينقلب دعايات حربية.
أما الشعر والغناء والرقص فهي فنون الحرب التي تستطيع مصاحبتها ومعاشرتها في كل حين. والعمارة تكف لأن الحرب تهدم القائم المبني فيما مضى، وهذا لا يشجع على البناء الجديد مادام البناء عرضة للهدم، والنحت يكف لأن صاحبه لن يجد عندما ينشغل الناس بالحرب من يزوره ليقرأ السلام على تمثاله، والرسم ليس من فنون الحرب الطبيعية لاستلزامه المكان والأدوات الثقيلة، وكذلك التمثيل، بل إن التمثيل يزيد على الرسم امتناعاً في الحرب لأنه يستلزم بطبعه كثيراً من الهدوء والاستسلام إلى حادثات الزمان ليستخلص منها موضوعات، والهدوء في الحرب منعدم، ولا حوادث في الحرب إلا هذه المآسي ذات اللون الواحد والطابع الواحد، وهي مما يحسه الأفراد العاديون إحساساً لا يمتاز عليه إحساس الفنانين امتيازاً كبيراً، وهي مما يعبر عنه الناس في كل ساعة بأقوالهم وأفعالهم فهم في غنى عن ترديده وترجيعه في رحاب الفن ولكن الرسم أنقذته المطبعة فمكنته من الحياة في الحرب، والتمثيل استعانته الدعاية فأعانها وإنه لقدير على نجدتها والرسم والتمثيل فنان، وهما لا يستطيعان متى تيقظا أن يستعصيا على دوافع الحياة ومؤثراتها فلا بد أن يخضعا لما تخضع له فنون الحرب من هذه الدوافع وهذه المؤثرات.
ولا بد أن تدب إليهما ما تخلقه الحرب في الأحياء من الحماسة والفخر بالبطولة والفتوة وسائر فضائل الحرب، كما يجب أن يشيع فيها الميل إلى النساء والخمر والعبث.
فهذا الموكب من الأحاسيس هو الذي تتجند له البشرية في الحرب والعالم اليوم في حرب، فهل ستنطبع الفنون بهذا الطابع الذي تبصمها به الحرب؟ قد كان العالم في حرب منذ ربع قرن.
ولقد حدث أن تأثرت الفنون بالحرب، فتوقفت العمارة والنحت، وانتعش الشعر بروح الحماسة التي استطاعت بقدرة الله أن تصل حتى إلى مصر وإلى أمير شعرائها المترف المرحوم أحمد شوقي بك فقال: بني مصر مكانكمو تهياً ...
فهيا مهدوا للملك هيا خذوا شمس النهار له حلياً ...
ألم تك تاج أولكم مليا؟ .

ومع أن الشعب لم يكن يفهم هذا الكلام (النحوي) فقد أساغه في لحن صاغه له فرد من أفراده كان فقيهاً يقرأ القرآن في المقابر، وكان فقيراً يستعين على الحياة في محنته بدهن الجدران وطلائها، وكان يغني في المواخير حيث كان يستطيع أن يجد من لا يتكبرون على الاستماع إليه وهو المرحوم الشيخ سيد درويش الذي غنى هذا النشيد بين عشرات الأغاني الملتهبة الأخرى وكما انتعش الشعر بهذه الروح الحماسية: سواء منه العربي والمصري الدارج، فقد انتعش الغناء بها في العالم كله وفي مصر أيضاً بفضل سيد درويش كذلك، ولم يبرأ الغناء في العالم كله، ومصر محسوبة في العالم، من الإسراف في ذكر النساء والخمر والعبث أما الرقص فقد جن جنونه في الدنيا، وكف الراقصون عن التانجو والفالس والفوكس تروت، وعفرتتهم الشارلستون وأمثالها من الرقصات المجنونة المكهربة التي انتشرت في العالم على أثر هدأة الحرب، والتي أخذها العالم عن الجنود الذين اقتبسوها من زملائهم المحاربين الزنوج الذين كانوا يجمعون من المستعمرات، فرأوا فيها ما كانت تنزع إليه أجسامهم من الترنح والنزق.
وقد مهد لهذه الرقصات الشعواء عند الناس حال النشاط الخارق وتوتر الأعصاب الذي استولى عليهم في الحرب أما الرسم فقد سخرته الحرب، فكان من أقوى وسائل الدعاية فيها، وازدهر منه الكاريكاتير الذي يحتمل سخرية الخصوم بالخصوم، والذي ينفسح لكل خيال يحلق إليه الرسام ومع هذا فلم يخل رسم الحرب من النساء والخمر والعبث، فقد انتشرت في الحرب العالمية الماضية صور النساء العاريات، والرجال العراة، كما ذاعت نكات السكارى المصورة وغيرها من النكات.
وكذلك التمثيل فقد احتضنت منه الدعاية جانباً كما احتضن منه المجون جانباً، فشارلي شابلن، وريجيدان , وكشكش بك، والبربري عثمان، كلهم من مواليد الحرب، وقد كانوا جميعاً في تمثيلهم يؤدون واجب الدعاية لأوطانهم وجيوشهم، كما كانوا جميعاً في يروحون عن الناس بتهريجهم.
وإذا كانوا قد مثلوا شيئاً بعد الحرب فإن طابع الحرب ظاهر فيه إلى مدى بعيد، فالعالم لم يستطع أن يتحول بشعوره عن حالة الحرب إلا بعد وقت طويل من خمودها. والذي يتابع روايات شارلي شابلن يرى أنها أخذت تتخلص شيئاً فشيئاً من التهريج المناسب للحرب، وتذهب شيئاً فشيئاً إلى نقد الحياة الإنسانية في جوهر نفسها وفي مظاهر اجتماعها حتى كانت روايته الأخيرة (العصر الحديث) نقداً عاماً للإنسانية عامة. ولكن شارلي لا بد أن يعود إلى فن الحرب منذ اليوم.
بل لقد أعلن العالم بروايته (الديكتاتورية) التي سيقارع بها ألمانيا وهتلر والتي أعتقد أن أثرها في النيل منهما سيكون أعظم بكثير من حملة تجردها جيوش كثيرة عليهما.

فإن هذه الرواية ستكون حملة يقود فيها شارلي شعبه الهائل الذي يكاد يشتمل أفراد الإنسانية جميعاً. وكذلك من يتابع روايات نجيب الريحاني يرى أنها كانت في أيام الحرب دعاية وبهجة وتهريجاً وعرضاً موسيقياً اتسع لثلاث زعامات فنية: هي زعامة نجيب الريحاني، وزعامة بديع خيري، وزعامة سيد درويش.

ثم أخذ مسرح الريحاني بعد ذلك يهدأ قليلاً قليلاً، حتى مثل الريحاني في السنوات الأخيرة كوميديات تكاد تكون درامات من كثرة ما فيها من الجد إلى جانب الهزل، ومن وضوح الهدف الخلقي الذي كانت تنطلق إليه.
فقد كان الريحاني أخيراً زعيماً مصرياً اجتماعياً مصلحاً، هو وشريكه بديع وأجد الحق يجبرني على أن أشهد بها لله أن مسرح الريحاني هو البيئة الفنية التي تماشي الحياة الطبيعية في مصر أكثر من غيرها ولابد أن يتغير الريحاني في الحرب.
ولكنه في هذه المرة لابد أن يرتقي عما كان عليه في الحرب السابقة، ولابد أن ينثر الدعاية والتهريج الأصيلين بين درر من موسيقى زكريا أحمد وفن الجد، وإن له في شارلي شابلن أستاذه أو زميله الكبير أسوة فإذا كان حال الفنون في الحرب العالمية الماضية هو هذا الحال الذي رأيناه فسيكون إذن حال الفنون هو هذا الحال نفسه في هذه الحرب العالمية القائمة إذا طال أمدها وتمكنت مؤثراتها من النفوس؛ وستكون هذه هي الحال في فنون الدنيا كلها، فإذا لم تظهر مثل هذه الفنون في مصر فان مصر إذن خالية من الفنانين.
وكل هؤلاء الذين يقولون نحن ونحن.

عليهم أن يقروا في المخابئ وعلى أفواههم الكمامات.

فهذا هو مجال الفن إذا كانوا يحسون أثر الحرب - فإذا لم يكونوا يحسون الحرب؟! - فقد يحسون القيامة.

فصبراً إلى يوم يبعثون! عزيز أحمد فهمي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣