للأستاذ عبد الحرمن شكري
قيل إن أبا العلاء المعري شرح ديوان المتنبي وسماه (معجز أحمد) وشرح ديوان أبي تمام وسماه (ذكرى حبيب) وشرح ديوان البحتري وسماه (عبث الوليد). ولعمري لو كان شعر البحتري عبثًا ما احتفل له أبو العلاء المعري ولما سلخ زمنًا من عمره في شرحه، وإلا كان المعري عابثًا لإضاعة وقته في شرح العبث. وهذا أمر يذكرني بكارليل والقرن الثامن عشر، فقد كان كارليل كلما ذكر القرن الثامن عشر في أوربا سماه العصر العقيم وعصر طاحونة المنطق، ويعني المنطق الفارغ وعصر الإلحاد؛ ولكنا لو درسنا مؤلفات كارليل لوجدنا أن أكثرها كان في دراسة القرن الثامن عشر ورجاله ونزعاته الفكرية والسياسية، ولو كان عقيمًا ما حفل له ولا أهتم به كل هذا الاهتمام. وكنت أود أن أسأل شيخ المعرة، على ما له عندي من الاحترام والمنزلة، هل شعر الوليد (ويعني البحتري وهو الوليد بن عبادة) هو العبث أم الجناس والتزام ما لا يلزم هو العبث؟ وإذا تساويا في العبث فأيهما أحب؟ يخيل إلي أن المعري إنما أراد أن يداعب البحتري، ولعله في صميم قلبه كان يحب عبث الصناعة بدليل ميله إلى الجناس والتزام ما لا يلزم؛ والحب يجلب المداعبة ويغري بها كما يداعب المحب حبيبه، وقد يكون ثقل المداعبة دليلًا على شدة الحب الذي لا يجد تنفيسًا وترويحًا إلا بالتثاقل بالمداعبة. وإذا أضفت إلى ذلك اعتزاز المعري بتفكير كثير ليس للبحتري مثله كنت قد جمعت بين شِقَّي المداعبة وسببيها. فليس من المحتوم أن يكون لها سبب واحد. على أن المعري يُغْري أحيانًا بمعارضة البحتري في شعره، وهذه مداعبة أخرى في ثناياها الجد فقد قال البحتري من قصيدة:
وعَيَّرتْني سجال العُدْم جاهلة ... والنبع عريان ما في فرعه ثمر
أي أن الفقر لا يعير به الرجل كما أن الشجر النافع مثل النبع لا يعير بأنه ليس له ثمر. فقال المعري يعارضه:
وقال (الوليد) النبع ليس بمثمر ... وأخطأ سِرْبُ الوحش من ثمَرِ النَّبْعِ
يعنى بالوليد البحتري ويقول: إن قول البحتري إن النبع ليس له ثمر خطأ لأن النبع تصنع منه القِسىُّ وبالقوس يقنص الصائد سرب الوحش، فكأن سرب الوحش من ثمر النبع الذ ليس له ثمر من فاكهة النبات. فبالله أليست هذه دعابة؟ ثم أليست فكرة المعري مأخوذة من بيت البحتري، إذ يعنى أن النبع الذي يمد القانص بالقوس من خشبه لا يعير بأنه ليس له ثمر من فاكهة النبات لأنه يكون سببًا في اقتناص القنص فله مزايا؟ فأيهما إذًا العابث؟ على أنه لو كان شعر البحتري عبثًا لكان أفضل من كثير من عبث الحياة الذي يسمى جدًا على سبيل تسمية الضد بالضد. ثم أما كفى المعري إضاعة وقته بشرح عبث الوليد في زعمه حتى يضيع جزءًا آخر من وقته بالإشارة إلى معانيه
والبحتري أقرب الشعراء في صناعته إلى أبي تمام وإن كان أبو تمام أكثر جرأة في تلك الصناعة وأعظم ابتداعًا. ونجد لأبي تمام معاني يجاريها البحتري، فأبو تمام يقول:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طُويَتْ أتاح لها لسان حسود
فيقول البحتري في المعنى نفسه:
ولن تستبين الدهر موضع نعمة ... إذا أنت لم تُدْلَلْ عليها بحاسد
وبيت أبي تمام أسير وأحسن معنى. وألاحظ أن الصناعة هنا هي التي أثقلت بيت البحتري وعاقته عن السير. أما أبو تمام فعرف كيف يجعل الصناعة خادمة للمثل السائر وأبى أن يعوقه بأن يحمله ثقلًا من الألفاظ، وهذا المعنى هو نصف الحقيقة المشاهدة في الحياة، والنصف الثاني من الحقيقة هو ما عبر عنه الشريف الرضي بقوله:
رُبَّ نعيم زال ريعانه ... بلسعة من عقرب الحاسد
وهناك فرق قليل في المعنى بين بيت البحتري وبيت أبي تمام ولكن الموضوع واحد. وقال أبو تمام أيضًا:
لو سعيت بقعة لإعظام نعمي ... لسعى نحوها المكان الجديب
فقال البحتري:
فَلَو أنَّ مشتاقًا تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
وقال أبو تمام أيضًا في أرجوزة:
إن الربيع أثر الزمان ... لو كان ذا روح وذا جثمان
مصورًا في صورة الإنسان ... لكان بَسَّامًا من الفتيان
فقال البحتري: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد زاد البحتري في المعنى واختصر كلماته وأحسن سبكه. والحقيقة هي أن البحتري قلما يأخذ معنى إلا زاد فيه وأجاد سبكه أو تصرف في معناه. أنظر كيف أخذ قول أبي الصخر الهذلي:
تكاد يَدِي تَنْدَى إذا ما لمستها ... وتنبت في أطرافها الورق الخُضر
فالهذلي يقول إنه إذا لمس حبيبته أعدته بالحسن، ولكن أي حسن؟ حسن النبات، فجعل البحتري العدوى بحسن الإنسان فقال:
أغتدي راضيًا وقد بتُّ غضبا ... ن وأمسى مولى وأصبح عبدا
وبنفسي أفدى على كل حال ... شاديًا لو يُمَسُّ بالحسن أعدى
وقد ظلم أبن الرومي البحتري بقوله فيه:
كل بيت له يُجَوِّدُ معنا ... هـ فمعناه لابن أوس حبيب
فإننا لو شئنا لأتينا بأبيات يشترك في معانيها ابن الرومي ومن كان قبله من الشعراء. ويمتاز البحتري بجودة الصنعة، وكثيرًا ما يزيد المعنى، أنظر إلى قول أبي تمام: (ولا يَحيِفُ رضا منه ولا غضب) وإلى قول البحتري:
يُرْتَجى للصفح موتورًا ولا ... يَهبُ السُّؤْدَدَ فيه للحَنَقْ
فصفح الموتور أعظم من صفح الغاضب، والشطر الثاني زاد المعنى بهاء. لا شك أن ابن الرومي كان أكثر ابتداعًا، وكان يجيد الصنعة ولكن للبحتري قطعًا لا يستطيع أبن الرومي محاكاتها في حلاوة الصنعة ولا سيما في المدح، ومدح البحتري كان أسهل متناولًا، ولعل هذا وحلاوة صنعته مما جعله مسعودًا لدى الممدوحين أكثر من أبن الرومي. والظاهر أن الأمراء، والوجهاء كانوا يسيئون الظن بمدح أبن الرومي أحيانًا لأنه كان هجاء ساخرًا، ومن كان كذلك حُمِلَ بعض مدحه على محمل السخر، وهذا أمر مشاهد في الحياة. أما البحتري فإنه يذكرنا بما يحكى عن أحد طهاة باريس الذي أجاد صناعة الطهي حتى أنه طبخ ذات مرة نعلًا سال له لعاب آكليه من جودة صناعة الطهي. وقد بلغت جودة الصنعة في شعر البحتري مبلغًا جعلها تحاكي العاطفة والوجدان كما نرى في بعض غزله، ولكن لو كان كل ما في شعر البحتري حلاوة في الصنعة لما حفل به أبن الرومي قدر ما حفل به؛ وأما إتقان صناعة البحتري محاكاة صدق العاطفة فهي صفة في كبار الفنانين. فالممثل الكبير إذا مثل الحزن أو الحب لم تفرق بين الحقيقة والمحاكاة، بل إن المحاكاة تصير حقيقة حتى أن الفنان نفسه قد يخدع بمظهرهما في نفسه كما يخدع المعجبون بفنه، ومن أجل ذلك قد تختلط حقيقة العاطفة ومحاكاتها في حياة الفنان كما تختلط الحقيقة والعاطفة في فنه. أنظر مثلًا إلى قصة البحتري وغزله في مملوكه نسيم الذي كان يبيعه ويقبض ثمنه ثم يصنع فيه غزلًا من أرق الغزل ويعرضه على المثرى الذي اشتراه فيرد المملوك إليه هدية فيربح المملوك، ويربح ثمنه، ويصنع غزلًا من غزل محاكاة العاطفة، ولكن حلاوة الصنعة فيه تغطي على المحاكاة وتختلط الحقيقة والخيال فيه.
والمدح في شعر البحتري لا يقل كثيرًا في جودته عن المدح في شعر أبي تمام. وإذا أردت أن تنتخب خلاصة الخلاصة لم تستطع ترك المدح من شعرهما. أما أبن الرومي فإن له أشياء في موضوعات وأبواب أخرى تلهيك عن مدحه عند اختيار خلاصة الخلاصة من شعره، وإن كان له في المدح قدرة كبيرة. ومن بديع شعر البحتري في المدح قوله:
تلقِى إليه المعالي قصد أوجهها ... كالبيت يقصد أَمًّا بالمحاريب
كالعين منهومةً بالحسن تتبعه ... والأنف تطلب أعلى منتهى الطيب
وقوله:
علا رأيه مرمى العقول فلم تكن ... لتنصفه في بعده وارتفاعه
وقارب حتى أطمع الغر نفسه ... مكاذبة في ختله واختداعه
فهذه الأقوال ليست صنعة فحسب بل هي أيضًا خيال وفكر. وأنظر إلى قوله في مدح قوم توارثوا خصال الحمد:
خلقٌ منهم تردد فيهم ... ولِيَتْه عصابة عن عصابَهْ
كالحسام الجراذ يبقى على الده ... ر ويفنى في كل عصر قرابه
أو قوله:
جهير خطاب يخفض القوم عنده ... معاريض قول كالرياح الرواكد
وهذا تشبيه بديع، وانظر إلى قوله:
مدرك بالظنون ما طلبوه ... بفنون الأخبار فنًا ففنًا وقوله:
وكأن الذكاء يبعث فيه ... في سواد الأمور شعلة نار
وقوله:
صحبوا الزمان الفرط إلا أنه ... هرم الزمان وعزهم لم يهرم
وقوله:
عليم بتصريف الأمور كأنما ... يعاني صروف الدهر من عهد تُبَّعِ
وقوله:
عَجلٌ إلى نجح الفعال كأنما ... يمس على وِتر من الموعود
وقوله:
وكم لبست الخفض في ظله ... عمري شباب وزماني ربيع
فمدحه حلو شائق سواء أكان المعنى سائرًا مألوفًا أم كان جديدًا مبتدعًا. أنظر إلى دقة المدح في قوله:
لم يرتفع عن مراعاة الصغير ولم ... ينزل إلى الطمع المخسوس إسفافا
ولكنه مع ذلك لا يخلو من أشياء فيها فتور الصنعة وتكلفها عندما تكون الصنعة قاهرة لعاطفته الفنية ومنافسة لها بدل أن تكون زميلتها أو خادمتها. وقد روى أنه أحرق أكثر هجائه الذي به فحش وأن كان في ديوانه القليل من هذا النوع وله في الهجاء أشياء مستحسنة مثل قوله:
تزيد الإهانة في حاله ... صلاحًا وتُفسِدُهُ التكْرِمهْ
وهذا البيت يصف الإنسانية في بعض حالاتها وهو في معناه شبيه بقول القائل:
يُصْبحُ أعداؤه على ثقة ... منه وخِلاَّنُهُ على وَحَل
تَذَلُّلًا للعدو عن ضعة ... وصولةً بالصديق عن نغَل
ومن مأثور هجاء البحتري قوله:
وبعضهُمُ في اختبارته ... يُحبُّ الدناءة حبَّ الوطن
والظاهر أنه لم يجد حبًا أشد من حب الوطن كي يقارن به حب المهجو للدناءة. ومن المشهور قوله أيضًا: كل المظالم رُدَّتْ غير مظلمة ... مجرورة في مواعيد ابن عباس
مَنعْتنِي فرحة النجح الذي التمست ... نفسي فلا تمنعَنِّي فرحة الياس
وأبياته التي يقول فيها:
وبعد عن المعروف حتى كأنما ... ترون به سقم النفوس الصحائح
والأبيات التي يقول فيها (ويعتمد العتاب من السباب) وذمه على أي حال لا يقارن بهجاء أبن الرومي الذي بزهم جميعًا في بابه
والبحتري لا يُعني نفسه كثيرًا بالتفكير في معضلات الحياة كما يفعل المعري، ولكن أمرًا واحدًا يفكر فيه كثيرًا وهو تفاوت الناس في الحظوظ ولا سيما في قسمة المال حتى أن في بعض قوله نفحة من الاشتراكية؛ فهو يقول إن الغنى مفسدة والفقر مفسدة ويود لو تقاربت الحظوظ في المال، وهو يكرر هذا المعنى فيقول
كان يُحْيِي هالكًا من ظمأ ... بعض ما أوْبق ميْتًا من غرق
ويعني بالظمأ والغرق قلة المال وكثرته، ثم يكرر هذا المعنى فيقول
تفاوتت الأيام فينا فأفرطت ... بظمأن بادٍ لوحُةُ وغريقِ
وتمنيه في البيت الأول أن يسعد جميع الناس في الحظوظ يخالف قول أبن الرومي:
ومُحَالٌ أن يَسْعد السعداءُ ال ... دهرَ إلا بشقوة الأشقياء
(البقية في العدد القادم)
عبد الرحمن شكري
للأستاذ عبد الحرمن شكري
قيل إن أبا العلاء المعري شرح ديوان المتنبي وسماه (معجز أحمد) وشرح ديوان أبي تمام وسماه (ذكرى حبيب) وشرح ديوان البحتري وسماه (عبث الوليد). ولعمري لو كان شعر البحتري عبثًا ما احتفل له أبو العلاء المعري ولما سلخ زمنًا من عمره في شرحه، وإلا كان المعري عابثًا لإضاعة وقته في شرح العبث. وهذا أمر يذكرني بكارليل والقرن الثامن عشر، فقد كان كارليل كلما ذكر القرن الثامن عشر في أوربا سماه العصر العقيم وعصر طاحونة المنطق، ويعني المنطق الفارغ وعصر الإلحاد؛ ولكنا لو درسنا مؤلفات كارليل لوجدنا أن أكثرها كان في دراسة القرن الثامن عشر ورجاله ونزعاته الفكرية والسياسية، ولو كان عقيمًا ما حفل له ولا أهتم به كل هذا الاهتمام. وكنت أود أن أسأل شيخ المعرة، على ما له عندي من الاحترام والمنزلة، هل شعر الوليد (ويعني البحتري وهو الوليد بن عبادة) هو العبث أم الجناس والتزام ما لا يلزم هو العبث؟ وإذا تساويا في العبث فأيهما أحب؟ يخيل إلي أن المعري إنما أراد أن يداعب البحتري، ولعله في صميم قلبه كان يحب عبث الصناعة بدليل ميله إلى الجناس والتزام ما لا يلزم؛ والحب يجلب المداعبة ويغري بها كما يداعب المحب حبيبه، وقد يكون ثقل المداعبة دليلًا على شدة الحب الذي لا يجد تنفيسًا وترويحًا إلا بالتثاقل بالمداعبة. وإذا أضفت إلى ذلك اعتزاز المعري بتفكير كثير ليس للبحتري مثله كنت قد جمعت بين شِقَّي المداعبة وسببيها. فليس من المحتوم أن يكون لها سبب واحد. على أن المعري يُغْري أحيانًا بمعارضة البحتري في شعره، وهذه مداعبة أخرى في ثناياها الجد فقد قال البحتري من قصيدة:
وعَيَّرتْني سجال العُدْم جاهلة ... والنبع عريان ما في فرعه ثمر
أي أن الفقر لا يعير به الرجل كما أن الشجر النافع مثل النبع لا يعير بأنه ليس له ثمر. فقال المعري يعارضه:
وقال (الوليد) النبع ليس بمثمر ... وأخطأ سِرْبُ الوحش من ثمَرِ النَّبْعِ
يعنى بالوليد البحتري ويقول: إن قول البحتري إن النبع ليس له ثمر خطأ لأن النبع تصنع منه القِسىُّ وبالقوس يقنص الصائد سرب الوحش، فكأن سرب الوحش من ثمر النبع الذ ليس له ثمر من فاكهة النبات. فبالله أليست هذه دعابة؟ ثم أليست فكرة المعري مأخوذة من بيت البحتري، إذ يعنى أن النبع الذي يمد القانص بالقوس من خشبه لا يعير بأنه ليس له ثمر من فاكهة النبات لأنه يكون سببًا في اقتناص القنص فله مزايا؟ فأيهما إذًا العابث؟ على أنه لو كان شعر البحتري عبثًا لكان أفضل من كثير من عبث الحياة الذي يسمى جدًا على سبيل تسمية الضد بالضد. ثم أما كفى المعري إضاعة وقته بشرح عبث الوليد في زعمه حتى يضيع جزءًا آخر من وقته بالإشارة إلى معانيه
والبحتري أقرب الشعراء في صناعته إلى أبي تمام وإن كان أبو تمام أكثر جرأة في تلك الصناعة وأعظم ابتداعًا. ونجد لأبي تمام معاني يجاريها البحتري، فأبو تمام يقول:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طُويَتْ أتاح لها لسان حسود
فيقول البحتري في المعنى نفسه:
ولن تستبين الدهر موضع نعمة ... إذا أنت لم تُدْلَلْ عليها بحاسد
وبيت أبي تمام أسير وأحسن معنى. وألاحظ أن الصناعة هنا هي التي أثقلت بيت البحتري وعاقته عن السير. أما أبو تمام فعرف كيف يجعل الصناعة خادمة للمثل السائر وأبى أن يعوقه بأن يحمله ثقلًا من الألفاظ، وهذا المعنى هو نصف الحقيقة المشاهدة في الحياة، والنصف الثاني من الحقيقة هو ما عبر عنه الشريف الرضي بقوله:
رُبَّ نعيم زال ريعانه ... بلسعة من عقرب الحاسد
وهناك فرق قليل في المعنى بين بيت البحتري وبيت أبي تمام ولكن الموضوع واحد. وقال أبو تمام أيضًا:
لو سعيت بقعة لإعظام نعمي ... لسعى نحوها المكان الجديب
فقال البحتري:
فَلَو أنَّ مشتاقًا تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
وقال أبو تمام أيضًا في أرجوزة:
إن الربيع أثر الزمان ... لو كان ذا روح وذا جثمان
مصورًا في صورة الإنسان ... لكان بَسَّامًا من الفتيان
فقال البحتري: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد زاد البحتري في المعنى واختصر كلماته وأحسن سبكه. والحقيقة هي أن البحتري قلما يأخذ معنى إلا زاد فيه وأجاد سبكه أو تصرف في معناه. أنظر كيف أخذ قول أبي الصخر الهذلي:
تكاد يَدِي تَنْدَى إذا ما لمستها ... وتنبت في أطرافها الورق الخُضر
فالهذلي يقول إنه إذا لمس حبيبته أعدته بالحسن، ولكن أي حسن؟ حسن النبات، فجعل البحتري العدوى بحسن الإنسان فقال:
أغتدي راضيًا وقد بتُّ غضبا ... ن وأمسى مولى وأصبح عبدا
وبنفسي أفدى على كل حال ... شاديًا لو يُمَسُّ بالحسن أعدى
وقد ظلم أبن الرومي البحتري بقوله فيه:
كل بيت له يُجَوِّدُ معنا ... هـ فمعناه لابن أوس حبيب
فإننا لو شئنا لأتينا بأبيات يشترك في معانيها ابن الرومي ومن كان قبله من الشعراء. ويمتاز البحتري بجودة الصنعة، وكثيرًا ما يزيد المعنى، أنظر إلى قول أبي تمام: (ولا يَحيِفُ رضا منه ولا غضب) وإلى قول البحتري:
يُرْتَجى للصفح موتورًا ولا ... يَهبُ السُّؤْدَدَ فيه للحَنَقْ
فصفح الموتور أعظم من صفح الغاضب، والشطر الثاني زاد المعنى بهاء. لا شك أن ابن الرومي كان أكثر ابتداعًا، وكان يجيد الصنعة ولكن للبحتري قطعًا لا يستطيع أبن الرومي محاكاتها في حلاوة الصنعة ولا سيما في المدح، ومدح البحتري كان أسهل متناولًا، ولعل هذا وحلاوة صنعته مما جعله مسعودًا لدى الممدوحين أكثر من أبن الرومي. والظاهر أن الأمراء، والوجهاء كانوا يسيئون الظن بمدح أبن الرومي أحيانًا لأنه كان هجاء ساخرًا، ومن كان كذلك حُمِلَ بعض مدحه على محمل السخر، وهذا أمر مشاهد في الحياة. أما البحتري فإنه يذكرنا بما يحكى عن أحد طهاة باريس الذي أجاد صناعة الطهي حتى أنه طبخ ذات مرة نعلًا سال له لعاب آكليه من جودة صناعة الطهي. وقد بلغت جودة الصنعة في شعر البحتري مبلغًا جعلها تحاكي العاطفة والوجدان كما نرى في بعض غزله، ولكن لو كان كل ما في شعر البحتري حلاوة في الصنعة لما حفل به أبن الرومي قدر ما حفل به؛ وأما إتقان صناعة البحتري محاكاة صدق العاطفة فهي صفة في كبار الفنانين. فالممثل الكبير إذا مثل الحزن أو الحب لم تفرق بين الحقيقة والمحاكاة، بل إن المحاكاة تصير حقيقة حتى أن الفنان نفسه قد يخدع بمظهرهما في نفسه كما يخدع المعجبون بفنه، ومن أجل ذلك قد تختلط حقيقة العاطفة ومحاكاتها في حياة الفنان كما تختلط الحقيقة والعاطفة في فنه. أنظر مثلًا إلى قصة البحتري وغزله في مملوكه نسيم الذي كان يبيعه ويقبض ثمنه ثم يصنع فيه غزلًا من أرق الغزل ويعرضه على المثرى الذي اشتراه فيرد المملوك إليه هدية فيربح المملوك، ويربح ثمنه، ويصنع غزلًا من غزل محاكاة العاطفة، ولكن حلاوة الصنعة فيه تغطي على المحاكاة وتختلط الحقيقة والخيال فيه.
والمدح في شعر البحتري لا يقل كثيرًا في جودته عن المدح في شعر أبي تمام. وإذا أردت أن تنتخب خلاصة الخلاصة لم تستطع ترك المدح من شعرهما. أما أبن الرومي فإن له أشياء في موضوعات وأبواب أخرى تلهيك عن مدحه عند اختيار خلاصة الخلاصة من شعره، وإن كان له في المدح قدرة كبيرة. ومن بديع شعر البحتري في المدح قوله:
تلقِى إليه المعالي قصد أوجهها ... كالبيت يقصد أَمًّا بالمحاريب
كالعين منهومةً بالحسن تتبعه ... والأنف تطلب أعلى منتهى الطيب
وقوله:
علا رأيه مرمى العقول فلم تكن ... لتنصفه في بعده وارتفاعه
وقارب حتى أطمع الغر نفسه ... مكاذبة في ختله واختداعه
فهذه الأقوال ليست صنعة فحسب بل هي أيضًا خيال وفكر. وأنظر إلى قوله في مدح قوم توارثوا خصال الحمد:
خلقٌ منهم تردد فيهم ... ولِيَتْه عصابة عن عصابَهْ
كالحسام الجراذ يبقى على الده ... ر ويفنى في كل عصر قرابه
أو قوله:
جهير خطاب يخفض القوم عنده ... معاريض قول كالرياح الرواكد
وهذا تشبيه بديع، وانظر إلى قوله:
مدرك بالظنون ما طلبوه ... بفنون الأخبار فنًا ففنًا وقوله:
وكأن الذكاء يبعث فيه ... في سواد الأمور شعلة نار
وقوله:
صحبوا الزمان الفرط إلا أنه ... هرم الزمان وعزهم لم يهرم
وقوله:
عليم بتصريف الأمور كأنما ... يعاني صروف الدهر من عهد تُبَّعِ
وقوله:
عَجلٌ إلى نجح الفعال كأنما ... يمس على وِتر من الموعود
وقوله:
وكم لبست الخفض في ظله ... عمري شباب وزماني ربيع
فمدحه حلو شائق سواء أكان المعنى سائرًا مألوفًا أم كان جديدًا مبتدعًا. أنظر إلى دقة المدح في قوله:
لم يرتفع عن مراعاة الصغير ولم ... ينزل إلى الطمع المخسوس إسفافا
ولكنه مع ذلك لا يخلو من أشياء فيها فتور الصنعة وتكلفها عندما تكون الصنعة قاهرة لعاطفته الفنية ومنافسة لها بدل أن تكون زميلتها أو خادمتها. وقد روى أنه أحرق أكثر هجائه الذي به فحش وأن كان في ديوانه القليل من هذا النوع وله في الهجاء أشياء مستحسنة مثل قوله:
تزيد الإهانة في حاله ... صلاحًا وتُفسِدُهُ التكْرِمهْ
وهذا البيت يصف الإنسانية في بعض حالاتها وهو في معناه شبيه بقول القائل:
يُصْبحُ أعداؤه على ثقة ... منه وخِلاَّنُهُ على وَحَل
تَذَلُّلًا للعدو عن ضعة ... وصولةً بالصديق عن نغَل
ومن مأثور هجاء البحتري قوله:
وبعضهُمُ في اختبارته ... يُحبُّ الدناءة حبَّ الوطن
والظاهر أنه لم يجد حبًا أشد من حب الوطن كي يقارن به حب المهجو للدناءة. ومن المشهور قوله أيضًا: كل المظالم رُدَّتْ غير مظلمة ... مجرورة في مواعيد ابن عباس
مَنعْتنِي فرحة النجح الذي التمست ... نفسي فلا تمنعَنِّي فرحة الياس
وأبياته التي يقول فيها:
وبعد عن المعروف حتى كأنما ... ترون به سقم النفوس الصحائح
والأبيات التي يقول فيها (ويعتمد العتاب من السباب) وذمه على أي حال لا يقارن بهجاء أبن الرومي الذي بزهم جميعًا في بابه
والبحتري لا يُعني نفسه كثيرًا بالتفكير في معضلات الحياة كما يفعل المعري، ولكن أمرًا واحدًا يفكر فيه كثيرًا وهو تفاوت الناس في الحظوظ ولا سيما في قسمة المال حتى أن في بعض قوله نفحة من الاشتراكية؛ فهو يقول إن الغنى مفسدة والفقر مفسدة ويود لو تقاربت الحظوظ في المال، وهو يكرر هذا المعنى فيقول
كان يُحْيِي هالكًا من ظمأ ... بعض ما أوْبق ميْتًا من غرق
ويعني بالظمأ والغرق قلة المال وكثرته، ثم يكرر هذا المعنى فيقول
تفاوتت الأيام فينا فأفرطت ... بظمأن بادٍ لوحُةُ وغريقِ
وتمنيه في البيت الأول أن يسعد جميع الناس في الحظوظ يخالف قول أبن الرومي:
ومُحَالٌ أن يَسْعد السعداءُ ال ... دهرَ إلا بشقوة الأشقياء
(البقية في العدد القادم)
عبد الرحمن شكري