أرشيف المقالات

المجاهرة بقول السوء وفعله

مدة قراءة المادة : 24 دقائق .
المُجَاهَرَةُ بقول السُّوء وفعله


المجاهرة في اللغة: من جَهَرَ يَجْهَرُ جَهْرًا وجِهَارًا، والجهر: هو إعلان الشَّيء وكَشْفُهُ وعُلُوُّهُ، يُقال: جَهَرْتُ الشيءَ وأجْهَرْتُه إِذَا كَشَفْتُهُ وأَظْهَرْتُه، وجَهَرْتُه واجْتَهَرْتُه: أَي رأَيتُه بِلا حِجَاب بيني وبينَه، والجَهْرَةُ: ما ظَهَرَ ورآه جَهْرَةً غيرَ مُسْتَتِر بشيء، وجَهَرَ بالقول: إِذ رفع به صوته، فهو جَهِيرٌ وأَجْهَرَ، وكُلُّ إِعْلانٍ جَهْرٌ، وإِجْهارُ الكلام إِعْلانُه، وجَاهَرَهُمْ بالأَمر مُجاهَرَةً وجِهاراً، أي: عَالَنَهُمْ وأظهر ما استتر من فعله[1].
 
وعليه فالمجاهرة نوعان: مجاهرة بقول السُّوء، ومجاهرة بفعل السُّوء.
أما المجاهرة بقول السُّوء: فهي كلُّ قول حذَّر الله منه ونهى عنه، وقد أخبر الله عن عدم محبَّته لذلك، فقال تعالى: ﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: ١٤٨] أي: لا يحبُّ اللهُ جَهْرَ أحد بالسُّوء من القول، لأنَّه مِن فِعل أهل الجفاء والجهل، إلَّا جَهْرَ من ظُلِم، فقد رخَّص الله للمظلوم الجهرَ بالقول السيّىء ليشفيَ غضبَه، حتّى لا يَثُوب إلى البَطش بيده، وفي هذا الإذن توسعة على من لا يمسك نفسَه عندَ لَحَاق الظُّلم به.


وهو مخصوص بما لا يتجاوز حدَّ التَّظلُّم فيما بينه وبين ظالمه، أو شكاية ظلمه، كأن يقول له: ظلمتني، أو أنت ظالم؛ وأن يقول للنَّاس: إنَّه ظالم، أو أن يدعو عليه جهراً، لأنّ الدُّعاء عليه إعلان بظلمه، وإحالته على عدل الله تعالى، أو أن يُظهر فضائحَ وقبائح من عَظُم ضررُه، وكَثُرَ مَكرُه وكيدُه، كي يحذرَه النُّاسُ[2].

وأمَّا المُجاهرة بفعل السُّوء: فهي إظهار المعاصي والمنكرات وعدم الاستتار بها، أو هي كشفُ ما ستر اللهُ تعالى على العبد منها، وذلك بالتَّحدُّث عنها وإظهارها[3]، وقد ورد في الحديث عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ»[4].
 
فقوله: «كلُّ أمَّتي مُعَافى» أي: من عقوبة الله تعالى له على ذنبِّه، فإنَّه إذا ستره في الدُّنيا ستره في الأُخرى وعفا عنه، أو أنَّهم سالمون كلُّهم عن ألسن النَّاس وأيديهم[5].
 
أمَّا إن أعلن بمعصيته استهتاراً وتفكُّهاً بعد أن ستره الله تعالى، فإنَّ ذلك يَدلُّ على جُرأَته وإقدامه على المعاصي، وعدم حيائه من ربِّه ولا من عباده، حتى يصبح مُشتَهِراً بها[6]، وهي خيانة منه على سِتر الله الذي أسدله عليه، وتحريك لرغبة الشَّرِّ فيمن أسمعه أو أشهده، فهما جنايتان انضمتا إلى جنايته فتغلَّظَت به، فإن انضاف إلى ذلك الترغيبُ للغير فيه، والحمل عليه، صارت جناية رابعة، وتفاحش الأمر[7].
 
أمَّا إن وقعتِ المجاهرة منه على وجه السؤال والاستفتاء أو لمصلحة، فإنَّ ذلك يجوز بدليل خبر من واقع امرأته في رمضان فأخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه[8].
 
وقد نقل ابن حجر عن ابن بَطَّال قولَه: «في الجهر بالمعصية استخفاف بحقِّ الله ورسوله، وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي التستر بها السَّلامة من الاستخفاف، لأنَّ المعاصي تُذلُّ فاعلها، من إقامة الحدِّ عليه إن كان فيها حَدٌّ، ومن التعزير إن لم تُوجب حَدًّا، وإذا تمحَّض حقُّ الله وهو أكرم الأكرمين، فكذا إذا ستره في الدُّنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهِر بها يفوته جميع ذلك، والحديث مُصَرّح بذمّ من جاهر بالمعصية، فيستلزم مدحَ من تستَّر، وسِتْرُ الله مُسْتَلزِمٌ لستر المؤمن على نفسه، فمن قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها فقد أغضب ربَّه فلم يستره، ومن قصد التَّستُّر بها مَنَّ اللهُ عليه بستره إيَّاها»[9].
 
عقوبة المجاهرة بالمنكرات:
أولاً: العذاب في الدنيا والآخرة:
وفي ذلك يقول الله تعالى:  ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ ﴾ [النور: ١٩] فالآية وإن كان لها سبب خاص، إلَّا أنَّ العبرة بعموم لفظها، فتعمُّ كلَّ من يشيع الفواحش في المجتمع، مُنافقاً كان أو مؤمناً، وتعليق الوعيد على محبَّة الشياع دليل على أنَّ إرادة الفسقِ فسقٌ، وشيوعُ الفاحشة: هو انتشارها واشتهارها، والتَّحدُّث والمجاهرة بها، فمن يجهر بإشاعة الفاحشة ونشرها والترويج لها يستحِقُّ العذاب في الدُّنيا، وهو الحدُّ أو التعزير، وعذاب النار في الآخرة، وهو خاصّ بالمنافقين، لأنَّ الحدَّ كفارة لأهل الإيمان[10].

وعليه: فالآية تدلُّ بمفهومها على وجوب سلامة القلب للمؤمنين، ووجوب كفِّ الجوارح عمَّا يضرُّ بهم[11].
وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا ظَهَرَ الزِّنَى والرِّبَا في قَريَة فقد أَحَلُّوا بأنفسهم عذابَ الله»[12]، وكذا عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الزِّنَى وَالرِّبَا إِلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ»[13]، فظهور الفاحشة والمجاهرة بها يورث استحقاق العذاب والعقوبة.
 
ثانياً: انتشار العِلل والآفات التي لم تكن تظهر فيمن مضى:
ويدلُّ على ذلك ما رُوِي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم تظهر الفاحشةُ في قوم قطُّ حتى يُعْلِنُوا بِهَا إلَّا فَشَا فيهم الطاعونُ والأوجَاعُ التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوا، ...»[14]، وفي هذا الحديث من دلائل النبوة والإخبار عن المغيَّبات ما نشاهده في عصرنا اليوم، فقد بدأت تفشو بعض العِلل والأمراض التي لم يعرفها السابقون، بل إنَّه مع جُرأة النَّاس واستهتارهم بالمجاهرة بالفواحش والمنكرات وممارستها بدأنا نسمع بين الفينة والأخرى بآفات وأمراض جديدة، يقف الطِّب عاجزاً عن علاجها مع كل ما وصل إليه من تطور.
 
ثالثاً: عموم العقوبة عند انتشار الفواحش وفشوِّها:
فالمحن والعقوبات الرَّبَّانيَّة التي تحلُّ بسبب فشو الفواحش والمنكرات في المجتمعات لا تخصُّ أصحاب المعاصي فحسب، بل تصيب كلَّ أفراد المجتمع، لأنهم لم يدفعوها، ويمنعوا ظهورها بين ظهرانيهم، قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: ٢٥] وهو تحذير للمؤمنين من أن يتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[15].


وفي الحديث عن عدي بن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ لا يعذِّبُ العَامَّة بعمل الخاصَّةِ حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذَّب اللهُ الخاصَّة والعَامَّة»[16].
 
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالمـَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَن المـُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَاباً مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُوْنَهُ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ»[17].
 
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:«كان يُقَال: إنَّ الله تبارك وتعالى لا يعذِّب العَامَّة بذنب الخاصَّة، ولكن إذا عُمِلَ المنكر جِهَارًا استَحَقُّوا العقوبة كلُّهم»[18].
 
رابعاً: المجاهرة بالمعاصي مُؤْذِنٌ بقرب الساعة وأهوالها:
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسُ محمد بيده لا تقوم السَّاعَة حتى يظهرَ الفُحش والتَّفحُّش، وسوءُ الجِوار، وقطيعةُ الأرحام، وحتى يُخوَّنَ الأمينُ، ويُؤتمن الخائنُ»[19]، والمتفحِّش: هو الذي يتكلَّف سَبَّ النَّاس ويُفْحِشُ عليهم بلسانه، ويأْتي بالفاحشة المـَنْهيّ عنها[20]، أو هو الذي يتكلَّف الفُحش في كلامه وفعاله مُتعمِّداً[21].
 
واجب أهل الإيمان عند فشو الفواحش وشيوعها:
أولاً: القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فقد اتَّفق الكتاب والسنَّة على وجوب ذلك بشروطه[22]، فقال تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: ١٠٤]، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإيمَانِ»[23].
 
ثانياً: محاسبة المستهترين والمجاهرين عند ثبوت البيّنة عليهم:
ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرَجَمْتُ فلانةً، فقد ظهرَ مِنْهَا الرِّيْبَةُ في منطِقِهَا وهيْئَتِهَا ومن يَدْخُل عليهَا»[24]، قال ابن حجر: «قال المهلب: فيه أنَّ الحدَّ لا يجب على أحد بغير بينة أو إقرار، ولو كان مُتهمًا بالفاحشة، وقال النووي: معنى «تظهر السوء» أنَّه اشتهر عنها وشاع، ولكن لم تقم البينة عليها بذلك ولا اعترفت، فدلَّ على أنَّ الحدَّ لا يجب بالاستفاضة»[25]، ولكن لو ثبت البينة على من يظهر السوء ويعلن به فإنه لا بد من محاسبته وإقامة حد الله عليه.
 
ثالثاً: أَمْرُ أهلِ المعاصي بالاستتار بستر الله:
فعن زيد بن أسلم: أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله r، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط، فأُتيَ بسَوط مكسور، فقال: «فوق هذا»، فأُتيَ بسَوط جديد لم تُقطع ثمرته، فقال: «دون هذا»، فأُتيَ بسَوط قد ركب به ولَان، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجُلِد، ثم قال: «أيها النَّاس: قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القَاذورات شيئًا فليستتر بستر الله، فإنَّه من يُبدي لنا صفحته نُقِم عليه كتابَ الله»[26].
 
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بعد أن رجم الأسلمي فقال: «اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها، فمن ألمَّ فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنَّه من يُبْدِ لنا صفحته نُقِم عليه كتاب الله عزَّ وجلَّ»[27].
 
قال المناوي: «عُلِم من الحديث أنَّ من وَاقَع شيئًا من المعاصي ينبغي أن يستتر، وحينئذ فيَمْتَنع التَّجسس عليه؛ لأدائه إلى هتك الستر، قال الغزالي: وحَدُّ الاستتار أن يغلق بابَ داره، ويستتر بحيطانه، قال: فلا يجوز استراق السمع على داره ليسمع صوت الأوتار، ولا الدخول عليه لرؤية المعصية، إلَّا أن يظهر عليه ظهورًا يعرفه من هو خارج الدَّار، كصوت آلة اللهو، والسكارى لا يجوز أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يستخبر جيرانه ليخبروه بما جرى في داره»[28].
 
فالمعصية إن خفيتْ اقتصر أثرُها على فاعلها، أمَّا إن شاعت وانتشرت ولم يؤخذ على يد فاعلها فإنَّها تُجَرِّئُ ضعافَ النُّفوس والإيمان على الوقوع فيها ومحاكاتها، فعن الأوزاعي رحمه الله قال: سمعت بلال بن سعد يقول: «إنَّ المعصية إذا خفيت لم تضرَّ إلَّا صاحبَها، وإذا أُعلِنتْ فلم تُغَيَّرْ ضَرْتْ العَامَّة»[29].
 
رابعاً: هجرة الأرض التي يجاهر أهلها بالفواحش والمنكرات ولا يتمكَّن أهلُ الإيمان من تغييرها:
فقد نهى لله تعالى عباده عن أدنى الميل والركون إلى أهل الظلم عموماً، وأوعدهم بعذاب النار، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [هود: ١١٣]، والركون إليهم يكون بمجالستهم، وتعظيم ذكرهم، والتزيي بزيهم، مع ترك تذكيرهم ووعظهم[30]، فالآية دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم؛ فإن صحبتهم لا تكون إلا عن مودة[31].
 
قال الفخر الرازي: «الركون المنهي عنه: هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم، وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند غيرهم، ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب، فأما مداخلتهم لدفع ضرر أو اجتلاب منفعة عاجلة فغير داخل في الركون»[32].
 
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «يُهْلِكُ النَّاسَ هذا الحيُّ من قريش»، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «لو أنَّ النَّاسَ اعتزلوهم»[33].
 
قال ابن حجر: «يؤخذ من هذا الحديث: استحباب هجران البلدة التي يقع فيها إظهار المعصية، فإنها سبب وقوع الفتن التي ينشأ عنها عموم الهلاك، قال ابن وهب عن مالك: تُهجر الأرض التي يُصنع فيها المنكر جهارًا [ولا يستقر بها][34]، وقد صنع ذلك جماعة من السلف»[35].
 
وقال ابن بطّال عند شرحه لحديث «أنهلك وفينا الصالحون ...»[36]: «إذا ظهرت المعاصي ولم تُغيَّر وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هِجْرَان تلك البلدة والهرب منها، فإن لم يفعلوا فقد تعرضوا للهلاك، إلا أنَّ الهلاك طهارة للمؤمنين ونقمة على الفاسقين، وبهذا قال السلف»[37].
 
وقال القرطبي: «قال علماؤنا: الفتنة إذا عُمِلت هلك الكلُّ، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وإذا لم تغيَّر وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم، كما في قِصَّة السبت حين هجروا العاصين وقالوا: لا نساكنكم، وبهذا قال السلف رضي الله عنهم»[38].
 
خامساً: التحذير من التَّشبُّه بأهل الكتاب ومجاهرتهم:
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التَّشبُّه بأهل الكتاب عموماً، إلَّا أنَّ قَدَرَ الله على هذه الأمَّة أن يكون منها من يتشبَّه بأهل الكتاب، حتى بأخس وأسوء أفعالهم، ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتَرْكَبن سَنَنَ من كان قبلكم شِبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو أنَّ أحدَهم دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلتُم، وحتى لو أنَّ أحدَهم جامَعَ امرأته بالطريق لفعلتموه»[39]، فهذا إخبار عمَّا سيكون، إلَّا أنَّ معناه النهي عن اتباعهم، والتحذير من أفعالهم وأخلاقهم، وقبائحهم في المجاهرة بالمعاصي والمنكرات[40].


[1] انظر: مقاييس اللغة 1: 487، الصحاح 2: 617، لسان العرب 4: 149، المصباح المنير 1: 112.

[2] انظر: تفسير الفخر الرازي 11: 253، تفسير ابن عجيبة 2: 173، تفسير التحرير والتنوير 6: 6.

[3] انظر: فتح البار ي 10: 487.

[4] أخرجه البخاري في الأدب برقم 5721، ومسلم في الزهد والرقائق برقم 2990.

[5] انظر: دليل الفالحين 2: 301، التنوير شرح الجامع للصنعاني 8: 160.

[6] انظر: إكمال المعلم للقاضي عياض 8: 540، التنوير شرح الجامع 8: 160.

[7] انظر: فيض القدير للمناوي 5: 11.

[8] انظر: الفتاوى الحديثية للهيتمي ص103، التنوير شرح الجامع الصغير 8: 160.

[9] فتح الباري 10: 487، وانظر: دليل الفالحين 2: 302.

[10] انظر: تفسير الرازي 23: 159، تفسير القرطبي 12: 206، تفسير أبي حيان 6: 403، تفسير الطاهر بن عاشور 18: 184.

[11] انظر: الفتاوى الحديثية للهيتمي ص103، التنوير شرح الجامع الصغير 8: 160.

[12] أخرجه الطبراني في الكبير 1: 178 برقم 463، والحاكم في المستدرك 2: 43 برقم 2261 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وذكره الهيثمي في المجمع 4: 213 برقم 6583 وقال: رواه الطبراني في الكبير، وفيه هاشم بن مرزوق، ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات.

[13] أخرجه أحمد في المسند 1: 402 برقم 3809، وابن حبان في صحيحه 10: 258 برقم 4410، وأبو يعلى في مسنده 8: 396 برقم 4981، وذكره الهيثمي في المجمع 4: 213 برقم 6581 وقال: رواه أبو يعلى وإسناده جيد.
والحديث حسن بشواهده.

[14] أخرجه ابن ماجه برقم 4019 قال في الزوائد: هذا حديث صالح العمل به، والطبراني في الأوسط 5: 61 برقم 4671، والحاكم في المستدرك 4: 582 برقم 8623 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
قال ابن حجر في الفتح 10: 193: في إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك وكان من فقهاء الشام لكنه ضعيف عند أحمد وابن معين وغيرهما، ووثقه أحمد بن صالح المصري وأبو زرعة الدمشقي، وقال ابن حبان: كان يخطئ كثيرًا.

[15] انظر: تفسير ابن كثير 4: 37.

[16] أخرجه أحمد في المسند 4: 192 برقم 17756، وقد حسنه ابن حجر في الفتح 13: 4.

[17] أخرجه أحمد في المسند 5: 388 برقم 23349، والترمذي في سننه برقم 2169 وقال: حديث حسن.

[18] أخرجه مالك في الموطأ 2: 991.

[19] أخرجه أحمد في المسند 2: 162 برقم 6514، والحاكم في المستدرك 4: 558 برقم 8566 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

[20] انظر: مقاييس اللغة 4: 478، تهذيب اللغة 1: 497، مفردات ألفاظ القرآن 2: 180، لسان العرب 6: 325.

[21] انظر: إكمال المعلم 7: 52، التنوير للصنعاني 3: 355.

[22] هناك شروط لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنظر في موضعها.

[23] أخرجه مسلم برقم 49.

[24] أخرجه ابن ماجه برقم 2559 قال في البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وشطره الأول متفق عليه، وأخرجه الطبراني في الكبير 11: 206 برقم 11507، وصحح ابن حجر إسناده في الفتح 12: 181.

[25] فتح الباري 12: 181.

[26] أخرجه مالك في موطئه من رواية الليثي 2: 825 برقم 1508.

[27] أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 272 برقم 7615 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

[28] فيض القدير 1: 155.

[29] شعب الإيمان للبيهقي 6: 99.

[30]انظر: تفسير البيضاوي 3: 266، تفسير ابن عجيبة 3: 339.

[31] تفسير القرطبي 9: 108.

[32] تفسير الرازي 18: 407.

[33] أخرجه البخاري برقم 3409، ومسلم برقم 2236.

[34] زيادة ذكرها ابن بطال والقرطبي.

[35] فتح الباري 13: 10.

[36] أخرجه البخاري برقم 3168، ومسلم برقم 2880.

[37] شرح صحيح البخاري 10: 6.

[38] الجامع لأحكام القرآن 7: 392.
وكلامه قريب من كلام ابن بطال.

[39] أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 502 برقم 8404 وقال: صحيح ووافقه الذهبي، وذكره الهيثمي في المجمع 7: 576 برقم 12105 وقال: رواه البزار ورجاله ثقات.

[40] انظر: التيسير للمناوي 2: 563، والتنوير للصنعاني 9: 28.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣