أرشيف المقالات

أنيس المظلومين (2)

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2أنيس المظلومين (2)
 
تحدثنا بفضل الله تعالى في الجزء الأول من هذا الموضوع عن (تعريف الظلم - أنواع الظلم - التحذير من الظلم في القرآن الكريم - التحذير من الظلم في السنة النبوية المطهرة - حال السلف وتعاملهم مع آفة الظلم - ضوابط يجب أن نعيها حال مقاومتنا للظلم والظالمين).
 
وسنتحدث بفضل الله تعالى في هذا الموضوع عن (دعوة المظلوم وأثرها على الظالم - هل يجوز الدعاء على الظالمين؟ - هل يجوز الفرح بهلاك الظالمين؟).
 
7- دعوة المظلوم تقصم ظهر الظالم:
إن دعوة المظلوم سهم لا يُرد ولا يُخطئ، فيا بُؤسَ الظالم المخذول؛ ينام ملء عينيه والمظلوم يدعو عليه، يجأر إلى الله أن ينتقم منه، وأن يُشتِّت شمله، ويُعجِّل عقابه، ويُنزِل به بأسه، ويُحِل عليه سخطه، ويأخذه أخذ عزيز مقتدر.
 
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا تُرد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم؛ يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي، لأنصرنكِ ولو بعد حين))؛ رواه الترمذي.
 
• ودعوة المظلوم يستجيب الله تعالى لها حتى ولو كان المظلوم فاجرًا؛ فدعوته مُستجابة، وفُجوره على نفسه.
 
• ودعوة المظلوم على الظالم تصعد إلى الله، فما بالك بدعوة التقي الصالح أو العالم الرباني ومَن بذل نفسه لله تعالى؟
 
• وقيل: "احذر دعوة المظلوم وتوقَّها، ورِقَّ لها إن واجهك بها، ولا تبعثك العزة على البطش؛ فتزداد ببطشك ظلمًا، وبعزَّتك بغيًا، وحسْبُك بمنصور عليك، الله ناصره منك".
 
• ورد في كتاب الكبائر للذهبي، عن وهب بن مُنبِّه قال: بنى جبار من الجبابرة قصرًا وشيَّده، فجاءت عجوز فقيرة فبنت إلى جانبه كُوخًا تأوي إليه، فركب الجبار يومًا وطاف حول القصر فرأى الكُوخ، فقال: "لمن هذا؟"، فقيل: "لامرأة فقيرة تأوي إليه"، فأمر به فهُدِم، فجاءت العجوز فرأته مهدومًا؛ فقالت: "مَن هدمه؟"، فقيل: "الملك؛ رآه فهدمه"، فرفعت العجوز رأسها إلى السماء وقالت: "يا رب، إذا لم أكن أنا حاضرة؛ فأين كنتَ أنتَ؟"، قال: "فأمر الله جبريل أن يَقْلب القصر على من فيه، فقلَبه".
 
8- هل يجوز الدعاء على الظالمين؟
مَن يتتبع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، يجد أنه لا حرج في الدعاء على الظالم بعينه أو في الجملة؛ لمَا ثبت من دعائه صلى الله عليه وسلم على الذين غرَّرُوا بأصحابه عند بئر مَعونة من قبائل رعْل وذكوان وبني لَحْيان وعُصَيَّة، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم دعا عليهم ثلاثين صباحًا، (والقصة في صحيح البخاري)، كما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو على مُضَر.
 
• وفي القرآن الكريم عن موسى عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88].
والأدلة على جواز الدعاء على الظالم كثيرة جدًّا.
 

9- هل يجوز الفرح بهلاك الظالمين؟
كثير من الناس يعتبرون أن الفرح بهلاك ظالم نوعٌ من الشماتة، وأنَّ الميت إنما تجوز عليه الرحمة، وأنه لا يجوز أن نَذكره بسوء أو نشمت به أو نفرح لموته مهما كانت أفعاله في الدنيا، ويحتجون في ذلك بحديث: ((اذكروا محاسن موتاكم، وكُفُّوا عن مساويهم))، وهذا الحديث قال عنه أبو عيسى الترمذي: إنه (حديث غريب)، وقال عنه الألباني: (حديث ضعيف).
 
والحقيقة أن هناك خيطًا رفيعًا بين الشماتة في المسلم والفرح بهلاك ظالم أو طاغية أو فاسق أو متجبِّر؛ فلقد نُهينا عن الشماتة وأُمرنا بالاستعاذة منها، ولكننا لم نُنْهَ عن الفرح بهلاك ظالم أو طاغية أو فاسق أو متجبر.
 
• قال تعالى: ﴿ فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 150].
 
• روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تَعَوَّذُوا بالله من جَهْد البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء)).
 
• وقيل لأيوب عليه السلام: "أيُّ شيء من بلائك كان أشدَّ عليك؟"، قال: "شماتة الأعداء".
 
• وقال الكلبي: "لمَّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، شمت به نساء كندة وحضرموت، وخضبْن أيديهن، وأظهرْن السرور لموته صلى الله عليه وسلم وضربْن بالدف".
 
• قال عبدالله بن أبي عتبة:
كل المصائب قد تمر على الفتى *** فتهون، غير شماتة الأعداءِ
 
مما تقدم نفهم أنه لا شماتة في موت عبد من عباد الله الذين يفعلون الحسنات ويرتكبون السيئات مثل باقي البشر، أما الطغاة والمتجبرون، الذين ملؤوا الأرضَ ظُلمًا، وأذَلُّوا عباد الله واستباحوهم، وجعلوا أيامهم على الأرض شقاءً وكدحًا، ونال أذاهم القاصيَ والداني، فالفرح في موتهم إنما هو في حقيقته تقرُّب إلى الله تعالى بالاعتراف بقدرته جل شأنه على تحقيق وعيده بالقِصاص من الظالمين.
 
وأقول لمن يعترض على إظهار الشماتة بالظالمين: أين هؤلاء من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحال سلفنا الصالح من الفرح بهلاك الظالمين؟ بل والسجود لله شكرًا على هلاكهم؟
 
• عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقال: ((مُستريح ومُستراح منه))؛ فقالوا: "يا رسول الله، ما المستريح وما المستراح منه؟"، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد المؤمن يستريح من نَصَبِ الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب))؛ رواه البخاري.
 
في هذا الحديث بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الفاجر حين يموت يكفي العباد شره، ويريحهم من فجوره وغطرسته، بل حتى الشجر والدواب يستريحون منه، وفيه عظيم دلالة على أنَّ هذه الراحة نعمة من نعم الله الجليلة التي لا بد من شُكرها، وأول أبواب شكرها: الفرح بها.
 
• عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما أَمر النبي يوم بدر بأولئك الرَّهْط فأُلقُوا في الطَّوِيِّ، عتبة وأبو جهل وأصحابه، وقف عليهم فقال: ((جزاكم الله شرًّا مِن قومِ نبيٍّ؛ ما كان أسْوأَ الطَّرْد وأشدَّ التكذيب!))، قالوا: "يا رسول الله، كيف تُكلِّم قومًا جَيَّفُوا؟!"، فقال: ((ما أنتم بأفْهَم لقولي منهم)).
 
• ويدلِّل فِعل السلف على هذا المعنى؛ فإن سجود عليٍّ رضي الله عنه لله شكرًا لمقتل "المخدَّج" الخارجي لمَّا رآه في القتلى في محاربته له، لهو أكبر دليل على ذلك.
 
• يقول الشيخ محمد صالح المنجد: "الفرح بمَهلك أعداء الإسلام وأهل البدع المغلظة وأهل المُجاهرة بالفجور - أمر مشروع، وهو مِن نِعم الله على عباده وعلى الشجر والدواب، بل إن أهل السنَّة ليفرحون بمرض أولئك وسجنهم وما يحل بهم من مصائب".
 
• قال بدر الدين العيني رحمه الله:
"فإن قيل: كيف يجوز ذكر شر الموتى مع ورود الحديث الصحيح عن زيد بن أرقم في النهي عن سب الموتى وذكرهم إلا بخير؟
وأجيب: بأن النهي عن سب الأموات، غير المنافق والكافر والمجاهر بالفسق أو بالبدعة، فإن هؤلاء لا يحرُم ذِكرُهم بالشر؛ للحذر من طريقهم ومن الاقتداء بهم".
 
• روى ابن سعد في طبقاته قال: أخبرنا عبدالحميد بن عبدالرحمن الحِماني، عن أبي حنيفة عن حماد قال: "بَشَّرتُ إبراهيم بموت الحَجَّاج، فسجد، ورأيته يبكي من الفرح".
 
ولهذا؛ شُرع لنا سجود الشكر عند تجدُّد النعم واندفاع النِّقم؛ أفلا نفرح بنعم الله؟ أفلا نشكر الله؟ أفلا نغيظ بفرحنا أعداء الله؟ أفلا نتعبد لله تعالى بهذا الفرح؟ ألم يقل الله تعالى: ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الروم: 4، 5].
 
اللهم إن الظالم جمع كل قوته وطغيانه، وإنَّا جمعنا له ما استطعنا من الدعاء؛ فاستجِب اللهم لدعوة المظلومين وانصرنا؛ فإنك يا كريم قلتَ لدعوة المظلوم: "وعزتي وجلالي، لأنصرنكِ ولو بعد حين".

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن