أرشيف المقالات

أبناء العلماء والدعاة

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2أبناء العلماء والدعاة
 

المفترض أنَّ أبناء العلماء والدُّعاة والمتصدِّرين باسْم الدِّين امتدادٌ لآبائهم في مُواصلة البناء والعمل الدَّعوي، وقد حوَتْ كتب السِّيَر والتَّراجم أمثلةً كثيرة مُبْهِرة على هذا، حتَّى ليعرف البيت بأنَّه بيت علم وفضل؛ لِمَا فيه من توارُث الخَيْر بين أجياله، وحتَّى لَيَتعاقب البيت الواحد على مناصب الإفتاء والقضاء والتَّدريس، وحتَّى لَيَشتهر البيت بأنه بيت جهادٍ وشُهَداء، وما هذا كله إلاَّ لِحُسن تعهُّد الآباء للأبناء، وأثَر القدوة الصالحة فيهم.
 
فإذا انقلب الأمر وصار أبناءُ المتصدِّرين أداةً للطَّعن في الدَّعوة وأهلها، فإنَّ هذا يَنِمُّ عن نوعِ تقصير في تربيتهم عادة! نعَم، قد يبذل المتصدِّر جهده في تنشئة ابنه على الصَّلاح والخير، لكن يُهْمِل جانبًا من جوانب تربيته فينعكس الأمر كُليًّا.
 
وقد يقع الْخَلَل في ابن المتصدِّر فيكون بلاءً لأبيه، كما وقع لِبَعض أنبياء الله - صلَّى الله عليهم وسلم - لكنَّنا نبحث أوَّلاً عن أسباب تلك الأَزْمة المُعْضِلة التي قد تذهب بِجُهود عُمر دعَوِي كامل، أو تأتي عليه من أطرافه فتنقصه.
 
يقول ابن عمر - رضي الله عنهما -: كان عُمَر إذا نَهى النَّاسَ عن شيءٍ دخل على أهْلِه - أو قال: جَمَع أهلَه - فقال: "إنِّي نَهَيْت الناس عن كذا وكذا، وإنَّ الناس يَنْظُرون إليكم كما يَنْظر الطَّير إلى اللَّحْم، فإنْ وقَعْتُم وقعوا، وإن هِبْتُم هابوا، وإنِّي والله لا أُوتَى بِرَجُل وقع فيما نَهيتُ الناس عنه إلاَّ ضاعَفْتُ له العذاب؛ لِمَكانه منِّي، فمن شاء منكم أن يتقدَّم، ومن شاء منكم أن يتأخَّر"؛ أورده ابن عساكر في "تاريخ دمشق"، والخطيب في "تاريخ بغداد".
 
فنحن إذًا بِحاجة إلى تلك العقليَّة العُمَرية التي وعَتْ خطر أزمة بعض انْحِراف أبناء المتصدِّرين، ومآلاتِها على الدَّعوة وأصحابها، وإذا كان الأثَرُ يعالِج في ظاهره بعضَ جوانب انْحِراف الأبناء دون مَجْموعها، فإنَّ سيرة عُمَرَ مع أبنائه في مُجْملها تعطي دلالة أوسع وأشْمل في التصدِّي لكافَّة جوانب انْحِراف أبناء المتصدِّرين.
 
مظاهر الأَزْمة:
وحتَّى نقف على خطَرِ تلك الأزمة على الحياة الدَّعويَّة للمتصدِّر باسْم الدَّعوة، نُحاول تقصِّي بعض مظاهر تلك الأَزْمة من الواقع، مع تَجنُّب الأسماء أو حتَّى مجرَّد التلميح؛ لعدم وجود أيِّ مصلحة من ذِكْر ذلك.
 
تخلٍّ عن القضية:
أَوْلى الناس بحمل القضية الإسلامية هم أبناء العلماء والدُّعاة والمتصدِّرين؛ لِما في قُربِهم من آبائهم من تَحْفيز وتشجيع على مواصلة أعمالِهم الدَّعوية، ولِما في قربِهم من تسخير للخَيْر وتذليلٍ لصعابه.
 
لكنَّ كثيرًا من الأبناء في هذا الزمان يتخلَّوْن عن رسالة الآباء، فيميلون إلى الدُّنيا، وتتخطَّفهم شواغلها، ويرتعون في شهواتِها، ويعودون في النِّهاية على آبائهم بالسُّمعة والسيرة السيِّئة، مِمَّا يشكِّل خطرًا كبيرًا على الدَّعوة ذاتها، ويفتح منفذًا لِهُجوم المغرضين على آبائهم.
 
استهدافٌ فِكْري:
ومن هؤلاء الأبناء مَن يقع فريسةً لأعداء الدَّعوة، بِحَيث يُستهدَف فكريًّا، لا بالانتساب إلى المناهج الضالَّة، ولكن مِن حيث التصدُّرُ بالاسم الذي يَحْمله.
 
كما وقع لبعضهم بعد وفاة أبيه العالِم الفذِّ الكبير، فراح يتكلَّم بلسان التغريبيِّين، وهو لا يَدْري أنه مُستهدَف باسْمِ وصيت أبيه، لا غير! وهذا في الحقيقة استهدافٌ فكري يَجِب أن نفهم أنَّه مقصود للَّذين يُناصبون الدَّعوة العداء.
 
تعريض للفِتَن:
ومن هؤلاء الأبناء مَن كان تصدُّرُ أبيه فتنةً له، بحيث تصدَّرَ هو بتصدُّرِ أبيه، والأسوأ بتصدير أبيه له! حتَّى وُجِد توريثٌ دعَوِي يشبه توريث الملوكِ للمُلك!
 
واستعمال الأبناء دعَوِيًّا في حدود قدراتِهم وإمكانياتهم شيءٌ طيِّب، ومقصد مهمٌّ حتَّى يتشرَّبوا حبَّ العمل والبَذْل، لكن مُجرَّد انتسابِهم لا يعني أبدًا أحقيَّة وجودهم في الصُّفوف الأولى للدَّعوة، ورُبَّ عاطفةٍ قادت أبًا إلى هلاك ابنه وهو لا يشعر!
 
وعاقبةُ تصدير الأبناء قبل تأهيلهم الكافي وخيمةٌ على الدَّعوة وعلَيْهم؛ وخيمةٌ على الدَّعوة مِن حيث سوءُ ظنِّ المدعوِّين في الدَّاعية، ومن حيثُ تصدُّرُ مَن لا يصلح، ووخيمةٌ على الأبناء من حيث تعريضُهم لفِتَن لا طاقة لَهم بها، ولم يشتدَّ عودُهم بعدُ.
 
وقد سمعنا بعض الدُّعاة يَمْدح ابنه مدحًا قاصمًا له هو قَبْل ابنه! وبعضهم نصَّب ابْنَه على مركز دعَوِيٍّ كبير، وهو لم يتجاوَزِ العشرين من العمر، ولم يُعْرَف عنه طلب علم أو تَحرُّك دعوي، وتلك أمثلة يُخْشى فيها على الأبناء.
 
وهذه بعضُ مظاهر الأزمة، ومن جدَّ في تقصِّي الأحوال، وتعاهُدِ الواقع الدعوي ظهَرَ له غيرُ تلك المظاهر المذكورة.
 
أسباب تلك الأزمة:
إن كلَّ خللٍ يَظْهر في مَجال تربية الأبناء، سببُه الرَّئيسي ضعفُ التربية على جوانب العبوديَّة المختلفة؛ لذا تَرْجع عامَّة هذه الأسباب إلى خلل في تصوُّر جانب منها، أو خطأ في مُمارسته، ويُمكن إفراد بعض هذه الأسباب؛ لِبُروزها في الواقع أكثر من غيرها.
 
انشغال الآباء المتصدِّرين عن أبنائهم:
فعندما يغيب الأبُ الدَّاعية أو العالِم عن أبنائه تَضْعف متابعتُه وملاحظتُه لَهم، وينبني على ذلك ضعْفُ نشأتهم إيمانيًّا وفكريًّا وعمليًّا.
 
ومقتضى العبودية البدء بالأهل والأبناء قبل غيرهم في الدَّعوة إلى الله، نعَمْ، يوازِنُ الدَّاعية بين مَجالات دعوته، لكنَّه يجب أن يهتمَّ بالأقربين أكثر من غيرهم، لا سيَّما والنَّفع بِهم كبير، والتقصير في حقِّهم خطير.
 
غياب التصوُّرات الصحيحة للدِّين والحياة في العملية التربويَّة:
مِما يُخْرج رُؤًى غير واضحة عند الأبناء، فإذا كان من التصوُّر الصحيح في العملية التربويَّة: أنَّه لا يلزم أن يكون ابنُ العالِم أو الدَّاعية مثْله، ما دام مُحقِّقًا لله العبودية في مَجال آخر، إذا كان هذا غير ملزم، فإنه مُلْزِم إذًا أن يعرف الابْنُ قدْرَه وحدودَ عمَلِه، فلا يتعدَّى باسْمِ أبيه أو صيته.
 
وهذا يبعث الآباء المتصدِّرين على تصحيح مفاهيم الأبناء وتصوُّراتِهم، حتَّى لا تُؤْتَى دعوتهم فيما بعد من قِبَل فساد تلك التصوُّرات.
 
اغترار الأبناء بعمل الآباء وشُهْرتهم:
وهو ما قطَعه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في بدء دعوته؛ إذْ يقول لفاطمة ابنتِه - رضي الله عنها -: ((يا فاطمة بنت مُحمَّد، أنقذي نفْسَك من النار؛ فإنِّي لا أملك لك ضرًّا ولا نفعًا))؛ أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة، وصحَّحه الألبانِيُّ في "صحيح الجامع".
 
ويُساعد على ترسيخ هذا المفهوم المُفْسِد لأحوال الأبناء ما يَجِدونه من معاملة حسَنة، وتسهيلٍ لمتطلباتهم في بيئتهم؛ لأجْل آبائهم.
 
وبعد:
فإنَّ أبناء العلماء والدُّعاة هم أحقُّ مَن يقوم بأمر الدِّين، وهم أولى النَّاس بِصَرْف الأوقات والجهود لِتَقويمهم فكريًّا وعمَليًّا؛ لِما في صلاحهم من مكاسِبَ دعويَّة كبيرة تصل اليوم بِأَمْس، وتربط بين واقعنا ومستقبَلِنا.
 
والحمد لله ربِّ العالَمين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢