أرشيف المقالات

كلمات مرسلة

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 للدكتور محمد يوسف موسى نحن - العرب أو المسلمين عامة - نعيش على هامش الحياة ننفعل بما يكون من أحداثها، دون أن تكون قوة في إيجاد هذه الأحداث.
وبعبارة أخرى، نحن مادة قابلة لما يريد الغير من صور لا قوة تفعل وتفرض على الغير ما تريد صور في هذه الحياة من كل أو بعض نواحيها.
ونجد مصداق هذا القول الذي نقوله فيما نحن عليه من نظم: في التعليم، والبرلمان، والقانون، والسياسة وفي سيرة ممثلينا في البلاد العربية. ونظن الأمر تكفي فيه الإشارة والتلميح، ولا يحتاج لشيء من الإيضاح.
فتلك حقيقة لا ريب فيها وهي نكبة على الأمة.
إذ ليس معنى هذا إلا فقداننا الثقة بنا كأمة أو جنس، وفقداننا الشعور بأن لنا شخصية مستقلة، بها نتميز عن غيرنا ونستمدها من ديننا والخير من تقاليدنا وحضارتنا، وبها يجب أن نعتز في غير كبرياء فارغ. ليس من ضير على أيةأمةأن تأخذ عن غيرها بعض ما تراه خيراً من نظمها وتقاليدها، وتضمه إلى ما تحرص عليه من التقاليد الخاصة بها، ولكن من الشر كل الشر، أن تذهب الأمة تلتمس لها نظاماً في التعليم أو القانون أو الحكم من أمم مختلفة، فيجيء هذا النظام مِزقاً متهافتة ليس له وحدة حقيقية تضم أطرافه، وليس له هدف مُوحد يسير إليه، وليس له من فضل إلا أنه مأخوذ عن أمم ترى أنها تقدمتنا في الحضارة؛ وهو - مع هذا كله - لا يتفق وديننا، ولا يتفق مع ما هو خير من عاداتنا وتقاليدنا. لقد آن الوقت الذي يجب أن نضع من جديد في الميزان تقاليدنا وحضارتنا كي نرى منها ما به نصلح في هذا العصر، فنبقى عليه ونعتصم به ونعتز؛ وما كان منها خيراً لزمن غير زماننا، فلا نأسى على أطراحه واتخاذ بديل منه من هنا أو هناك. وآن الوقت الذي يجب فيه أن نتساءل في جد: هل الإسلام هو الدين الحق الذي رضيه الله لنا كما يقول القرآن؟ وهل نحن كما يذكر القرآن حقاً خير أمة أخرجت للناس؟ فإذا وصلنا إلى اليقين بأن هذا وذاك حق، وذلك ما لا ريب فيه، يجب أخيراً أن نتساءل عن السبب الذي من أجله لا يستخلفنا الله في الأرض كما استخلف الذين من قبلنا ولا يمكن لنا ديننا الذي ارتضاه لنا، ولا يبدلنا من بعد خوفنا أمناً كما جاء في سورة النور من القرآن. هذه آية كريمة تتضمن وعداً كريماً صادقاً من الله، ومن أوفى بعهده من الله؟ وقد صدق الله وعده في فجر الإسلام وبعده في أزمان مختلفة، لأجدادنا الذين آمنوا به حقاً بقلوبهم لا بألسنتهم وحدها، إيماناً واجهوا من أجله الموت راضين سعداء، فلماذا لا يتحقق لنا كل هذا الذي وعد الله به مرة أخرى في هذا العصر إن حصلنا ما يجب أن يكون منا من أسباب؟ إن ارتباط المسبب بالسبب أمر ضروري لا شك فيه.
وقد أخطأ الغزالي خطأ بليغاً، لا زلنا نعاني حتى اليوم من أثره السيئ، على العقل والفلسفة والصالح العام للمسلمين، وذلك حين حاول باسم الدين هدم القول بارتباط المسببات بأسبابها ارتباطاً ضرورياً لا عادياً. نقول أخطأ الغزالي خطأ بليغاً، إذ كان من صنيعه أن وقر في نفوس عامة المسلمين - بعد أن قرر ما قرر وهو حجة الإسلام - أن المرء قد ينجح في حياته وهو لم يتخذ للنجاح أسبابه الضرورية، سواء أكان زارعاً أو صانعاً أو تاجراً أو رجل سياسة ودولة! وكان من هذاأيضاً أن أخذ كثير، حتى من المثقفين، يتساءلون عن العلة التي لم يحقق الله للمسلمين هذه الأيام مظاهر القوة والسيادة، ما به يؤكد أننا حقاً خيرأمة أخرجت للناس وأن الإسلام خير الأديان.
عن هذا يتساءلون، وينسون أن أي مسبب لا بد أن يكون له سبب، وإن خرق ذلك لن يكون إلا معجزة وقد مضى زمن المعجزات، يتساءلون عن هذا، وينسون إننا لسنا مؤمنين ولا مسلمين حقاً. نعم! لنقل هذا صراحة، فلسنا من الأيمان بالقدر الذي به يحقق الله ما وعد لعباده المؤمنين.
وأدنى هذا القدر أن نؤمن بالله وحده، وألا نرجوا أو نخاف غيره، وأن نتذكر أينما كنا من العالم أننا مسلمون، وأن نعمل دائماً عمل المؤمنين المسلمين. هذا هو جماع السبب الذي به نكون أهلاً لنصرة الله لنا، وذلك ما ليس متحقق فينا بكل أسف.
ولنكثف في هذا المقام بالقليل من الأمثلة، أو الواقعات التي شهدتها بنفسي وشهدها معي كثير من الإخوان المصريين المسلمين. 1 - دعيت أكثر من مرة لحفلات استقبال أقامتها هذه أو تلك من الدور الرسمية التي تمثل البلاد الإسلامية في باريس؛ فكان يجري في هذه الحفلات ما لا يذكرنا قط أننا في دار تمثل دولة من دول الإسلام.
وحسبي أن أذكر أن من ضروريات هذه الحفلات أن تسيل الخمر كأنها الماء، وألا يتعفف عن شربها إلا القليل جداً ممن عصم الله، وأن يكون ذلك كله على مشهد من الأجانب الذين يعجبون أن يحدث هذا من ممثلي الأمة الإسلامية. ثم ذلك لا يحدث في الأيام العادية فقط، بل حدث أحياناً في رمضان، شهر الصوم، وأثناء النهار! بينما دعيت مرة في رمضان أيضاً لحفلة استقبال أقامتها وزارة التربية الوطنية بباريس، فكان مما عني به القوم أن بدء الحفلة كان بعد غروب الشمس بقليل! تلك مفارقة، وأي مفارقة! 2 - حاولت إدارة رسمية تشرف هناك على طلاب البعثات عقد صلات بين الطلاب وأساتذتهم الأجانب، فلم تر إلا أن تقيم حفلة راقصة فيها كانت الخمر أصنافاً وألواناً، وذلك في وسط من الفوضى عجيب، حتى اضطر بعض هؤلاء الأساتذة إلى الانصراف في عجب بالغ وألم شديد. وهذان مثالان، ولو شئنا لأتينا بأخرى، ولكن المقام لا يسمح وحيز الكتابة محدود.
على أني، مع هذا، أضيف أيضاً هذه الكلمة التي نرى منها أننا نبتعد كل يوم عن الإسلام. يكون من بعض من جعل الله إليهم الأمر في الأمة الإسلامية في مصر أو غيرها من بلاد الشرق الإسلامي، الحدث الجلل من الأحداث، الحدث الذي هو ظلم سافر، ظلم يتناقض صراحة وأمر الله ورسوله، ومع هذا لا نجد كلمة اعتراض من واحد من الأمة.
أي والله، لا نجد أحداً يعترض، حتى ممن يجب عليهم - بحكم مناصبهم الرسمية ومكانتهم من الأمة - الذود عن الدين والشريعة وحمايتها من العدوان. ثم، مع هذا كله، نعجب من أننا في ذلة وهوان، بينما الغربي في عزة واستعلاء! ومتناسين قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)! ومتناسينأيضاًقوله في موضع آخر من القرآن: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فيالأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً).
ففي هاتين الآيتين الكريمتين بين الله الأسباب التي يكون عنها النصر والعزة، وبين أن بين هذه الأسباب ومسبباتها رابطة لا انفصام لها، تلك سنة الله في خلقه. هذا، وهناك ناحية أخرى أحب أن أتناولها في هذه الكلمات.
لقد لمست طوال الأعوام التي قضيتها في فرنسا، وفي الفترات القصيرة التي عشتها في ألمانيا وإنجلترا وأسبانيا، أن القوم هناك بعد الحرب يجتازون دوراً خطيراً من ناحية العقيدة والدين. إن كثيراً من الشباب في أوروبا، وبخاصة شباب الجامعة، صاروا يعترفون بعجزهم عن فهم الديانة المسيحية وما فيها من أسرار تعجز العقل.
وأن كثيراً من هؤلاء، بلغ بهم التفكير الجاد في هذه المشكلة؛ أن صاروا يتلمسون لأنفسهم عقيدة أخرى يفهمها العقل ويطمئن لها القلب؛ عقيدة تتفق وهذا العصر الذي نعيش فيه، العصر الذي لا سبيل فيه للأيمان بما يعجز العقل عن إدراكه. رأيتهم يطلبون دنيا فيه للقلب هوى، وللعقل رضى، وفيه من الروحية ومن المادية؛ دين لا يرفض الدنيا، بل يأخذ منها ويعمل في الوقت الآخر نفسه للآخرة.
وإن منهم من فكر حقاً في الإسلام ومن أطلعني على الأزمة متى يحسها ويجد لها قلبه وعقله مساً أليماً.
ولكن هؤلاء وأولئك لا يجرؤن، مع هذا، على اليسير بعيداً فيما يفكرون فيه، إذ لا يجدون الوسيلة الصحيحة لمعرفة الإسلام ولا يطمئنون مع ذلك إلى هذا اليد مع ما يرون من سوء حالة المسلمين. علينا أذاً، أن نقرّب هذا الدين، وأن نجلوه للطالبين: عقيدة وأخلاقاً ونظاماً اجتماعياً، في كتاب قريب التناول نترجمه للغات جميعاً في الغرب والشرق، ثم نوزعه في أقطار الأرض كلها.
بهذا وحده يستطيع أن يعرف الإسلام من يريد، وبهذا نكون أدينا واجباً لهؤلاء الحائرين وما أكثرهم، وللإنسانية كلها، لأن أكثر ما كتبه غير المسلمين عن الإسلام تعوزه الدقة أو الأنصاف. إني لأعرف ما يتطلب هذا العمل الضخم من جهود ومال، ولكني أعتقد أنه مع الإرادة الطيبة تستطيع أن تصل منه إلى ما تريد إن شاء الله الذي يوفق للخير ويعين عليه.
وعندنا من رجال الأزهر والجامعة من يحتاج إليهم هذا العمل تأليفاً وترجمة ولنا من ذوي النعمة الطويلة واليسار العريض من لا تؤودهم التكاليف المالية. ولعل فضيلة أستاذنا الأكبر شيخ الجامع الأزهر ينشرح صدره لهذا العمل فيتقدم الجميع في الدعوة له وإعداد العدة لتنفيذه؛ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. محمد يوسف موسى

شارك الخبر

المرئيات-١