أرشيف المقالات

صور من الحياة:

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 قبعة تتزوج للأستاذ كامل محمود حبيب - 2 - آه، يا صاحبي، لقد خرجت من لدن سعادة البك بعد أن سامك الاحتقار والمهانة، وبعد أن سفه رأيك وازدرى عقلك، وبعد أن قذف بك إلى خارج الدار ليحول بينك وبين أن تعبث بكرامة ابنته الشابة، أو أن تلوث شرفها. خرجت وفي قلبك أسى ولوعة، وفي نفسك هم وضيق.

فلشدَّ ما آذاك ما رأيت من إباء الفتاة المصرية ومن ترفعها! ولشد ما أزعجك ما لمست من كبرياء الأب المصري ومن صلفه! ولشد ما أفزعك ما أحسست من صلابة الأسرة المصرية ومن تماسكها! وحز في نفسك أن يفلت الطائر الجميل من بين يديك بعد أن ظفرت به، فيطير معه أمل عقدته على جمال الفتاة وعلى جاه الأب وعلى ثراء الأسرة. وحاولت أن تداري خيبة أملك خلف ستار من الكذب والرياء، فذهبت تحقد على الفتاة المصرية وتتهمها بألوان من النقائض، وتقذفها بفنون من الافتراء، لأنها استعصت على خداعك الوضيع، وتمنعت على أساليبك الثعلبية، وضنت بشرفها أن تعبث به يد، وصانت كبرياءها على أن تنحط إلى أسفل. وقلت لي - ذات مرة -: (إن الفتاة المصرية إنسانة ضعيفة العقل، خاوية الذهن، واهية الخلق، سقيمة الفكر، تنزعج لكل صوت، وتفزع من كل نأمة، وتضطرب لكل حادثة.
يلذ لها - دائماً - أن تعيش على حيد الحياة، بعيدة عن نور المدنية لأنه يعشى بصرها، وفي منأى عن دوافع العيش لأنها تصعق أعصابها. هذا هو تاريخها - تاريخ العزلة والإهمال - يتدفق في عروقها دماً قذراً تافهاً، وهي لا تستطيع أن تنهض بعمل ولا تصبر على مسئولية.
وإن تعلمت أضافت سخفاً إلى سخف فيها، وضمت سفهاً إلى سفه، وجمعت بلاهة إلى بلاهة، فهي تتحدث بلسان العلم حديثاً فيه السخف والسفه والبلاهة جميعاً، وهي.
)
فقلت لك مقاطعاً: (وهي فتاة فيها الشرف والكرامة والانزواء عن الشرور، والنأي عن الدنايا، والفزع عن الفحش.
وهي إن تعلمت كانت في الدار صاحبة ورفيقة، وفي الجماعة نبراساً وضياء، وإن تزوجت أصبحت أماً وزوجة ومعلمة)
. وقلت لي في ملل وضيق: (إن فيها الرجعية والجمود وانغلاق الذهن وفساد الرأي). فقلت لك: (وإن فيها بواعث الحياء والخجل والترفع والإباء، ولكنك أنت - يا صاحبي - قد لبست القبعة حيناً، فنفثت فيك من روحها ودمغتك بأسلوبها، فهل كنت تؤمن بما تقول حين اندفعت إلى فلان بك في غير أناة ولا صبر تخطب إليه ابنته وهي فتاة مصرية.
)
فأرتج عليك، واضطرب ذهنك، وتبلبل عقلك، وخانتك فلسفتك، وأنت فيلسوف كبير. لا عجب - يا صاحبي - إن كنت قد عصفت بك صاعقة عنيفة يوم أن طردك سعادة البك من داره فتزلزل كيانك وتصدع قلبك، لأن رجلاً مصرياً دَّعك من داره في غير هوادة ولا لين، وامتهنك وأنت فيلسوف عظيم لبس القبعة حيناً من الدهر! وآدك أن تصبر على ما أصابك من سعادة البك ومن ابنته، فانطلقت تشوه الحقيقة وتمسخ الواقع لتثلب الأسرة المصرية وتحط من قدرها بحديث تافه فيه المغالطة والمكابرة. وذهبت تلقي أعباء نفسك في نُزل قاهري الموقع أجنبي الصبغة بين يدي سيدة عجوز، ألمانية اللسان يهودية النزعة، ومن حواليها بناتها الثلاث، وإن الواحدة منهن لترف رفيف الزهرة الغضة حين تنفح عطرها الجذاب لتأسر به القلب وتسيطر على الفؤاد. وسكنت إلى هذا النزل، تعيش بين العجوز وبناتها تمثالاً صامتاً لا ينبض بالحياة ولا يخفق بالإنسانية، فأنت تقضي يومك منطوياً على نفسك في حجرة لا تندفع إلى حديث ولا تنشط إلى سمر، ولا تبسم لمفاكهة، ولا تنزع نفسك إلى رفيق.
وضاقت العجوز بأسلوبك في الحياة، فهي تطمع أن تراك طلق الوجه واليدين واللسان تنغمر في حياة الأسرة تأخذ منها وتعطي.

ضاقت بك العجوز وهي ذات مكر وخداع، وهي ذات حيلة ودهاء، لا يعجزها أن تتوسل إلى غايتها بأساليب شيطانية، ولا يقعدها أن تبلغ الهدف بأفانين أرضية.
وانصرفت أنت إلى خلوتك وشغلت بخواطرك، ولكن العجوز اليهودية لم تنصرف عنك، فراحت تسعى إليك، وتنفث فيك سمومها، وتنقض عليك - بين الحين والحين - تريد أن تنزعك من خلوتك، وأن تزعجك عن وحدتك، وأن تكشف عن سرك، وإن لنفثاتها لسحراً، وإن لحديثها لطلاوة، وبين يديها فتياتها الثلاث وإن فيهن الدلال والجمال وفيهن السحر والجاذبية.
وأخذت العجوز اليهودية تتلو رقى السحر حواليك وتتقرب إليك ثم تنشر عليك شباك التمويه والمداهنة لا تهن عزيمتها ولا تفتر قوتها.
واستطاعت - بعد لأي - أن تجذبك إلى المائدة الخضراء لتسرق مالك؛ واستطاعت - بعد جهد - أن تسقيك الكأس الأولى لتسرق عقلك.
وهكذا خطوت أول خطوة في سبيل الانهيار العقلي والانهيار الاجتماعي، ولكن عقلك المغلق لم يتوضح الطريق فما شعرت بقدمك وهي تنزلق إلى الهاوية.
لقد غطى على عينيك ستار من لذاذات كنت تحسها وأنت تطوي لياليك بين فتيات النزل تصغي إلى حديثهن وتنتشى بخمرهن وتشاركهن اللعب والمزاح والعبث، تتودد إليهن وهن يتملقنك فبدأت تهوى إلى أسفل وهن من ورائك يدفعنك إلى الهاوية والأم العجوز - من ورائهن - توسوس بأمر وتسعى إلى غاية.
وراقتك الحياة الجديدة وفتنك زخرفها فاندفعت لا تجد رادعاً من دين ولا وازعاً من خلق على رغم أنك تخسر مالك وتقتل وقتك.
لقد أسرك القمار والخمر وخلبك الجمال والإغراء فما عدت ترى أنك أنت ألآن - يا صاحبي - رضيت بأن تصبح سجيناً في قفص من ذهب، وأغلق باب القفص من دونك حين تزوجت من أصغر فتيات المنزل، وهي فتاة عابثة لعوب ريقة الشباب غضة الإهاب، ذات دل آسر وجمال خلاب، وتراءى لك أن الفتاة قد مسحت بيدها الرقيقة البضة على أحزانك، وآست بحديثها الجذاب جراحك العميقة، وبدا لك أنك أمسيت روح هذه الدار وريحانها، وأنك أصبحت فتاها المرموق وسيدها المدلل فاطمأنت نفسك وهدأت نوازعك.
ثم أردت أن تحول بين المنزل وبين زواره من كل جنس - وهم كثر - فما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
وأوحت إليك زوجك الأجنبية بأن تتخذا داراً غير هذه تكون عش الغرام ومنزل السعادة ومهبط الأمان، فانطلقتما معاً تهيئان داراً صغيرة فيها البساطة والأناقة وفيها النظام والترتيب وفيها الهدوء والاستقرار.
ثم دفعتك الفتاة إلى السينما وإلى المسرح وإلى الندىّ، ورافقتك إلى الملهى وصحبتك إلى المرقص، وأنست بصحابك تأخذ منهم وتعطي، وأقبلت أنت على رفاقها في بشر وإيناس وهكذا - يا صاحبي - وجدت في زوجك الأجنبية ما افتقدته في زوجك المصرية، وحدثتك نفسك قائلة: (لا ضير فهذه الفتاة تستطيع أن تمهد لك السبيل الوعر وتفتح أمامك الباب الموصد، ثم تدفعك إلى الهدف في سهولة ويسر، وأنت من ورائها تندفع حتى تبلغ) أما هي فكانت تجلس إلى أمها العجوز بين الحين والحين وتستمع إلى حديثها بين الفينة والفينة، وإن العجوز لتعرض إليها بأمر وتغريها برأي وهي من ورائها تندفع.
ووجدت الفتاة في رفاقك لذة صرفتها عنها، ولمست فيهم متعة شغلتها عن الدار وعشت حيناً مع زوجك الأجنبية.
وهي ألمانية اللسان يهودية النزعة شيطانية المشرب لا تجد غضاضة في ما تفعل ولا تحس أذى في ما تذر.
ولكن دمك الشرقي ما تلبث أن ثار وهدر؛ وإن للشرقي لكرامة يعز عليه أن تنهار، وإن له لشرفاً يضن به عن أن يمتهن، وإنه ليبذل روحه ودمه دون أن يخدش.
فأنت حين تغاضيت عن مثالب زوجك كنت قد نزلت عن شرقيتك وانصرفت عن مصريتك لتعيش زماناً في جو القبعة وترتدغ في مبادئها، ولكن دمك الشرقي ما تلبث أن ثار وهدر فعزمت على شيء.
وأني لك ما تريد وإن زوجك - ومن ورائها أمها - لذات حيلة ودهاء، فهي تترضاك حيناً وتتوسل برؤسائك حيناً، حتى إذا ضاقت بجهلك وعجزت عن ترويضك راحت تتهددك بأن تفصلك عن عملك إن وسوست لك نفسك أن تنالها بأذى، وإنها لقادرة على أن تفعل. وجاءك - ذات يوم - رجل من بني جلدتها ذو جاه ومكانة يحذرك غب طيشك بقوله: (حذار أن تحدثك حماقتك فتطلق زوجك، وإذن لا تلبث إلا قليلا حتى تطلقك الوظيفة ثم لا تجد بعدها ملجأ ولا ملاذاً إلا الشارع) وصمت لسانك حين شعرت بأن غلاً ثقيلاً يشد على عنقك فلا تستطيع أن تفلت منه، وحين خشيت أن تصبح صعلوكاً تتقاذفك مضلات الحياة وتصفعك متاهات الحاجة، فألقيت السلم وكبتَّ في نفسك نوازع ونوازع لتكون في الدار حمَلاً وديعاً تتلقى الأمر من زوجك الأجنبية الفاجرة فلا تجد مصرفاً عن الطاعة، ولتكون خارج الدار ثوراً هائجاً تفرغ هم نفسك في موظف صغير لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، وتنفس عن غرائزك المكفوفة في خادم عاجز لا يملك أن يتقي شرك ليتك، يا صاحبي، تعلمت من فلسفتك أن صلات الأسرة تزداد قوة ومتانة حين توثقها روابط الوطن والدين واللغة، فهي تلم شعتها وتجمع ما تبعثر منها وتبذر فيها غرس الألفة والحنان وتنفث روح العطف والمحبة! ليتك يا صاحبي، ليتك.
! كامل محمود حبيب

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣