للدكتور طه حسين
أقبل صاحبي وجه النهار مرتاعًا حائل اللون، شاحب الوجه، حائر الطرف، طائر اللب، كأنما ألم به طائف من الجن فروعه ترويعًا، وأخرجه عن ذلك الطور الهادئ الرزين الذي كنت اعرفه منه إذا لقيته فتحدثت إليه، واستمعت لأحاديثه المطمئنة العذبة الخصبة.
أقبل مرتاعًا لا يكاد يبين إذا تحدث أو هم بالحديث، بل لا يكاد يستقر في مجلس، بل لا يكاد يمسك جسمه من رعدة كانت تلم به من حين إلى حين فتهزه هزًا عنيفًا، وتذكر بقول ذلك الشاعر القديم
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر
وأشهد لقد أنفقت كثيرًا من الجهد، واصطنعت فنونًا من الحيلة، لأرده إلى ما الفت فيه من دعة وأمن وهدوء، ولقد افتقدت في تلك الساعة بعض هؤلاء الشيوخ الذين يتلون العزائم والرقي، بعد أن أخفقت أو كدت اخفق فيما كنت أحاول من رده إلى الوقار والصواب. ولكن ظفرت آخر الأمر بما كنت أحاول، واستطعت أن أتحدث إلى صاحبي، وأن اسأله عن مصدر هذا الاضطراب العنيف الذي أصابه وما عرفته عرضة لاضطراب يصيب العقل أو يصيب الجسم. قال وهو ذاهل أو كالذاهل: إثم هذا على أبي العلاء أيها الصديق، فلولا إنني نظرت في كتاب من كتبه آخر الليل، لأذود به هذا الأرق الذي ألح عليَّ إلحاحًا لما أصابني ما ترى، بل لما أصابني ما لم تر من تلك الأهوال التي ألمت بي، واصطلحت عليَّ حتى نفرتني من داري وأزعجتني عن أهلي، ودفعتني إليك في هذه الساعة التي لم أتعود أن أسعى فيها إليك. وثق باني قد خرجت من داري معتزمًا ألا أعود إليها، وقد أمرت أهلي أن يلتمسوا لنا دارًا أخرى، وأزمعت الرحلة عن القاهرة أيامًا، حتى إذا تم لهم ما أريد من التحول عن هذه الدار الموبوءة، عدت إليهم في دارنا الجديدة، لعلي أن أجد فيها ما أنا في حاجة إليه من الدعة وراحة البال. قلت ما أراك إلامريضًا تحمل مرضك على أبي العلاء وتكلفه من ذلك ما لم يقترف، وتكلف أهلك من آثار هذا المرض شططا. ومع أني لم أعرف بعد هذه الأهوال التي ألمت بك فأزعجتك عن دارك ودفعتك إلى ما تحاول من فراق القاهرة. فلست أرى بأسًا بهذا الرحيل فقد طال مقامك في مدينتنا، وقد احتملت من الجهد والعناء في عملك ما يضني الأصحاء والأقوياء، فكيف برجل عليل ضئيل مثلك، فارحل مصاحبًا ولكن حدثني عما ألم بك من الهول؟ قال مصدره رسالة الغفران يا سيدي، فليت أبا العلاء لم يكتب رسالة الغفران، قلت لا تقل هذا ولا تكن أثرًا، فان لغيرك في رسالة الغفران لذة ومتاعًا، وإذا كانت قد سلطت عليك الهول الذي لم أعرفه بعد، فإنها قد أتاحت لقوم آخرين في الشرق والغرب من الشهرة وبعد الصوت ما لم يسلط عليهم هولا من الأهوال، ولم يغربهم خطبًا من الخطوب. ولكن هات حديثك. قال: ما أشك في أن أبا العلاء كان مجنونًا حين كتب هذه الرسالة. قلت رب جنون خير من العقل، ولكن هات حديثك. قال: أتذكر هذا السخف الذي أغرق فيه إغراقًا حين ذكر هذين البيتين القديمين من شعر النمر بن تولب:
ألم بصحبتي وهم هجوع ... خيال طارق من أم حصن
لها ما تشتهي عسلا مصفى ... إذا شاءت وحواري بسمن
قلت هذا من خير ما في الرسالة، وأي بأس عليه من أن يفترض أن الشاعر قد وضع مكان حصن في البيت الأول اسمًا آخر كجزء أو حفص أو عمرو، ثم يلائم بين هذا الاسم وبين القافية في البيت الثاني، فهذا نوع من العبث المباح الذي لا يسوء أحدًا، وهو مع ذلك يدرب الذاكرة ويظهر شيئًا من المقدرة اللغوية التي يحرص العلماء والأدباء على إظهارها. قال أنت الذي يزعم أن هذا العبث لا يسوء أحدًا، وما رأيك في أنه قد ساءني وجشمني ما رأيت وما لم تر من الأهوال والخطوب. فقد أراد سوء الحظ أن أنظر في هذا الكتاب، وأن أقف عند هذا العبث، فأفكر في هذه الخيالات التي كانت تطرق المحبين والشعراء منهم بنوع خاص، والتي كانت إذا تطرق المحبين والشعراء منهم بنوع خاص، والتي كانت إذا طرقت هؤلاء الشعراء أنطقتهم بما تعرف وما لا تعرف من رائع الشعر وبارع الكلام. وأغرقت في هذا التفكير وجعلت استعين بالذاكرة على استحضار شيء من الشعر القديم الذي قاله الشعراء في الخيال الطارق والطيف الملم. ثم جعلت اسخر من أبي العلاء ومن جفاء طبعه وخشونة مزاجه، وجعلت ارثي لأم حصن هذه التي عبث الشاعر بها هذا العبث فلم يترك اسمها حيث وضعه النمر بن تولب، وإنما حذفه واخذ يضع مكانه أسماء أخرى بعدد حروف المعجم، ولو أنه كان رقيق القلب دقيق الحس ممتاز الشعور رفيقًا بالغانيات لما أزعج أم حصن عن مكانها، ولما أقلقها عن موضعها، ولكنه رجل غليظ لا علم له بالحب، ولا حظ له من الرقة، ولا معرفة له بحسن معاشرة النساء.
وإني لفي ذلك وإذا أنا أحس كأن الأرض تدور تحت قدمي، وكأن كل شيء يضطرب من حولي، ولا أكاد التفت إلى ذلك وأفكر فيه حتى يهدأ من حولي كل شيء، وإذا شخص جميل قد قام مني غير بعيد، وهو ينظر إليَّ نظرة عطف، وعلى وجهه غشاء من كآبة حلوة، وعلى ثغره ابتسامة كأنها ابتسامة الرضى، ولكني لا أعرف شيئًا أصدق منها تصويرا للحزن والأسى، وتمثيلا للوعة والحسرة، ولست أدري كيف لم يرعني مقام هذا الشخص الجميل، فلم أظهر فزعًا ولا اضطرابًا، وإنما أنست إليه وحققت النظر فيه فتبينت فتاة غضة الشباب رائعة الجمال، لولا أن شبابها يوشك أن يكون وهمًا، ولولا أن جمالها يوشك أن يكون خيالا، تبينت شخصًا حيًا متحركًا نضيرًا، ولكنه على ذلك لا يخلو من شيء يشبه الموت، ومن شيء يشبه السكون، ومن شيء يشبه الذبول. وهو على هذا كله يذكرني بشخص كنت آلفه ويألفني، وكنت أكبره ويكبرني، وقد فقدته منذ حين، فجزعت عليه جزعًا شديدًا، وكثيرًا ما سألت نفسي أتراها قد ذكرتني قبل أن تلج باب الموت.
وإني لأنظر إلى هذا الشخص الماثل، وان هذه الخواطر لتمر أمام نفسي وادعة كأنها السحاب الرقيق، وإذا أنا اسمع صوتًا رقيقًا خافتًا حلوا يسعى إليَّ سعيًا خفيًا من ناحية هذا الشخص الماثل غير بعيد. وإذا هذا الصوت يحمل إليَّ تحية عذبة هي التي كنت اسمعها من صديقتي حين كنت ألقاها وجه النهار، وما اكثر ما كنت ألقاها وجه النهار. اصبح بخير يا سيدي. فأجيب اصبحي بخير يا سيدتي. انك تعرفني أو تكاد تعرفني، انك تذكرني وتسال نفسك الآن كما كنت تسألها من قبل، إذ ذكرتك حين فارقت الحياة وودعت الاحياء، نعم يا سيدي قد ذكرتك وألححت في ذكرك، وكلفت من يقرأ تحيتي عليك، ولولا الحياء لكلفت من يدعوك لزيارتي قبل أن أموت ولكن لم افعل، ولم يعرض علي ذلك أحد من الذين كانوا يحيطون بسرير الموت، على أني لست آسفة فأني لم اخسر شيئًا، لأني لم أفارق أحدا ممن كنت احب لقاءهم في تلك الحياة، إنما أنا أراهم وأسعى بينهم وأتحدث إلى نفوسهم وأسمع منها، وكل ما فقدته إنما هي هذه الأصوات التي كنت اسمعها، وهذه الأيدي التي كنت أصافحها. وثق بأنها لا تعدل شيئًا حين أقيسها إلى ما اسمع الآن من أحاديث الضمائر ونجوى النفوس. وما كنت لأتراءى لك الآن لولا انك أغرقت في ذكر الخيال واستحضار الخيالات. ولست اخفي عليك أني كنت أريد حين تراءيت لك أن أداعبك بعض الشيء، فلا تظن أن الدعابة مقصورة على الاحياء، فقد يأخذ الموتى من الدعابة بنصيب أيضًا. كنت أريد أن أتراءى لك على أني أم حصن صاحبة النمر بن تولب، وان اشكر لك عطفك عليَّ ورفقك بي ولومك لأبي العلاء. ولكني لم استطع أن أخدعك لأني لم أتعود خداعك أثناء الحياة. ثم لأني إنما أقبلت إلى هذا المكان لألقى في روعك رسالة كنت أريد أن تبلغها عني، وكنت أريد أن القيها إليك كما تلقى الرسائل إلى الناس في الأحلام، ولكني رأيتك يقظان تنظر في هذا الكتاب فانتظرت لعل النوم أن يسعى اليك، ثم رأيتك تذكر الخيال وتستحضر الاطياف فتراءيت لك، وهل انا الأخيال أو طيف؟ لا تطل النظر إليَّ ولا تقل شيئًا فان نظر الاحياء يؤذيني، وان اصوات الاحياء تثقل عليَّ، ولكن اسمع مني ولتتحدث نفسك إليّ إذا لم يكن لك يد من حديث، واني لأعلم انك تريد أن تسألني كيف اتحدث اليك بصوت يشبه صوت الاحياء، واشفق مع ذلك من سماع صوتك فانا لا اتحدث اليك بصوت يستطيع غيرك أن يسمعه، إنما انت الذي يمنح هذا الصوت قوته وتشخصيه، ولو أن في هذه الغرفة قومًا غيرك لما رأوا من شخصي ما ترى، ولما سمعوا من صوتي ما تسمع، ولكن اصغ اليّ فاني أحس مقدم النهار، واني أكره هذا الضوء الذي يغمر الكون حين تشرق الشمس، والذي كنت أحبه أشد الحب اثناء الحياة، والذي لم احزن على شيء حزني على فراقه قبل أن أموت، والذي لم أتسل عن شيء كما تسليت عنه الآن.
أصغ إليّ فان أريد أن ألقي إليك رسالتي، وان أنصرف عنك قبل أن يهجم ضوء النهار فيبدد ظلمة الليل، وإني لحريصة على أن ألقاك، فان كان لقائي يرضيك الآن كما كان يرضيك من قبل، فأنتهز فرصة كهذه الفرصة، في ساعة كهذه الساعة، وانظر في هذا الكتاب وأطل التفكير فيه، فقد أستجيب لدعائك حينئذ. ثم سكت هذا الصوت قليلًا، وإنما قتلني معه الحب أيضًا، فقد تذكر أن زوجي فارقني قبل أن أموت بأشهر، لأن مرضي المتصل قد ثقل عليه، وقد تذكر اني كنت أظهر تجلدًا وعزاء، وقد تعلم أني كنت اخفي في ذلك غير ما اضمر، وانك كنت تشفق علي مما كنت أخفيه. وكنت تود لو استطعت ان تسليني عن بعض ما اجد، فاعلم الآن اني حين ثقلت على العلة، وتورمت اطرافي، ورأى الطبيب ان ينزع ذلك الخاتم الذي كان آخر ما بقي لي من زوجي، لم اشك في انه سينزع معه الحياة من هذا الجسم المريض، ولم اكره ذلك، وأي بأس من مفارقة العلة واليأس. فأبلغ زوجي إني فارقت الحياة وانا أحبه، وان مقامي في هذه الارض بعد الموت لن يطول، وأنه خليق ان يعلم اني أراه وارافقه، وأنه خليق أن يرعى ذلك وان يذكرني في شيء من الخير والرفق والوفاء، حتى إذا آن لهذا الخيال ان يصعد في طبقات الجو وان يمضي إلى ذلك العالم الذي تعيش فيه خيالات الموتى، وان تنقطع الصلة بينه وبيني من الاسباب. قالت ذلك ثم نظرت اليّ نظرة قوية حادة، لم استطع ان أثبت لها، وإنما أطرقت برأسي إلى الارض خائفًا وجلا. ثم رفعت رأسي بعد ذلك ونظرت فلم أر شيئًا، وتسمعت فلم ينتبه إلى صوت وانما هي رسالة الغفران مبسوطة أمامي أرى فيها عبث ابي العلاء حول شعر النمر بن تولب. هنالك أخذني هلع ما أعرف اين احسست مثله من قبل، وملكني روع كاد يدفعني إلى الصياح لولا بقية من عقل، وفضل من حياء، ففارقت غرفتي وهبطت إلى الحديقة أهيم فيها انتظر مطلع النهار، حتى إذا ارتفعت الشمس قيلًا أوصيت أهلي بما أوصيت واسرعت اليك. أترى بعد ذلك ان سخف أبي العلاء لم يسؤ أحدًا؟ قال ذلك ثم أخذته رعدة غريبة اشفقت أن ترده إلى مثل ما كان عليه من الوجل والاضطراب، فما زلت به حتى رددت إليه الامن والهدوء. وقلت مداعبًا: ويحك! ألم تقرآ كتاب أناطول فرانس ذلك الذي سماه جريمة سلسفتر بونار؟ إن فيه قصة ان لم تكن تشبه قصتك هذهمن كل وجه، فانها قريبة منها إلى حد ما، وما أرى إلا انك قد ذكرت صاحبتك هذه في ضوء النهار أو في ظلمة الليل، حتى إذا أخذت تنظر في كتابك اخذك هذا النوم الخفيف الذي تتراءى فيه الأشباح والخيالات. قال مغضبًا: اقسم لك ما كنت نائمًا ولا قريبًا من النائم، وإنما كنت يقظان أشد ما يكون الناس يقظة وانتباهًا، ولكن ما نفع الحديث معك في هذا وأنت لا تؤمن بعالم الخيال. قلت: فاني أشفق عليك من ايمانك هذا فقد تسطيع أن تتحول عن دارك، وان تفارق القاهرة، وأن تنزل من الارض أي منزل شئت، فسيتراءى لك هذا الخيال كلما خطر له أن يتحدث اليك، أو أن يحملك رسالة إلى الاحياء. وماذا تريد الآن أن تصنع برسالته هذه؟ أتحملها إلى من أنت مكلف أن تحملها إليه أم تكتمها؟ فان تكن الاولى فماذا تصنع إن لقيك باللوم لانك تعرض لما لا ينبغي لك أن تدخل فيه، وان تكن الثانية فماذا تصنع إن ألم بك الخيال وسألك عن تبيلغ الرسالة وتأدية الأمانة والوفاء بالعهد؟ هنالك نهض صاحبي مغاضبًا وهو يقول: ما أشد بغضي للذين يمزحون في غير أوقات المزاح. ثم انصرف عني وانا شدي الاشفاق عليه وعلى كثير من امثاله الذين تطرقهم هذه الخيالات فتملأ قلوببعضهم أمنًا ورضى، وتملأ قلوب بعضهم الآخر خوفًا وروعًا.
طه حسين
للدكتور طه حسين
أقبل صاحبي وجه النهار مرتاعًا حائل اللون، شاحب الوجه، حائر الطرف، طائر اللب، كأنما ألم به طائف من الجن فروعه ترويعًا، وأخرجه عن ذلك الطور الهادئ الرزين الذي كنت اعرفه منه إذا لقيته فتحدثت إليه، واستمعت لأحاديثه المطمئنة العذبة الخصبة.
أقبل مرتاعًا لا يكاد يبين إذا تحدث أو هم بالحديث، بل لا يكاد يستقر في مجلس، بل لا يكاد يمسك جسمه من رعدة كانت تلم به من حين إلى حين فتهزه هزًا عنيفًا، وتذكر بقول ذلك الشاعر القديم
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر
وأشهد لقد أنفقت كثيرًا من الجهد، واصطنعت فنونًا من الحيلة، لأرده إلى ما الفت فيه من دعة وأمن وهدوء، ولقد افتقدت في تلك الساعة بعض هؤلاء الشيوخ الذين يتلون العزائم والرقي، بعد أن أخفقت أو كدت اخفق فيما كنت أحاول من رده إلى الوقار والصواب. ولكن ظفرت آخر الأمر بما كنت أحاول، واستطعت أن أتحدث إلى صاحبي، وأن اسأله عن مصدر هذا الاضطراب العنيف الذي أصابه وما عرفته عرضة لاضطراب يصيب العقل أو يصيب الجسم. قال وهو ذاهل أو كالذاهل: إثم هذا على أبي العلاء أيها الصديق، فلولا إنني نظرت في كتاب من كتبه آخر الليل، لأذود به هذا الأرق الذي ألح عليَّ إلحاحًا لما أصابني ما ترى، بل لما أصابني ما لم تر من تلك الأهوال التي ألمت بي، واصطلحت عليَّ حتى نفرتني من داري وأزعجتني عن أهلي، ودفعتني إليك في هذه الساعة التي لم أتعود أن أسعى فيها إليك. وثق باني قد خرجت من داري معتزمًا ألا أعود إليها، وقد أمرت أهلي أن يلتمسوا لنا دارًا أخرى، وأزمعت الرحلة عن القاهرة أيامًا، حتى إذا تم لهم ما أريد من التحول عن هذه الدار الموبوءة، عدت إليهم في دارنا الجديدة، لعلي أن أجد فيها ما أنا في حاجة إليه من الدعة وراحة البال. قلت ما أراك إلامريضًا تحمل مرضك على أبي العلاء وتكلفه من ذلك ما لم يقترف، وتكلف أهلك من آثار هذا المرض شططا. ومع أني لم أعرف بعد هذه الأهوال التي ألمت بك فأزعجتك عن دارك ودفعتك إلى ما تحاول من فراق القاهرة. فلست أرى بأسًا بهذا الرحيل فقد طال مقامك في مدينتنا، وقد احتملت من الجهد والعناء في عملك ما يضني الأصحاء والأقوياء، فكيف برجل عليل ضئيل مثلك، فارحل مصاحبًا ولكن حدثني عما ألم بك من الهول؟ قال مصدره رسالة الغفران يا سيدي، فليت أبا العلاء لم يكتب رسالة الغفران، قلت لا تقل هذا ولا تكن أثرًا، فان لغيرك في رسالة الغفران لذة ومتاعًا، وإذا كانت قد سلطت عليك الهول الذي لم أعرفه بعد، فإنها قد أتاحت لقوم آخرين في الشرق والغرب من الشهرة وبعد الصوت ما لم يسلط عليهم هولا من الأهوال، ولم يغربهم خطبًا من الخطوب. ولكن هات حديثك. قال: ما أشك في أن أبا العلاء كان مجنونًا حين كتب هذه الرسالة. قلت رب جنون خير من العقل، ولكن هات حديثك. قال: أتذكر هذا السخف الذي أغرق فيه إغراقًا حين ذكر هذين البيتين القديمين من شعر النمر بن تولب:
ألم بصحبتي وهم هجوع ... خيال طارق من أم حصن
لها ما تشتهي عسلا مصفى ... إذا شاءت وحواري بسمن
قلت هذا من خير ما في الرسالة، وأي بأس عليه من أن يفترض أن الشاعر قد وضع مكان حصن في البيت الأول اسمًا آخر كجزء أو حفص أو عمرو، ثم يلائم بين هذا الاسم وبين القافية في البيت الثاني، فهذا نوع من العبث المباح الذي لا يسوء أحدًا، وهو مع ذلك يدرب الذاكرة ويظهر شيئًا من المقدرة اللغوية التي يحرص العلماء والأدباء على إظهارها. قال أنت الذي يزعم أن هذا العبث لا يسوء أحدًا، وما رأيك في أنه قد ساءني وجشمني ما رأيت وما لم تر من الأهوال والخطوب. فقد أراد سوء الحظ أن أنظر في هذا الكتاب، وأن أقف عند هذا العبث، فأفكر في هذه الخيالات التي كانت تطرق المحبين والشعراء منهم بنوع خاص، والتي كانت إذا تطرق المحبين والشعراء منهم بنوع خاص، والتي كانت إذا طرقت هؤلاء الشعراء أنطقتهم بما تعرف وما لا تعرف من رائع الشعر وبارع الكلام. وأغرقت في هذا التفكير وجعلت استعين بالذاكرة على استحضار شيء من الشعر القديم الذي قاله الشعراء في الخيال الطارق والطيف الملم. ثم جعلت اسخر من أبي العلاء ومن جفاء طبعه وخشونة مزاجه، وجعلت ارثي لأم حصن هذه التي عبث الشاعر بها هذا العبث فلم يترك اسمها حيث وضعه النمر بن تولب، وإنما حذفه واخذ يضع مكانه أسماء أخرى بعدد حروف المعجم، ولو أنه كان رقيق القلب دقيق الحس ممتاز الشعور رفيقًا بالغانيات لما أزعج أم حصن عن مكانها، ولما أقلقها عن موضعها، ولكنه رجل غليظ لا علم له بالحب، ولا حظ له من الرقة، ولا معرفة له بحسن معاشرة النساء.
وإني لفي ذلك وإذا أنا أحس كأن الأرض تدور تحت قدمي، وكأن كل شيء يضطرب من حولي، ولا أكاد التفت إلى ذلك وأفكر فيه حتى يهدأ من حولي كل شيء، وإذا شخص جميل قد قام مني غير بعيد، وهو ينظر إليَّ نظرة عطف، وعلى وجهه غشاء من كآبة حلوة، وعلى ثغره ابتسامة كأنها ابتسامة الرضى، ولكني لا أعرف شيئًا أصدق منها تصويرا للحزن والأسى، وتمثيلا للوعة والحسرة، ولست أدري كيف لم يرعني مقام هذا الشخص الجميل، فلم أظهر فزعًا ولا اضطرابًا، وإنما أنست إليه وحققت النظر فيه فتبينت فتاة غضة الشباب رائعة الجمال، لولا أن شبابها يوشك أن يكون وهمًا، ولولا أن جمالها يوشك أن يكون خيالا، تبينت شخصًا حيًا متحركًا نضيرًا، ولكنه على ذلك لا يخلو من شيء يشبه الموت، ومن شيء يشبه السكون، ومن شيء يشبه الذبول. وهو على هذا كله يذكرني بشخص كنت آلفه ويألفني، وكنت أكبره ويكبرني، وقد فقدته منذ حين، فجزعت عليه جزعًا شديدًا، وكثيرًا ما سألت نفسي أتراها قد ذكرتني قبل أن تلج باب الموت.
وإني لأنظر إلى هذا الشخص الماثل، وان هذه الخواطر لتمر أمام نفسي وادعة كأنها السحاب الرقيق، وإذا أنا اسمع صوتًا رقيقًا خافتًا حلوا يسعى إليَّ سعيًا خفيًا من ناحية هذا الشخص الماثل غير بعيد. وإذا هذا الصوت يحمل إليَّ تحية عذبة هي التي كنت اسمعها من صديقتي حين كنت ألقاها وجه النهار، وما اكثر ما كنت ألقاها وجه النهار. اصبح بخير يا سيدي. فأجيب اصبحي بخير يا سيدتي. انك تعرفني أو تكاد تعرفني، انك تذكرني وتسال نفسك الآن كما كنت تسألها من قبل، إذ ذكرتك حين فارقت الحياة وودعت الاحياء، نعم يا سيدي قد ذكرتك وألححت في ذكرك، وكلفت من يقرأ تحيتي عليك، ولولا الحياء لكلفت من يدعوك لزيارتي قبل أن أموت ولكن لم افعل، ولم يعرض علي ذلك أحد من الذين كانوا يحيطون بسرير الموت، على أني لست آسفة فأني لم اخسر شيئًا، لأني لم أفارق أحدا ممن كنت احب لقاءهم في تلك الحياة، إنما أنا أراهم وأسعى بينهم وأتحدث إلى نفوسهم وأسمع منها، وكل ما فقدته إنما هي هذه الأصوات التي كنت اسمعها، وهذه الأيدي التي كنت أصافحها. وثق بأنها لا تعدل شيئًا حين أقيسها إلى ما اسمع الآن من أحاديث الضمائر ونجوى النفوس. وما كنت لأتراءى لك الآن لولا انك أغرقت في ذكر الخيال واستحضار الخيالات. ولست اخفي عليك أني كنت أريد حين تراءيت لك أن أداعبك بعض الشيء، فلا تظن أن الدعابة مقصورة على الاحياء، فقد يأخذ الموتى من الدعابة بنصيب أيضًا. كنت أريد أن أتراءى لك على أني أم حصن صاحبة النمر بن تولب، وان اشكر لك عطفك عليَّ ورفقك بي ولومك لأبي العلاء. ولكني لم استطع أن أخدعك لأني لم أتعود خداعك أثناء الحياة. ثم لأني إنما أقبلت إلى هذا المكان لألقى في روعك رسالة كنت أريد أن تبلغها عني، وكنت أريد أن القيها إليك كما تلقى الرسائل إلى الناس في الأحلام، ولكني رأيتك يقظان تنظر في هذا الكتاب فانتظرت لعل النوم أن يسعى اليك، ثم رأيتك تذكر الخيال وتستحضر الاطياف فتراءيت لك، وهل انا الأخيال أو طيف؟ لا تطل النظر إليَّ ولا تقل شيئًا فان نظر الاحياء يؤذيني، وان اصوات الاحياء تثقل عليَّ، ولكن اسمع مني ولتتحدث نفسك إليّ إذا لم يكن لك يد من حديث، واني لأعلم انك تريد أن تسألني كيف اتحدث اليك بصوت يشبه صوت الاحياء، واشفق مع ذلك من سماع صوتك فانا لا اتحدث اليك بصوت يستطيع غيرك أن يسمعه، إنما انت الذي يمنح هذا الصوت قوته وتشخصيه، ولو أن في هذه الغرفة قومًا غيرك لما رأوا من شخصي ما ترى، ولما سمعوا من صوتي ما تسمع، ولكن اصغ اليّ فاني أحس مقدم النهار، واني أكره هذا الضوء الذي يغمر الكون حين تشرق الشمس، والذي كنت أحبه أشد الحب اثناء الحياة، والذي لم احزن على شيء حزني على فراقه قبل أن أموت، والذي لم أتسل عن شيء كما تسليت عنه الآن.
أصغ إليّ فان أريد أن ألقي إليك رسالتي، وان أنصرف عنك قبل أن يهجم ضوء النهار فيبدد ظلمة الليل، وإني لحريصة على أن ألقاك، فان كان لقائي يرضيك الآن كما كان يرضيك من قبل، فأنتهز فرصة كهذه الفرصة، في ساعة كهذه الساعة، وانظر في هذا الكتاب وأطل التفكير فيه، فقد أستجيب لدعائك حينئذ. ثم سكت هذا الصوت قليلًا، وإنما قتلني معه الحب أيضًا، فقد تذكر أن زوجي فارقني قبل أن أموت بأشهر، لأن مرضي المتصل قد ثقل عليه، وقد تذكر اني كنت أظهر تجلدًا وعزاء، وقد تعلم أني كنت اخفي في ذلك غير ما اضمر، وانك كنت تشفق علي مما كنت أخفيه. وكنت تود لو استطعت ان تسليني عن بعض ما اجد، فاعلم الآن اني حين ثقلت على العلة، وتورمت اطرافي، ورأى الطبيب ان ينزع ذلك الخاتم الذي كان آخر ما بقي لي من زوجي، لم اشك في انه سينزع معه الحياة من هذا الجسم المريض، ولم اكره ذلك، وأي بأس من مفارقة العلة واليأس. فأبلغ زوجي إني فارقت الحياة وانا أحبه، وان مقامي في هذه الارض بعد الموت لن يطول، وأنه خليق ان يعلم اني أراه وارافقه، وأنه خليق أن يرعى ذلك وان يذكرني في شيء من الخير والرفق والوفاء، حتى إذا آن لهذا الخيال ان يصعد في طبقات الجو وان يمضي إلى ذلك العالم الذي تعيش فيه خيالات الموتى، وان تنقطع الصلة بينه وبيني من الاسباب. قالت ذلك ثم نظرت اليّ نظرة قوية حادة، لم استطع ان أثبت لها، وإنما أطرقت برأسي إلى الارض خائفًا وجلا. ثم رفعت رأسي بعد ذلك ونظرت فلم أر شيئًا، وتسمعت فلم ينتبه إلى صوت وانما هي رسالة الغفران مبسوطة أمامي أرى فيها عبث ابي العلاء حول شعر النمر بن تولب. هنالك أخذني هلع ما أعرف اين احسست مثله من قبل، وملكني روع كاد يدفعني إلى الصياح لولا بقية من عقل، وفضل من حياء، ففارقت غرفتي وهبطت إلى الحديقة أهيم فيها انتظر مطلع النهار، حتى إذا ارتفعت الشمس قيلًا أوصيت أهلي بما أوصيت واسرعت اليك. أترى بعد ذلك ان سخف أبي العلاء لم يسؤ أحدًا؟ قال ذلك ثم أخذته رعدة غريبة اشفقت أن ترده إلى مثل ما كان عليه من الوجل والاضطراب، فما زلت به حتى رددت إليه الامن والهدوء. وقلت مداعبًا: ويحك! ألم تقرآ كتاب أناطول فرانس ذلك الذي سماه جريمة سلسفتر بونار؟ إن فيه قصة ان لم تكن تشبه قصتك هذهمن كل وجه، فانها قريبة منها إلى حد ما، وما أرى إلا انك قد ذكرت صاحبتك هذه في ضوء النهار أو في ظلمة الليل، حتى إذا أخذت تنظر في كتابك اخذك هذا النوم الخفيف الذي تتراءى فيه الأشباح والخيالات. قال مغضبًا: اقسم لك ما كنت نائمًا ولا قريبًا من النائم، وإنما كنت يقظان أشد ما يكون الناس يقظة وانتباهًا، ولكن ما نفع الحديث معك في هذا وأنت لا تؤمن بعالم الخيال. قلت: فاني أشفق عليك من ايمانك هذا فقد تسطيع أن تتحول عن دارك، وان تفارق القاهرة، وأن تنزل من الارض أي منزل شئت، فسيتراءى لك هذا الخيال كلما خطر له أن يتحدث اليك، أو أن يحملك رسالة إلى الاحياء. وماذا تريد الآن أن تصنع برسالته هذه؟ أتحملها إلى من أنت مكلف أن تحملها إليه أم تكتمها؟ فان تكن الاولى فماذا تصنع إن لقيك باللوم لانك تعرض لما لا ينبغي لك أن تدخل فيه، وان تكن الثانية فماذا تصنع إن ألم بك الخيال وسألك عن تبيلغ الرسالة وتأدية الأمانة والوفاء بالعهد؟ هنالك نهض صاحبي مغاضبًا وهو يقول: ما أشد بغضي للذين يمزحون في غير أوقات المزاح. ثم انصرف عني وانا شدي الاشفاق عليه وعلى كثير من امثاله الذين تطرقهم هذه الخيالات فتملأ قلوببعضهم أمنًا ورضى، وتملأ قلوب بعضهم الآخر خوفًا وروعًا.
طه حسين