أرشيف المقالات

سلطان الشهوة

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
قصة وعبرة
سلطان الشهوة


تضايق الكلب من سوء وقبح اسمه، فجاء يومًا إلى الأسد مشتكيًا له همَّه، فقال: أيها الملك، إن اسمي قبيح، والكل يُعيِّرني به، وأنا مستاء كثيرًا منه، فهل تأذنُ في تغييره باسمٍ جميل ومقبول، فقال الأسد: أنت أيها الكلب خائنٌ، ولا يصلح لك غير هذا الاسم، فقال الكلب: أرجوك يا سيدي أن تريحني بتغيير اسمي، فقصص وفائي مع أصحابي الفلاحين ومُلَّاك المواشي أكثر من أن تُحصى، وستُثبت لك الأيامُ صدقَ وفائي، فقال الأسد: فعلًا لقد سمعت الكثير مِن قصص وفائك مع أصحابك، ولكن ذلك الوفاء - في نظري - ما هو إلا مقابل ما يُقدَّم لك من طعام شهيٍّ وإيواء وحماية، فأنا أعرف جيدًا أن نفسك ضعيفةٌ ودنيئة، ولا تقوى على مقاومة قوة إغراء الشهوة، فقال الكلب: أرجوك، أعطني فرصةً؛ لأُثبت لك حُسنَ وفائي وقدرةَ ضبطي لسلطان الشهوة، فقال الأسد: سأفعل ذلك لاحقًا من خلال اختبارك، وسنرى صدقَ دعواك!

وبعد فترة من الزمن استدعى الأسدُ الكلبَ، وقال له: سأترك عندك أمانةً، فخُذ هذه القطعة من اللحم واحتفظ بها معك، وائتني بها في الغد منتصف النهار في مجلسي، وعند مجيئك سيكون جالسًا عندي عِلْيةُ القوم مِن وحوش الغابة، وسأُصدر وقتها مرسومًا بتغيير اسمك إلى اسمٍ ملائم ومقبول، وسأشير في المرسوم إلى أمانتك ووفائك إن أثبتَّ لي ذلك، فقال الكلب: أبشِر بما يَسرُّك، وإنني أتطلَّع بلهفةٍ إلى الغد، وإلى تلك اللحظة التي تعلن فيها تغيير اسمي يا سيدي الأسد، حتى أرفع عن كاهلي هذا العار وتلك المسبَّة التي لازَمتني طول حياتي.

استلم الكلب قطعةَ اللحم وانصرف من مجلس ملِك الغابة، وأخذ يردِّد في نفسه: سأثبتُ للأسد أمانتي وقوةَ ضبطي لسلطان الشهوة التي طالما كانت تَخذُلني كثيرًا، وبينما كان يسير في طريق عودته، شعر بشيءٍ من الجوع، فأخذتْ نفسُه تحدِّثه عن لذَّة مذاق اللحم، فزجَر شهوته، وقال لها: ألا تريدين أن أرفع عن نفسي عار هذا الاسم القبيح؟! وهلَّا أكسبتِني فرصةَ موافقة الملِك؛ فالفرصة لا تأتي إلا مرةً واحدة، ولا يكسبها إلا مَن ينتظرها ويستثمرها، ثم تابع مسيرَه، ولكن الجوع أخذ يَقرُص بطنه، فعاوَده التفكير في لذَّة اللحم، ولَمَّا غلبته نفسه، قال: وأي شيء كاسمي، فما الكلب إلا اسمٌ حسن، فأكل قطعةَ اللحم، ولمَّا انتهى من التهامها ندِم على فَعْلته، وعندها لم يَجرؤ على العودة إلى الأسد؛ لأنه لم يُفلِح في اختبار ضبط سلطان الشهوة.


وهذا ما يُلاحَظ لدى ضعاف النفوس مِن مديري بعض المؤسسات؛ كالذي يكسر الأنظمة لأجل الواسطة أو المنافع الشخصية، ضاربًا بالأمانة والمصلحة العامة عُرْض الحائط، ومثله الموظف الذي يَسيل لُعابُه عندما تُقدَّم له رِشوة، أو يُمنَّى بتمرير مصلحة خاصة في موقع آخر، وكالتاجر الجَشِع الذي يَحتكر السلعة عندما تَندُر في السوق؛ ليَبيعها بالسعر الذي يروق له، دون أن يأْبَه لأحوال الناس وحاجتهم ودوره الوطني، وينسحب هذا أيضًا على مَن تَضعُف نفسُه أمام إغراء شهوة الهوى باقتراف المحرَّمات، متناسيًا العقاب الذي يترتَّب عليه في الدنيا والآخرة، كما فعل الشابُّ الذي كان يُصرُّ على عدم ترك الزنا، قبل أن يحاوره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أتحبُّه لأمك؟ أتُحبه لأختك؟ أتُحبه لعمَّتك؟ أتُحبه لخالتك؟))، وفي كلِّ مرة كان الشاب يقول: لا والله، جعلني الله فداك، فيُجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم...
لأخواتهم...)
)
، ثم وضع يدَه الشريفة على صدر الشاب وقال: ((اللهم اغفِر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجَه))، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء؛ (مجمع الزوائد: 1/ 134).


يقول ابن الجوزي: "وهكذا يفعل خسيسُ الهمَّة، القنوع بأقل المنازل، المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل، فالله اللهَ في حريق الهوى إذا ثار، فانظر كيف تُطفئه، فرُبَّ زلةٍ أوقعت في بئر بوار، ورب أثرٍ لم ينقطع، والفائت لا يُستدرَك على الحقيقة، فابتعد عن أسباب الفتنة؛ فإن المقاربة مِحنةٌ لا يكاد صاحبها يَسلَم"؛ (صيد الخاطر: 167- 168).


والإنسان كائن ضعيف، يتعرَّض بين الحين والآخر لنوازع الخير والشر، وقد تَضعُف نفسه فيَنساق إلى طريق الرذيلة والانحراف، ويدفعه الشرُّ إلى طريق الظلم والتعدِّي، ويُزين له الشيطان فعل المنكرات، ولكنَّ نازِعَ الخير يُحرِّك الضمير، ويُشعر الإنسان بالندم، ويَحثُّه على الرجوع إلى الحق والاستجابة لنداء العقل؛ حتى يصونَ نفسَه عن الوقوع في مستنقع الرذيلة والشهوات، وهذا يحتاج إلى مجاهدة واستعانةٍ بالله وعزيمة؛ يقول تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، كما يحتاج أيضًا إلى حكمة وتعقُّل، وهذا ما أشار إليه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي رواه شداد بن أوس رضي الله عنه، أنه عليه الصلاة والسلام، قال: ((الكَيِّس من دان نفسه وعمِل لِما بعد الموت، والعاجز من أتبَع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني))؛ (الترمذي: 2459).
 
ومضة: دافِعِ الخطرة، فإن لم تفعل صارت شهوةً، فإن لم تدفعها صارت فعلًا، فإن لم تتداركه بضده صارت عادةً، فيَصعُب عليك عندها الانتقال عنها.

شارك الخبر

المرئيات-١