أرشيف المقالات

عبد الله بن سبأ

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 للدكتور جواد علي - 4 - رأيت أن مجيء عبد الله بن سبأ إلى البصرة ونزوله على بين عبد القيس إنما كان على زعم (يزيد الفقعسي) في السنة الثالثة من حكم عبد الله بن عامر الذي ولى إمارة البصرة في عام 29 للهجرة.
أي في سنة 32 - 33 للهجرة.
وإنه نزل على حكيم ابن جبلة، ويزعم صاحب هذا الحديث الذي دونه الطبري أنه، أي حكيم بن جبلة كان من أشرار الناس ومن مشاهير قطاع الطرق وأنه كان يذهب إلى أرض فارس (فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم ويفسد في الأرض ويصيب من يشاء ثم يرجع.
فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان بن عفان فكتب إلى عبد الله بن عامر أن احبسه؛ ومن كان مثله، فلا يخرجن من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً.
فحبسه، فكان لا يستطيع أن يخرج منها) وقد كان (حكيم بن جبلة) من الناقمين والمشاغبين على الحكومة، وكان على رأس الجماعة التي ذهبت إلى المدينة واشتركت في الفتنة المؤسفة التي أدت إلى استشهاد الخليفة، وكان قد أظهر أنه يريد الحج، وكان في الواقع على اتفاق مع سائر المشاغبين وعلى اتصال محكم بمشاغبي الكوفة وأهل مصر. ولست أزعم لك أن نزول عبد الله بن سبأ في دار هذا اللص المشاغب كان حقاً، ولست أزعم لك أيضاً أن ذلك كان باطلاً؛ ولكني لا أبيح لك سراً أن قلت لك بأني غير مطمئن إلى هذا الحديث الذي يرويه (يزيد الفقعسي) ولا إلى أكثر أحاديث هذا الراوية.
لقد كان هوى (ابن جبلة) وجماعته من أهل البصرة مع (طلحة) فلم اختار ابن سبأ النزول على هذا الرجل من بين سائر رجال البصرة.
وقد كان هواه مع علي.
وقد كان في البصرة أناس يميلون إلى علي أيضاً، والذي أنزل هذا الرجل على (حكيم بن جبلة) في نظري هو (يزيد) نفسه صاحب هذا الحديث لغرض سينجلي لك فيما بعد. لم يتحدث الطبري عن نشاط عبد الله بن سبأ في البصرة ولا عن الفتنة التي أثارها في جنوب العراق.
وكل ما قاله أن الوالي بعد ما سمع بخبر هذا الذمي (الذي رغب في الإسلام ورغب في جوار ابن عامر) قال له (أخرج عني، فخرج حتى أتى الكوفة فأخرج م فاستقر بمصر. ولم يتحدث الطبري ولا غيره عن نشاط هذا الذمي في الكوفة.
والظاهر من كلامه أن إقامته بها كانت قصيرة، وأنه لم يحصل على النتائج التي كان يريدها من هذا البلد، فسافر إلى الشام.
ولا ندري بالطبع متى وصل الشام، والذي نستطيع أن نقوله أبه بلغ مقر (معاوية بن أبي سفيان) بعد خروجه من الكوفة، وأن ذلك كان بعد سنة 32 - 33 للهجرة. ويدعي الطبري استناداً على أقوال (يزيد الفقعسي) أيضاً أنه (لما ورد ابن السوداء لقى أبا ذر، ألا تعجب إلى معاوية يقول: المال مال الله؛ ألا إن كل شئ لله؟ كأنه يريد أن يحتجه دون المسلمين ويمحو اسم المسلمين) فتأثر أبو ذر من مقالته وذهب إلى معاوية فقال: (ما يدعوك إلى أن تسمى مال المسلمين مال الله؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره؟ قال تقله.
قال فإني لا أقول إنه ليس لله، ولكن سأقول مال المسلمين) وخرج أبو ذر مغضباً من معاوية غير مقتنع بقوله، وصار ينادي في أهل الشام ويقول: (يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء.
بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوي بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.
فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذاك وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء، ما يلقون من الناس، فكتب معاوية إلى عثمان أن أبا ذر قد أعضل بي، وقد كان من أمره كيت وكيت.
فكتب إليه عثمان أن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينها، فلم يبق إلا أن تشب فلا تنكا القرح.
وجهز أبا ذر إليَّ وابعث معه دليلاً وزوده وارفق به وكفكف الناس ونفسك ما استطعت، فإنما تمسك ما استمسكت.
فبعث بأبي ذر ومعه دليل) وذهب (ابن سبأ) وهو بالشام إلى رجل آخر توسم فيه الانقياد والإذعان لمقالته بسهولة، وهذا الرجل هو (أبو الدرداء) وتحدث إليه بالحديث الذي ذكره لأبي ذر محاولاً إغراءه غير أن (أبا الدرداء) كان حذراً ذكياً فقال له (من أنت؟ أظنك والله يهوديا) فأتى عبادة نب الصامت وأظهر له نفس المقالة (فتعلق به فأني به معاوية فقال: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر). فيظهر من حديث (يزيدالفقعسي) الذي حكاه الطبري عن طريق (سيف) أن نداء (أبي ذر) هذا وتحريكه الفقراء على الأغنياء إنما كان بتحريض (ابن سبأ) والحديث كله كما قلت في حاجة إلى تمحيص.
فقد غادر (أبو ذر) الشام في عام 30 للهجرة، وترك (المدينة) في نفس السنة إلى الربذة حيث أقام بها إلى أن اختاره الله إلى جواره في سنة اثنتين وثلاثين للهجرة أي قبل مجيء (ابن سبأ) إلى البصرة.
ومعنى هذا أن مجيء (عبد الله بن سبأ) إلى الشام كان بعد وفاة (أبي ذر) وبعد خروجه من الشام بما يزيد على سنتين. ثم إن صاحبنا (أبو ذر) لم يكن من أولئك الرجال البسطاء السذج الذين كانوا يستجيبون لدعوة رجل لا يعرف من أمره شيئاً، وقد رأيت أنه سبٌّ (كعب الأحبار) وقد كان أعلى من هذا النكرة (ابن سبأ) درجة وعلماً ومقاماً، وأقدم من أخيه في الدين إسلاماً، حينما تعرض لبحث في حضرة الخليفة الشهيد ورجل يقول لكعب الأحبار (يا أبن اليهودية ما أنت وما ههنا والله لتسمعن مني أو لأدخل عليك).
أو (يا ابن اليهوديين أتعلمنا ديننا).
ثم لا يكتفي بذلك وهو في حضرة خليفة بل يرفع محجنه فيشبج ناصية كعب حتى يضطر الخليفة إلى استرضاء كعب والاعتذار منه.
إن رجلاً مثل هذا لا يمكن أن يسلم نفسه إلى مسلم حديث العهد بالإسلام لم يعرف من أمره غير المشاغبة والتجول بين الأقطار.
ثم يقنع بدعوته بمثل تلك السهولة التي لا تناسب مع ما عرف عنه من صلابة أبي ذر وشدة تمسكه برأيه. وقد روي كثير من المؤرخين قصة (أبي ذر) بشكل آخر قالوا إنه كان يتلو قوله تعالى: (والذين يكنزوُنَ الذَّهبَ والفضَّةَ وَلا يُنفقونها فِي سبيل اللهِ فبشرهُمْ بِعذَاب أليم) وتعليقاته المعروفة الواردة في حديث (يزيد الفقعسي) أيام كان في المدينة، وقبل ذهابه إلى الشام كان يقول ذلك لما شاهد من الثراء الذي انهال على بني أمية وآل مروان، فضاق أغنياء المدينة به ذرعاً فنفي إلى الشام لعلمهم بأن (معاوية) رجل ذكيّ حليم يكفيهم هذا الرجل ويلهيه.
فلما يئس منه ووجد أنه أصبح خطراً على أهل الشام أعاده إلى المدينة، ثم استقر بالربذة إلى أن وافاه الأجل في سنة اثنتين وثلاثين للهجرة.
والمعروف عنه أنه كان زاهداً وكان ينفق ما يصيبه من مال ويدعو إلى ذلك منذ أيام الرسول.
فقصة (عبد الله بن سبأ) مع (أبي ذر) قصة موضوعة أعتقد أن واضعها هو (يزيد) أو (سيف) ولم يؤيدها رواة آخرون مثل (زيد بن وهب) وغيرهم ممن ذكروا سبب نفي أبي ذر. ولم يتحدث (يزيد الفقعسي) صاحب أحاديث عبد الله ابن سبأ عن نشاط هذا الذمي في الشام وعن مدة إقامته في هذا البلد.
والذي يفهم من أقواله أنه لم يتمكن من عمل أي شيء في (دمشق) وأن (معاوية) لم يقبض عليه، وأنه غادر أرض (بني أمية) إلى أرض أخرى هي (مصر) ليزرع في ذلك البلد بذور الفتنة التي زرعها في العراق وفي (مصر) على ما يظهر من روايات الطبري لقى (ابن سبأ) نجاحاً كبيراً، وترأس في هذا القطر الفتنة التي أدَّت إلى استشهاد الخليفة.
ويظهر من أقوال (يزيد الفقعسي) أنه جاء وهو في مصر بمقالة جديدة تضمنت عدة آراء فيها (الرجعة) و (الوصية) و (الإمامة) ثم اختم كل هذه المسائل الهامة (بالطعن على الأمراء) وبالمكاتبة مع الأمصار الأخرى في عيوب الولاة.
وقد تمكن بأساليبه المعروفة من إهاجة الرأى العام ومن تسهيم الأقطار فكان أن غادر وفد مصر يريد الحجاز، وكان أن غادر وفد البصرة متظاهراً أنه يريد الحج، وكان أن تألبت كل هذه الوفود على الخليفة ولم ترحل عن مدينة الرسول حتى قتل.
وكان من أهم أبطال الفتنة بمصر (عبد الله بن السوداء وخالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر). وأما الذي يظهر من أقوال الرواة الآخرين فهو أن هذه المقالات المنسوبة إلى (ابن سبأ) إنما كان قد وضعها في العراق وأنه وضعها في مكان مناسب جداً لمثل هذه الآراء وهو (الكوفة) التي عرفت بميلها إلى علي وأولاده، وبانقلانها على عليّ وأولاده في الوقت نفسه. والواقع أن محيط الكوفة هو صورة صادقة للمحيط الوسط الذي كان بين الحضارة وبين البداوة.
وبين الإطاعة للأمراء وبين الميل إلى الفوضى ومعصية الأمراء والطعن على أصحاب الحل والعقد.
ولا غرابة في ذلك فقد كانت هذه البلدة على سيف الصحراء، وقد كانت معصرة عصرت فيها أجناس وأنواع من البشر، فلا عجب إن رأينا فيها ذلك الخليط العجيب وذلك الانقلاب السريع. ولم يذكر أحد من الرواة غير (يزيد الفقعسي) هذه المقالة على أنها كانت من صنع (ابن سبأ) في مصر.
وحديث (عبد الله بن سبأ) في مصر هو من روايات هذا الرواية ليس غير.
أما أصحاب الأخبار الذين تحدثوا عن (عبد الله بن سبأ) مثل (الشعبي) وأمثاله فقد وضعوه في العراق وجعلوا مكانه الكوفة ومنفاه (ساباط المدائن) ولم يبعدوه إلى أكثر من ذلك كالذي فعله (يزيد). (للكلام صلة) جواد علي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣