أرشيف المقالات

القصص

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 أسطورة من روائع الأدب الروسي: بشر وشياطين (قصة الخمر والدنان وغلبة الشيطان على الإنسان) للكاتب الفيلسوف ليو تولستوي بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي ما كاد الصبح يتنفس، وتخفق جنبات الكون بالحياة.
.
حتى هرع الفلاح الفقير يغذ الخطى إلى حقله.

وقد بكر في غداته يروم الحرث والفلح.

ويحمل معه كسرات يابسة من الخبز ليفطر ثمة بها.
فلما هيأ محراثه وربط إليه حصانه.

علق ثوبه - وقد أودعه كسرات الخبز - إلى شجيرة دانية.

وانطلق يشق أديم الأرض ويقلب الترب.

حتى إذا ما تصرمت ساعات الصبح، وتراءت الضحى وأدركه العناء، وتبدى الإعياء والسغب على حصانه.

أطلقه في سبيل الكلأ.

وانثنى هو إلى شجيرة يبتغي الكسرات يسد بها جوعه الذي يبرح به.
فما إن بسط ثوبه حتى تولاه العجب.! إذ ألفى الخبز قد اختفى منه.

فقلب الثوب بين يديه وراح يهزه، ولكن عبثاً!.
فليس للخبز من أثر.
فقال - يحدث نفسه وما زال الشك يتوزعها - (عجباً!!.
.
إن هذا غاية في الغرابة، إني لم ألمح أي إنسان هذه الصبيحة!.
لعل أحدهم كان هنا، وأخذ معه الخبز.!)
. أجل لقد أخذه واحداً من الشياطين الصغار، بينما كان الفلاح مستغرقاً في عمله.

وكان في ذلك الحين قاعداً خلف الشجيرة يترقب ما سوف يتفوه به الفلاح من لعن وسباب.
فاض قلب الفلاح بالأسف وألم به الضيق لضياع الخبز الذي أعده لفطوره، بيد أنه ما لبث أن ارتفع صوته في هدوء: (ليست ثمة حيلة.

وعلى كل حال فلن أقضي من الجوع!.
وإني أحسب أن من استولى على الخبز أشد مني حاجة إليه.

فهنيئاً لمن أخذه!.)
. ومضى إلى جدول.
.
فرشف منه بعضاً من الماء ينقع به غلته.
.
ومال يستريح من عناء العمل ومن قرصة الجوع.

وبعد حين أسرج جواده وقيده إلى المحراث وعاد يقلب به صفحة الترب من جديد.
فطأطأ الشيطان الصغير برأسه.

وقد ركبه الخجل والألم لإخفاقه في حمل الفلاح على أن يزل لسانه ويشرع في سبيل الخطيئة.

وانثنى إلى أستاذه الأكبر (إبليس) يروي له ما حدث! وكيف أنه أخفى عن الفلاح الفقير البائس كسرات الخبز فلم يحمله هذا على أن يتلفظ بكلمات السوء.

بل قال وهو قرير النفس (هنيئاً لمن أخذها.!). فصاح فيه (إبليس).

وقد تملكه الغضب وزاد تلهب عينيه وكأنهما جمرتان وسرى الحنق والسخط إلى نفسه: (إنه خطؤك أنت.

فلست تفقه ما ينبغي عليك أن تعمله.

فبهذه الطريقة سوف يعيش الفلاحون وأزواجهم وذريتهم سعداء في راحة وهناء.

يجب عليك أن تبث الضغينة وتنفث فيهم البغضاء وتفسد قلوبهم وتثير الحقد في نفوسهم.

فهذه رسالتنا منذ أن خلق البشر.

انطلق ثانية.

وإني لأمهلك ثلاث سنوات لتصلح ما أتيته من خطأ.

فإذا عدت بعدها ولم تفلح في أن تدع الشر ينساب في قلب ذلك الفلاح، فسوف أغرقك في الماء المقدس)
. فارتعدت فرائص الشيطان الصغير من الفرق والهلع، وهو يرى أستاذه الأكبر يتوعده بالثبور والعذاب الأليم.

فغاص في باطن الأرض، وهو يجهد ذهنه ويعصره بحثاً عن حيلة توغر قلب الفلاح، وتدفع عنه غضب إبليس.

وما أرهبه من غضب!.
فراح يفكر ويطيل التفكير حتى عثر على خطة بارعة. فانقلب في شكل واحد من بني آدم.

وتمثل بشراً سوياً.

وذهب إلى الفلاح حيث سأله عملاً بأجر رخيص.

فلم يجد هذا بأساً في أن يلحقه بخدمته ليكون له عوناً في زراعته.! وفي السنة الأولى أشار على الفلاح بأن يزرع قمحاً في أرض غدقة جرداء ذات جدب ومحل.

فعمل الفلاح بمشورته، وبذر قمحه في تلك الأرض السبخة.

فلما انقضى الحول - وكان ذا صيف صيهد شديد الحر - لفحت الشمس غلال الفلاحين الآخرين فأحرقتها.

دون قمح ذلك الفلاح فقد نما كثيفاً، وغلظت سنابله ودحس حبه.

ففاض عن حاجته بعد أن أترعت خزائنه وامتلأت.

فألقاها جانباً.
فلما حان موعد الزرع من جديد أخذ الشيطان يزين له أن يبذر القمح هذه المرة في سفح الجبل.

فرضخ الفلاح لمشيئته.

بيد أن الصيف في هذه السنة كان طلقاً ذا ريح سجسج.

فتلفت غلال الآخرين وعفنت ولم تجدل لها سنابل.

أما الفلاح فقد تأتى له حصادٌ طيب أبلغ في الوفرة من سابقه.

فحار الفلاح فيما يفعله بكل تلك الزيادة.
وحينئذ أوحى إليه الشيطان كيف يستخلص الخمر من الحنطة فينقعها حيناً ثم يقطرها حتى يبلغ منها الراح فيعتقه ثم يشربه.
فراح الفلاح يقطر الخمر.

ويودعها في دنان.

ثم يدعو رفاقه لينهلوا منها معه حتى ينهلهم الثمل والسكر.! عاد الشيطان الصغير إلى أستاذه (إبليس) يحدثه بما فعل في زهو وخيلاء.

فأخبره أستاذه الأكبر بأنه سوف يرافقه، فيرى بعينه ما وفق إليه تلميذه ورسوله.
فلما بلغ دار الفلاح ألفى هذا قد جمع حشداً من صحابه وجيرته يدعوهم إلى الشراب وكانت زوجته تدور عليهم بالقداح، فينهلون منها ويعلون، وبينما هي تمد يدها ببعض الشراب إلى واحد منهم.

تعثرت قدمها فهوت على الأرض وتحطمت إحدى الدنان.
فاحتدم غيظ الفلاح، واستشاط غضباً على زوجته.

وانطلق يعنفها ويلعنها: (ما هذا أيتها الكسيحة الحمقاء؟! هل عميت حتى تهرقي هذه الخمر النفيسة على الأرض؟! اغربي عن وجهي.
لعنة الله عليك!.)
. فلكز الشيطان الصغير أستاذه (إبليس) في جنبه بمرفقه وهو يقول في صوت رن فيه جرس الانتصار والزهو: (انظر.

هذا هو الرجل الذي لم أتمكن من إثارة غضبه حينما كان الجوع يصرخ في أمعائه.

وقد ضاعت منه كسرات الخبز!.)
وقام الفلاح يناول الخمر أضيافه.

وما زال لسانه يجري باللعن والسب على زوجته.

وحينئذ دلف إلى الدار أحد الفلاحين، وهو عائد لتوه من حقله.
فرأى القوم ينهلون الخمر.

فحدثته نفسه بأنه واجد عندهم بعض الشراب يبعث الراحة في نفسه، وقد أنهكه التعب وأضناه العمل.

فجلس إلى أحد المقاعد وراح يتلمظ القطرة من الشراب.
ولكن صاحبنا الفلاح - بدلاً من ان يجود عليه ببعض الخمر - قال له في صوت أجش شاعت فيه الغلظة: (ليس عندي شراب لكل عابر سبيل!.
.
فتفضل بمغادرتنا)
. فترسمت على شفتي (إبليس) ابتسامة.

بيد أن الشيطان الصغير ما لبث أن همس في مسمعه: (انتظر بعض الوقت! وانظر ما سوف يفعلون!.). نهل الرفقاء الأغنياء مع صاحبهم الفلاح، وجرعوا من الصهباء ما طاب لهم، ولذ لمذاقهم.

وبدأت تسري بينهم أحاديث النفاق والخداع، وتجري على ألسنتهم ألفاظ السوء والنميمة.

وتطير بين شفاههم كلمات الملق والمداهنة والرياء. فأصغى (إبليس) لما يقولون.

وسره ما رآه من نبوغ تلميذه الشيطان.

وقال (إذا كان هذا الشراب يحملهم على أن يتبادلوا أحاديث المكر والخداع كما هي خلال الثعالب فإن ذلك يجعلهم عجينه طيعة في أيدينا نحن الشياطين!.). فأجابه الشيطان الصغير: (دعهم يتناولون زقاً آخر من هذه الخمر.

ثم ارقب ما يكون من أمرهم.

إنهم الآن يبصبصون بأذنابهم كالثعالب، ويتماكرون في دهائها ولكن بعد حين سوف ينقلبون إلى ذئاب وحشية!.)
وزع الفلاح على الأضياف كؤوساً أخرى من الخمر فراحوا يعبون منها في نهم.
.
وبدأت أحاديثهم ترتفع وتخشن.
وتنساب في رنتها غلظة ووحشية.

فبعد أحاديث الملق والرياء، راحوا يتقاذفون بألفاظ السباب والشتائم، ويزمجرون في أصوات مخيفة ويلطم كل منهم الآخر على أنفه ويصفعه على وجهه واشتبك معهم كذلك الفلاح صاحب الدار.
فمد الشيطان الأكبر طرفه إلى ذلك، وقد بلغ منه السرور والبهجة مبلغاً عظيماً.

وراح يردد (هذا عظيم.

هذا عظيم!)
ولكن العفريت ما لبث أن قال له (انتظر قليلاً فثمة ما هو أعظم من هذا.

ترقبهم حتى يُفرغوا في أجوافهم دناً ثالثة.

فينقلبوا من ذئاب وحشية تتلاطم وتتصافع، إلى خنازير لا تدرك ولا تعي.
)
تناول الفلاحون دناً ثالثة.

فارتفع لجاجهم وعطعطتهم وهم يلغطون كالبهائم التي لا تملك إحساساً ولا شعوراً.
فأخذوا يصيحون دون أن يعرفوا سبباً لصياحهم ولا يصغي أحدهم للآخر! وبدأ الحفل يشرف على منتهاه.

وانطلق السكارى فرادى ومثنى وثلاث.

تعلو صيحاتهم الحيوانية وصراخهم الوحشي في هدأة الدجى فيمزق سكونه في رهبة تبعث الرعب!. وهم الفلاح يودع أصدقاءه.

ولكنه سقط في بركة من الماء الضحل.
.
فتلطخ جسده وثوبه بالوحل من هامته إلى أخمص قدمه.
.
فنفلت يلعن ويسب، وهو قابع في مكانه كالخنزير.
. قهقه (إبليس) عالياً.
.
وعاد يُطري نبوغ تلميذه ثم قال له: (لقد أمكنك أن تصلح خطأك حين أخفيت الخبز عن الفلاح.
.
وفزت بالنجاح فيما اختبرتك فيه.
. ولكن خبرني كيف يُركب هذا الشراب الساحر.
.
لابد أنك وضعت فيه خلاصة من دماء الثعالب.
.
وأضفت إليه دماء الذئاب ثم مزجتها بدم الخنازير.
.
ذلك ما جعلهم يتماكرون ويتملق بعضهم بعضاً في أول الأمر كالثعالب!.
ثم يتضاربون كالذئاب.
.
ثم يصيحون كالخنازير التي فقدت إحساسها ومشاعرها)
فأجابه الشيطان الصغير: (لا يا سيدي الفاضل!.
ليست هذه الطريقة التي اتبعتها في عمل هذا الشراب.

كل ما فعلته هو أني لحظت أن الفلاح توفر لديه القمح وزاد عن حاجته!. إن دماء الحيوانات والوحوش كامنة في عروق الإنسان منذ أن فُطر.
.
فطالما عنده ما كاد يكفي حاجته من الطعام والخبز.
.
ظلت هذه الدماء ساكنة حبيسة.
.
ولذا لم يغضب الفلاح حينما سرقت منه كسرة الخبز.! وحينما توفر لديه القمح وراح يسعى إلى وجوه جديدة يتنعم فيها بهذا الوفر فدللته على متعة عظيمة.
.
هي الخمر فلما أخذ يقلب فضل الله وخيره عليه.

إلى هذه الخمر ليتخذها متعة لنفسه، انطلقت دماء الثعالب ودماء الذئاب ودماء الخنازير من سكونها وراحت تعبث بنفسه وتعبث بعقله.
.
ولو أن الإنسان داوم على الشراب! لظل حيواناً وحشياً طيلة حياته.

إن الرغد من أسباب الرذيلة!.)
. فامتدح إبليس تلميذه الشيطان الصغير وأثنى على براعته وعفا عما بدر منه سابقاً من ذنوب.

ورقاه إلى رتبة أعلى في دنيا الشياطين! (القاهرة) مصطفى جميل مرسي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣