Warning: Undefined array key "sirA3lam" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
قدم قتيبة خراسان أميرا عليها للحجاج، فقدمها والمفضل يعرض الجند للغزاة، فخطب قتيبة الناس وحثهم على الجهاد، ثم عرضهم وسار، وجعل بمرو على حربها إياس بن عبد الله بن عمرو، وعلى الخراج عثمان السعيدي.
فلما كان بالطالقان أتاه دهاقين بلخ وساروا معه، فقطع النهر، فتلقاه ملك الصغانيان بهدايا ومفاتيح من ذهب، ودعاه إلى بلاده فمضى معه، فسلمها إليه لأن ملك آخرون وشومان كان يسيء جواره.
ثم سار قتيبة منها إلى آخرون وشومان، وهما من طخارستان، فصالحه ملكهما على فدية أداها إليه فقبلها قتيبة ثم انصرف إلى مرو واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم، ففتح صالح بعد رجوع قتيبة كاشان وأورشت، وهي من فرغانة، وفتح أخشيكت، وهي مدينة فرغانة القديمة، وكان معه نصر بن سيار فأبلى يومئذ بلاء حسنا.
غزا مسلمة بن عبد الملك الروم فقتل منهم عددا كبيرا بسوسنة من ناحية المصيصة وفتح حصونا.
وقيل: إن الذي غزا في هذه السنة هشام بن عبد الملك ففتح حصن بولق، وحصن الأخرم، وحصن بولس وقمقم، وقتل من المتعربة نحوا من ألف مقاتل وسبى ذريتهم ونساءهم.
هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبو الوليد الأموي أمير المؤمنين، ولد سنة ست وعشرين بالمدينة, شهد الدار –يعني يوم مقتل عثمان-مع أبيه، وله عشر سنين، وهو أول من سار بالناس في بلاد الروم سنة ثنتين وأربعين، وكان أميرا على أهل المدينة وله ست عشرة سنة، ولاه إياها معاوية، وكان يجالس الفقهاء والعلماء والعباد والصلحاء, بويع بالخلافة في سنة خمس وستين في حياة أبيه، في خلافة ابن الزبير، وبقي على الشام ومصر مدة سبع سنين، وابن الزبير على باقي البلاد ثم استقل بالخلافة على سائر البلاد والأقاليم بعد مقتل ابن الزبير، وقد كان عبد الملك قبل الخلافة من العباد الزهاد الفقهاء الملازمين للمسجد، التالين للقرآن، وكان ربعة من الرجال أقرب إلى القصر.
قال عنه نافع: رأيت المدينة وما فيها شاب أشد تشميرا، ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان.
قال عبد الملك: كنت أجالس بريرة قبل أن ألي هذا الأمر، فكانت تقول: يا عبد الملك، إن فيك خصالا، وإنك لجدير أن تلي أمر هذه الأمة، فاحذر الدماء ; فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرجل ليدفع عن باب الجنة أن ينظر إليها على محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق.
كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان قبل أن يدخل في الإمارة.
لم يزل عبد الملك مقيما بالمدينة حتى كانت وقعة الحرة، واستولى ابن الزبير على بلاد الحجاز، وأجلى بني أمية منها، فقدم مع أبيه الشام، ثم لما صارت الإمارة مع أبيه وبايعه أهل الشام أقام في الإمارة تسعة أشهر، ثم عهد إليه بالإمارة من بعده.
بويع عبد الملك بالخلافة في مستهل رمضان سنة خمس وستين، واجتمع الناس عليه بعد مقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين.
كان عبد الملك له إقدام على سفك الدماء، وكان عماله على مذهبه; منهم الحجاج، والمهلب، وغيرهم، وكان حازما فهما فطنا، سائسا لأمور الدنيا، لا يكل أمر دنياه إلى غيره، وكان عبد الملك يقول: أخاف الموت في شهر رمضان، فيه ولدت وفيه فطمت وفيه جمعت القرآن، وفيه بايع لي الناس، فمات في النصف من شوال حين أمن الموت في نفسه.
وكان عمره ستين سنة، وقيل: ثلاثا وستين سنة.
وكانت خلافته من لدن قتل ابن الزبير ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر إلا سبع ليال، وقيل: وثلاثة أشهر وخمسة عشر يوما.
ودفن خارج باب الجابية.
صلى عليه ابنه الوليد وولي عهده من بعده.
لما دفن عبد الملك بن مروان انصرف الوليد عن قبره فدخل المسجد وصعد المنبر واجتمع إليه الناس فخطبهم وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا لموت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة، قوموا فبايعوا، فكان أول من عزى نفسه وهنأها؛ وكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السلولي.
لما وصل الرشيد إلى مكة، ومعه أولاده والفقهاء والقضاة والقواد، فكتب كتابا أشهد فيه على محمد الأمين، وأشهد فيه من حضر بالوفاء للمأمون، وكتب كتابا للمأمون أشهدهم عليه فيه بالوفاء للأمين، وعلق الكتابين في الكعبة، وجدد العهود عليهما في الكعبة.
ولما فعل الرشيد ذلك قال الناس: قد ألقى بينهم شرا وحربا.
وخافوا عاقبة ذلك، فكان ما خافوه.
اضطرت دولة الروم أمام ضربات الرشيد المتلاحقة إلى طلب الهدنة والمصالحة، فعقدت "إيريني" ملكة الروم صلحا مع الرشيد، مقابل دفع الجزية السنوية له في سنة 181هـ، وظلت المعاهدة سارية حتى نقضها إمبراطور الروم، الذي خلف إيريني، وكتب إلى هارون: "من نقفور ملك الروم إلى ملك العرب، أما بعد؛ فإن الملكة إيريني التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، فحملت إليك من أموالها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك، وإلا فالحرب بيننا وبينك".
فلما قرأ الرشيد الرسالة ثارت ثائرته، وغضب غضبا شديدا، وكتب على ظهر رسالة الامبراطور: "من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام".
فشخص من يومه، وسار حتى أناخ بباب هرقلة، ففتح وغنم، واصطفى وأفاد، وخرب وحرق واصطلم، فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤديه في كل سنة، فأجابه إلى ذلك.
قامت الحرب بين إسماعيل بن أحمد الساماني وعمرو بن الليث بن يعقوب الصفار؛ وذلك أن عمرو بن الليث لما قتل رافع بن هرثمة وبعث برأسه إلى الخليفة، سأل منه أن يعطيه ما وراء النهر مضافا إلى ما بيده من ولاية خراسان، فأجابه إلى ذلك فانزعج لذلك إسماعيل بن أحمد الساماني نائب ما وراء النهر، وكتب إليه: إنك قد وليت دنيا عريضة فاقتنع بها عما في يدي من هذه البلاد، فلم يقبل، فأقبل إليه إسماعيل في جيوش عظيمة جدا، فالتقيا عند بلخ فهزم أصحاب عمرو، وأسر عمرو، فلما جيء به إلى إسماعيل بن أحمد قام إليه وقبل بين عينيه وغسل وجهه وخلع عليه وأمنه وكتب إلى الخليفة في أمره، ويذكر أن أهل تلك البلاد قد ملوا وضجروا من ولايته عليهم، فجاء كتاب الخليفة بأن يتسلم حواصله وأمواله فسلبه إياها، فآل به الحال بعد أن كان مطبخه يحمل على ستمائة جمل إلى القيد والسجن، ومن العجائب أن عمرا كان معه خمسون ألف مقاتل لم يصب أحد منهم ولا أسر سواه وحده، وهذا جزاء من غلب عليه الطمع، وقاده الحرص حتى أوقعه في ذل الفقر، وهذه سنة الله في كل طامع فيما ليس له، وفي كل طالب للزيادة في الدنيا.
ظهر أمر رجل من القرامطة يعرف بأبي سعيد الجنابي بالبحرين، كان أول أمره يبيع للناس الطعام ويحسب لهم بيعهم، ثم أصبح أبو سعيد من أبرز أتباع يحيى بن المهدي رسول المهدي المنتظر- على زعمهم- فاجتمع إليه جماعة من الأعراب والقرامطة، وقوي أمره، فقتل من حوله من أهل القرى، ثم سار إلى القطيف فقتل ممن بها وأظهر أنه يريد البصرة، فكتب أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي- وكان متولي البصرة- إلى المعتضد بذلك، فأمره بعمل سور على البصرة.
أظهر عمر بن حفصون النصرانية، وكان قد خرج في الأندلس على أميرها وحصلت بينهم عدة وقائع، وكان قبل ذلك يسرها، وانعقد مع أهل الشرك وباطنهم، ونفر عن أهل الإسلام ونابذهم، فتبرأ منه خلق كثير، ونابذه عوسجة بن الخليع، وبنى حصن قنبط، وصار فيه مواليا للأمير عبد الله، محاربا لابن حفصون, فرأى جميع المسلمين أن حربه جهاد، فتتابعت عليه الغزوات بالصوائف والشواتي من ذلك الوقت.
قام زيري بن عطية بالخروج على المنصور بن أبي عامر الأندلسي، فجهز المنصور ابن أبي عامر جيشا كبيرا بقيادة غلامه واضح، وضم له قبائل صنهاجة المعادية لزيري، فاقتتل في واد بقرب طنجة وانتهى القتال باحتلال مدينة فاس وهزيمة زيري الذي هرب ولجأ إلى بلاد صنهاجة بالمغرب الأقصى حتى توفي فيها.
ملك المقلد بن المسيب مدينة الموصل، وكان سبب ذلك أن أخاه أبا الذواد توفي هذه السنة، فطمع المقلد في الإمارة، فلم تساعده عقيل على ذلك، وقلدوا أخاه عليا؛ لأنه أكبر منه، فأسرع المقلد واستمال الديلم الذين كانوا مع أبي جعفر الحجاج بالموصل، فمال إليه بعضهم، وكتب إلى بهاء الدولة أن قد ولاه الموصل، وسأله مساعدته على أبي جعفر؛ لأنه قد منعه عنها، فساروا ونزلوا على الموصل، فخرج إليهم كل من استماله المقلد من الديلم، وضعف الحجاج، وطلب منهم الأمان، فأمنوه، ودخل المقلد البلد، واستقر الأمر بينه وبين أخيه على أن يخطب لهما، ويقدم علي لكبره، ويكون له معه نائب يجبي المال، واشتركا في البلد والولاية، وسار علي إلى البر، وأقام المقلد، وجرى الأمر على ذلك مدة، ثم تشاجرا واختصما.
هو المنصور بن يوسف بلكين أمير إفريقية، كان ملكا شجاعا، عادلا حازما.
توفي خارج صبرة، ودفن بقصره.
ولي بعده ابنه باديس، ويكنى بأبي مناد، فلما استقر في الأمر سار إلى سردانية، وأتاه الناس من كل ناحية للتعزية والتهنئة، وأراد بنو زيري أعمام أبيه أن يخالفوا عليه، فمنعهم أصحاب أبيه وأصحابه, وأتته الخلع والعهد بالولاية من العزيز حاكم مصر العبيدي، فقرئ العهد، وبايع للعزيز هو وجماعة بني عمه والأعيان من القواد.
هو العزيز صاحب مصر أبو منصور نزار بن المعز معد بن إسماعيل العبيدي المهدي المغربي.
ولد سنة 344.
قام بعد أبيه في ربيع الأول، سنة 365.
وكان كريما شجاعا صفوحا، أسمر أصهب الشعر أعين أشهل، بعيد ما بين المنكبين، حسن الأخلاق قريبا من الرعية، مغرما بالصيد، ويكثر من صيد السباع، ولا يؤثر سفك الدماء.
فتحت له حلب وحماة وحمص.
وخطب أبو الذواد محمد بن المسيب بالموصل له، ورقم اسمه على الأعلام والسكة سنة 383، وخطب له أيضا باليمن والشام ومدائن المغرب.
قال الذهبي: "كانت دولة هذا الرافضي أعظم بكثير من دولة أمير المؤمنين الطائع ابن المطيع العباسي".
وقد اشتهر في مصر أن نسب العبيديين إلى آل البيت غير صحيح, قال ابن خلكان: "وأكثر أهل العلم بالنسب لا يصححونه، وصار هذا الأمر كالمستفيض بين الناس".
وفي مبادي ولاية العزيز صعد المنبر يوم الجمعة فوجد ورقة مكتوب فيها: إنا سمعنا نسبا منكرا.
.
.
يتلى على المنبر في الجامع إن كنت فيما تدعي صادقا.
.
.
فاذكر أبا بعد الأب الرابع وإن ترد تحقيق ما قلته.
.
.
فانسب لنا نفسك كالطائع أو لا دع الأنساب مستورة.
.
.
وادخل بنا في النسب الواسع فإن أنساب بني هاشم.
.
.
يقصر عنها طمع الطامع وصعد العزيز يوما آخر المنبر، فرأى ورقة فيها مكتوب: بالظلم والجور قد رضينا.
.
.
وليس بالكفر والحماقه إن كنت أعطيت علم غيب.
.
.
فقل لنا كاتب البطاقه وإنما كتب هذا لأن العبيديين كانوا يدعون علم المغيبات، وأخبارهم في ذلك مشهورة.
توفي العزيز لليلتين بقيتا من رمضان، بمدينة بلبيس، وكان برز إليها لغزو الروم، فلحقه عدة أمراض منها النقرس والحصا والقولنج، فاتصلت به الأمراض إلى أن مات، وكان حكمه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا، ولما مات العزيز ولي بعده ابنه أبو علي المنصور، ولقب الحاكم بأمر الله، بعهد من أبيه، فولي وعمره إحدى عشرة سنة وستة أشهر، وأوصى العزيز إلى أرجوان الخادم، وكان يتولى أمر داره، فجعله مدبر دولة ابنه الحاكم، فقام بأمره، وبايع له، وأخذ له البيعة على الناس.
كان تتش بن ألب أرسلان صاحب دمشق وما جاورها من بلاد الشام، سار من دمشق إلى أخيه السلطان ملكشاه ببغداد، فلما كان بهيت بلغه موته، فأخذ هيت، واستولى عليها، وعاد إلى دمشق يتجهز لطلب السلطنة، فجمع العساكر، وأخرج الأموال وسار نحو حلب، وبها قسيم الدولة أتسز فرأى قسيم الدولة اختلاف أولاد صاحبه ملكشاه، وصغرهم، فعلم أنه لا يطيق دفع تتش، فصالحه، وصار معه، وأرسل إلى باغي سيان، صاحب أنطاكية، وإلى بوزان، صاحب الرها وحران، يشير عليهما بطاعة تاج الدولة تتش حتى يروا ما يكون من أولاد ملكشاه، ففعلوا، وصاروا معه، وخطبوا له في بلادهم، وقصدوا الرحبة، فحصروها، وملكوها في المحرم من هذه السنة، وخطب تتش لنفسه بالسلطنة، ثم ساروا إلى نصيبين، فحصروها، ففتحها عنوة وقهرا، ثم سلمها إلى الأمير محمد بن شرف الدولة العقيلي، وسار يريد الموصل، وأتاه الكافي بن فخر الدولة بن جهير، وكان في جزيرة ابن عمر، فأكرمه، واستوزره، فلما ملك تتش نصيبين أرسل إليه يأمره أن يخطب له بالسلطنة، ويعطيه طريقا إلى بغداد لينحدر، ويطلب الخطبة بالسلطنة، فامتنع إبراهيم من ذلك، فسار تتش إليه، وتقدم إبراهيم أيضا نحوه، فالتقوا بالمضيع، من أعمال الموصل، في ربيع الأول، فحمل العرب على بوزان، فانهزم، وحمل أتسز على العرب فهزمهم، وتمت الهزيمة على إبراهيم والعرب، وأخذ إبراهيم أسيرا وجماعة من أمراء العرب، فقتلوا صبرا، وملك تتش بلادهم الموصل وغيرها، واستناب بها علي بن شرف الدولة مسلم، وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة، وساعده كوهرائين على ذلك، فقيل لرسوله: إنا ننتظر وصول الرسل من العسكر، فعاد إلى تتش بالجواب، فانتهى خبره إلى ابن أخيه ركن الدين بركيارق، وكان قد استولى على كثير من البلاد، منها: الري، وهمذان، وما بينهما، فلما تحقق الحال سار في عساكره ليمنع عمه عن البلاد، فلما تقارب العسكران قال قسيم الدولة أتسز لبوزان: إنما أطعنا هذا الرجل لننظر ما يكون من أولاد صاحبنا، والآن فقد ظهر ابنه، ونريد أن نكون معه.
فاتفقا على ذلك وفارقا تتش، وصارا مع بركيارق، فلما رأى تاج الدولة تتش ذلك علم أنه لا قوة له بهم، فعاد إلى الشام، واستقامت البلاد لبركيارق.
انتظمت جميع بلاد المسلمين في الأندلس تحت ملك يوسف بن تاشفين، وانقرض عهد ملوك الطوائف منها أجمع كأن لم يكن، واستولى على العدوتين، وتسمى بأمير المسلمين، وخاطب المستنصر العباسي الخليفة لعهده ببغداد، وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العرب على يد المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر، فتلطفا في القول وأحسنا في الإبلاغ، وطلبا من الخليفة أن يعقد له على المغرب والأندلس، فعقد له وتضمن ذلك مكتوب الخليفة بذلك منقولا في أيدي الناس، وانقلبا إليه بتقليد الخليفة وعهده على ما إلى نظره من الأقطار والأقاليم.
كان إبراهيم بن قريش بن بدران، أمير بني عقيل، قد استدعاه السلطان ملكشاه سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة ليحاسبه، فلما حضر عنده اعتقله، وأنفذ فخر الدولة بن جهير إلى البلاد، فملك الموصل وغيرها، وبقي إبراهيم مع ملكشاه، وسار معه إلى سمرقند، وعاد إلى بغداد، فلما مات ملكشاه أطلقته تركان خاتون من الاعتقال، فسار إلى الموصل, وكان ملكشاه قد أقطع عمته صفية مدينة بلد، وكانت زوجة شرف الدولة، ولها منه ابنها علي، وكانت قد تزوجت بعد شرف الدولة بأخيه إبراهيم، فلما مات ملكشاه قصدت الموصل، ومعها ابنها علي، فقصدها محمد بن شرف الدولة، وأراد أخذ الموصل، فافترق الناس فرقتين: فرقة معه، وأخرى مع صفية وابنها علي، واقتتلوا بالموصل عند الكناسة، فظفر علي، وانهزم محمد، وملك علي الموصل, فلما وصل إبراهيم إلى جهينة، وبينه وبين الموصل أربعة فراسخ، سمع أن الأمير عليا ابن أخيه شرف الدولة قد ملكها، ومعه أمه صفية، عمة ملكشاه، فأقام مكانه، وراسل صفية خاتون، وترددت الرسل، فسلمت البلد إليه، فأقام به.
فلما ملك تتش نصيبين أرسل إليه يأمره أن يخطب له بالسلطنة، ويعطيه طريقا إلى بغداد لينحدر، ويطلب الخطبة بالسلطنة، فامتنع إبراهيم من ذلك، فسار تتش إليه، وتقدم إبراهيم أيضا نحوه، فالتقوا بالمضيع، من أعمال الموصل، في ربيع الأول، وكان إبراهيم في ثلاثين ألفا، وكان تتش في عشرة آلاف، وكان اتسز على ميمنته، وبوزان على ميسرته، فحمل العرب على بوزان، فانهزم، وحمل اتسز عليهم فهزمهم، وتمت الهزيمة على إبراهيم والعرب، وأخذ إبراهيم أسيرا وجماعة من أمراء العرب، فقتلوا صبرا، ونهبت أموال العرب وما معهم من الإبل والغنم والخيل وغير ذلك، وقتل كثير من نساء العرب أنفسهن خوفا من السبي والفضيحة, وملك تتش بلادهم الموصل وغيرها، واستناب بها علي بن شرف الدولة، وأمه صفية عمة تتش، وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة، وساعده كوهرائين على ذلك، فقيل لرسوله: إنا ننتظر وصول الرسل من العسكر، فعاد إلى تتش بالجواب.
ملك عسكر المستنصر بالله العبيدي، صاحب مصر، مدينة صور، وسبب ذلك ما كان سنة 482هـ أن أمير الجيوش بدرا، وزير المستنصر، سير العساكر إلى مدينة صور، وغيرها، من ساحل الشام، وكان من بها قد امتنع من طاعتهم، فملكها، وقرر أمورها، وجعل فيها الأمراء، وكان قد ولى مدينة صور الأمير الذي يعرف بمنير الدولة الجيوشي، فعصى على المستنصر وأمير الجيوش، وامتنع بصور، فسيرت العساكر من مصر إليه، وكان أهل صور قد أنكروا على منير الدولة عصيانه على سلطانه، فلما وصل العسكر المصري إلى صور وحصروها وقاتلوها ثار أهلها، ونادوا بشعار المستنصر وأمير الجيوش، وسلموا البلد، وهجم العسكر المصري بغير مانع ولا مدافع، ونهب من البلد شيئا كثيرا، وأسر منير الدولة ومن معه من أصحابه، وحملوا إلى مصر، وقطع على أهل البلد ستون ألف دينار، فأجحفت بهم، ولما وصل منير الدولة إلى مصر ومعه الأسرى قتلوا جميعهم ولم يعف عن واحد منهم.
قامت الحملة الصليبية الثالثة من سنة 586 إلى سنة 588، واشترك فيها بوجه الخصوص الإقطاعيون الكبار والفرسان من بلدان أوروبا الغربية، قاد الجيوش الصليبية كل من ملك فرنسا: فيليب أوغست الثاني، ملك إنجلترا: ريتشارد الذي لقب لاحقا بقلب الأسد، وملك الجرمان (ألمانيا): فريدريك الأول بربروسا، وصلت القوات الألمانية قبل غيرها سنة 585, لكن بربروسا غرق في نهر اللامس؛ مما أحدث ربكة في صفوف الصليبيين، فعاد بعضهم وجحد بعضهم الآخر بالمسيحية فاعتنق الوثنية، وأكمل الباقون حتى هلك معظم جيشه.
أما الفرنسيون والإنجليز، فلم ينتهوا من الاستعداد للحملة حتى سنة 586، فعبر ريتشارد وحاشيته مضيق المانش، واجتمعت الفصائل الإنجليزية والفرنسية في مدينة فيزليه، ولكن القوات انفصلت وتوجه الفرنسيون إلى جنوة والإنجليز إلى مرسيليا حيث كان أسطول ريتشارد المكون من 200 سفينة ينتظر بعد التفافه حول إسبانيا، ومن هناك انطلق الجيشان إلى صقلية، حيث وصلوا شتاء، فقرروا قضاء الشتاء هناك، وفي تلك الفترة، كان ريتشارد يعمل لأجل توسيع نفوذه بالسيطرة على صقلية؛ مما أدى إلى تردي العلاقات بين قائدي الجيشين.
بعد حوالي ستة أشهر في صقلية أبحر فيليب الثاني من مسينا, ولحق به حليفه الذي لم يعد رفيق طريقه بعد 10 أيام، فمضى الفرنسيون إلى صور، أما ريتشارد فاحتل في طريقه جزيرة قبرص، الأمر الذي أصبح ذا أهمية كبرى فيما بعد، فإن ممالك الصليبيين لم تكن لتصمد لمئة سنة أخرى إلا بفضل الدعم العسكري من قبرص.
قام الصليبيون بحصار عكا، فكان الفرنسيون وفصائل الأسياد المحليين والألمان والدينماركيون والفلمنكيون الإيطاليون، واستمر حصار هذه القلعة المنيعة أشهرا، ساهم في طول هذا الحصار الخلاف الداخلي في صفوف الصليبيين، ووصل ريتشارد إلى عكا، فبدأ الصليبيون بهجوم عام، كان ريتشارد من اقترحه، وفي اليوم التالي استسلمت المدينة التي أنهكها الحصار المديد، وجرت مذبحة بأمر ريتشارد وتحت قيادته في عكا، قتل فيها رجاله أكثر من ألفي مسلم أخذوهم من صلاح الدين بعد فتح عكا كرهائن.
وتلا ذلك محاولات قادها ريتشارد لاحتلال مدن أخرى، باءت بالفشل وجسدت ريتشارد في صورة بنزعه إلى سفك الدماء.
ملك ابن الرنك، وهو من ملوك الفرنج البرتغال، غرب بلاد الأندلس، مدينة شلب، وهي من كبار مدن المسلمين بالأندلس، واستولى عليها، فوصل الخبر بذلك إلى الأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس، فتجهز في العساكر الكثيرة وسار إلى الأندلس، وعبر المجاز، وسير طائفة كثيرة من عسكره في البحر، ونازلها وحصرها، وقاتل من بها قتالا شديدا، حتى ذلوا وسألوا الأمان، فأمنهم وسلموا البلد وعادوا إلى بلادهم، وسير جيشا من الموحدين ومعهم جمع من العرب إلى بلاد الفرنج، ففتحوا أربع مدن كان الفرنج قد ملكوها قبل ذلك بأربعين سنة، وفتكوا في الفرنج، فخافهم ملك طليطلة من الفرنج، وأرسل يطلب الصلح، فصالحه خمس سنين، وعاد أبو يوسف إلى مراكش، وامتنع من هذه الهدنة طائفة من الفرنج لم يرضوها ولا أمكنهم إظهار الخلاف، فبقوا متوقفين حتى دخلت سنة تسعين وخمسمائة، فتحركوا.
كان سلطان شاه أخو خوارزم شاه قد تعرض إلى بلاد غياث الدين ومعز الدين ملكي الغورية، من خراسان، فتجهز غياث الدين وخرج من فيروزكوه إلى خراسان سنة خمس وثمانين وخمسمائة، فبقي يتردد بين بلاد الطالقان، وبنجدة، ومرو، وغيرها يريد حرب سلطان شاه، فلم يزل كذلك إلى أن دخلت سنة ست وثمانين، فجمع سلطان شاه عساكره وقصد غياث الدين، فتصافا واقتتلا، فانهزم سلطان شاه، وأخذ غياث الدين بعض بلاده وعاد إلى غزنة.
بعد رحيل صلاح الدين عن عكا إلى الخروبة لمرضه، سمع الفرنج أن صلاح الدين قد سار للصيد، ورأوا أن عسكر اليزك- اليزك كلمة فارسية تعني مقدمة الجيش- عندهم قليلا، وأن الوحل الذي في مرج عكا كثير يمنع من سلوكه من أراد أن ينجد اليزك، فاغتنموا ذلك، وخرجوا من خندقهم على اليزك وقت العصر، فقاتلهم المسلمون، وقتل من الفريقين جماعة كثيرة، وعاد الفرنج إلى خندقهم، ولما عاد صلاح الدين إلى المعسكر سمع خبر الوقعة، فندب الناس إلى نصر إخوانهم، فأتاه الخبر أن الفرنج عادوا إلى خندقهم، فأقام، ثم إنه رأى الشتاء قد ذهب، وجاءته العساكر من البلاد القريبة منه دمشق وحمص وحماة وغيرها، فتقدم من الخروبة نحو عكا، فنزل بتل كيسان، وقاتل الفرنج كل يوم ليشغلهم عن قتال من بعكا من المسلمين، فكانوا يقاتلون الطائفتين ولا يسأمون، وكان الفرنج، في مدة مقامهم على عكا، قد عملوا ثلاثة أبراج من الخشب عالية جدا، وعملوا كل برج منها خمس طبقات، كل طبقة مملوءة من المقاتلة، وغشوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنع النار من إحراقها، وأصلحوا الطرق لها، وقدموها نحو مدينة عكا من ثلاث جهات، وزحفوا بها في العشرين من ربيع الأول، فأشرفت على السور، وقاتل من بالأبراج العالية من على السور، فانكشف المسلمون، وشرع الفرنج في طم خندق المدينة، فأشرف البلد على أن يملكه الفرنج عنوة وقهرا، فأرسل أهل عكا إلى صلاح الدين إنسانا سبح في البحر، فأعلمه ما هم فيه من الضيق، وما قد أشرفوا عليه من أخذهم وقتلهم، فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنج وقاتلوهم من جميع جهاتهم قتالا عظيما دائما يشغلهم عن مكاثرة البلد، فافترق الفرنج فرقتين: فرقة تقاتل صلاح الدين، وفرقة تقاتل أهل عكا، إلا أن الأمر قد خف عمن بالبلد، ودام القتال ثمانية أيام متتابعة، آخرها الثامن والعشرون من الشهر، وسئم الفريقان القتال، وملوا منه لملازمته ليلا ونهارا، والمسلمون قد تيقنوا استيلاء الفرنج على البلد؛ لما رأوا من عجز من فيه عن دفع الأبراج، فإنهم لم يتركوا حيلة إلا وعملوها، فلم يفد ذلك ولم يغن عنهم شيئا، وتابعوا رمي النفط الطيار عليها، فلم يؤثر فيها، فأيقنوا بالبوار والهلاك، فأتاهم الله بنصر من عنده وإذن في إحراق الأبراج، فلما احترق البرج الأول انتقل إلى الثاني، وقد هرب من فيه لخوفهم، فأحرقوه، وكذلك الثالث، وأرسل صلاح الدين يطلب العساكر الشرقية، فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، وهو صاحب سنجار وديار الجزيرة، ثم أتاه علاء الدين ولد عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، سيره أبوه مقدما على عسكره وهو صاحب الموصل، ثم وصل زين الدين يوسف صاحب إربل، وكان كل منهم إذا وصل يتقدم إلى الفرنج بعسكره، وينضم إليه غيرهم ويقاتلونهم، ثم ينزلون، ووصل الأسطول من مصر، فلما سمع الفرنج بقربه منهم جهزوا إلى طريقه أسطولا ليلقاه ويقاتله، فركب صلاح الدين في العساكر جميعها، وقاتلهم من جهاتهم ليشتغلوا بقتاله عن قتال الأسطول ليتمكن من دخول عكا، فلم يشتغلوا عن قصده بشيء، فكان القتال بين الفريقين برا وبحرا، وكان يوما مشهودا لم يؤرخ مثله، وأخذ المسلمون من الفرنج مركبا بما فيه من الرجال والسلاح، وأخذ الفرنج من المسلمين مثل ذلك، إلا أن القتل في الفرنج كان أكثر منه في المسلمين، ووصل الأسطول الإسلامي- بحمد الله- سالما.
خرجت الفرنج فارسها وراجلها من وراء خنادقهم في عكا، وتقدموا إلى المسلمين، وهم كثير لا يحصى عددهم، وقصدوا نحو عسكر مصر، ومقدمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وكان المصريون قد ركبوا واصطفوا للقاء الفرنج، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانحاز المصريون عنهم، ودخل الفرنج خيامهم، ونهبوا أموالهم، فعطف المصريون عليهم، فقاتلوهم من وسط خيامهم فأخرجوهم عنها، وتوجهت طائفة من المصريين نحو خنادق الفرنج، فقطعوا المدد عن أصحابهم الذين خرجوا، وكانوا متصلين كالنمل، فلما انقطعت أمدادهم ألقوا بأيديهم، وأخذتهم السيوف من كل ناحية، فلم ينج منهم إلا الشريد، وقتل منهم مقتلة عظيمة، يزيد عدد القتلى على عشرة آلاف قتيل، وكانت عساكر الموصل قريبة من عسكر مصر، وكان مقدمهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل، فحملوا أيضا على الفرنج، وبالغوا في قتالهم، ونالوا منهم نيلا كثيرا، ولما جرى على الفرنج هذه الحادثة خمدت جمرتهم، ولانت عريكتهم، فلما كان بعد يومين أتت الفرنج أمداد في البحر فعادت نفوسهم فقويت واطمأنت، وأخبرهم أن الأمداد واصلة إليهم يتلو بعضها بعضا، فتماسكوا وحفظوا مكانهم، ثم إن الكند هري نصب منجنيقا ودبابات وعرادات، فخرج من بعكا من المسلمين فأخذوها، وقتلوا عندها كثيرا من الفرنج؛ ثم إن الكند هري بعد أخذ مجانيقه أراد أن ينصب منجنيقا، فلم يتمكن من ذلك؛ لأن المسلمين بعكا كانوا يمنعون من عمل ستائر يستتر بها من يرمي من المنجنيق، فعمل تلا من تراب بالبعد من البلد، ونصبوا وراءه منجنيقين، وصار التل سترة لهما، وكانت الميرة قد قلت بعكا، فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمرهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا، فتأخر إنفاذها، فسير إلى نائبه بمدينة بيروت في ذلك، فسير سفينة عظيمة مملوءة من كل ما يريدونه، وأمر من بها فلبسوا ملبس الفرنج وتشبهوا بهم ورفعوا عليها الصلبان، فلما وصلوا إلى عكا لم يشك الفرنج أنها لهم، فلم يتعرضوا لها، فلما حاذت ميناء عكا أدخلها من بها، ففرح بها المسلمون، وانتعشوا وقويت نفوسهم، وتبلغوا بما فيها إلى أن أتتهم الميرة من الإسكندرية، ثم في حادي عشر شوال، خرج النصارى في عدد كالرمل كثرة وكالنار جمرة، فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقال المسلمين إلى قيمون، وهو على ثلاثة فراسخ عن عكا، وكان قد عاد إليه فرق من عساكره لما هلك ملك الألمان، ولقي الفرنج على تعبئة حسنة، فسار الفرنج شرقي نهر هناك حتى وصلوا إلى رأس النهر، فشاهدوا عساكر الإسلام وكثرتها، فارتاعوا لذلك، ولقيهم الجالشية- جالش كلمة فارسية تعني تحدي- وأمطروا عليهم من السهام ما كاد يستر الشمس، فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربي النهر، ولزمهم الجالشية يقاتلونهم، والفرنج قد تجمعوا، ولزم بعضهم بعضا، فلما كان الغد عادوا نحو عكا ليعتصموا بخندقهم، والجالشية في أكتافهم يقاتلونهم تارة بالسيوف وتارة بالرماح وتارة بالسهام، فلما بلغ الفرنج خندقهم، ولم يكن لهم بعدها ظهور منه، عاد المسلمون إلى خيامهم، وقد قتلوا من الفرنج خلقا كثيرا، وفي الثالث والعشرين من شوال كمن جماعة من المسلمين، فخرج لهم الفرنج في نحو أربعمائة فارس واستطرد لهم المسلمون إلى أن وصلوا الكمين، فخرجوا عليهم فلم يفلت من الفرنج أحد, واشتد الغلاء عليهم, ثم زاد الأمر شدة عليهم عند هيجان البحر وانقطاع المراكب في فصل الشتاء, فأرسى الفرنج مراكبهم بصور؛ خوفا عليها على عادتهم في صور في فصل الشتاء, فانفتح الطريق إلى عكا في البحر، فأرسل أهلها إلى صلاح الدين يشكون ما نزل بهم، وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين، فشكى من ضجره بطول المقام والحرب، فأمر صلاح الدين بإنفاذ نائب وعسكر إليها بدلا منهم وأمر أخاه العادل بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبل حيفا وجمع المراكب والشواني- سفن حربية كبيرة- وبعث العساكر إليها شيئا فشيئا، كلما دخلت طائفة خرج بدلها، فدخل عشرون أميرا بدلا من ستين, وعادت مراكب الفرنج بعد انحسار الشتاء فانقطعت الأخبار عن عكا وعنها، وكان من الأمراء الذين دخلوا عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وعز الدين أرسلان مقدم الأسدية، وابن عز الدين جاولي، وغيرهم، وكان دخولهم عكا أول سنة سبع وثمانين.
أمطرت المدينة النبوية في ليلة الرابع من المحرم مطرا عظيما فوكفت سقوف المسجد النبوي والحجرة الشريفة، وخربت عدة دور وتلف نخل كثير من السيول، ثم عقب ذلك جراد عظيم صار له دوي كالرعد، فأتلف التمر وجريد النخل وغيره من المزارع، وكانت الأعين قد أتلفها السيل، وخرب عين الأزرق حتى عادت ملحا أجاجا، فكتب بذلك إلى السلطان قلاوون، وأن الحجرة الشريفة عادتها أن تشمس في زمن الخلفاء إذا ولي الخليفة، فلا تزال حتى يقوم خليفة آخر فيشمسوها، وأن المنبر والروضة يبعث بكسوتها في كل سنة، وإنهما يحتاجان إلى كسوة.
توجه الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطة على عسكر كثير لقتال الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بصهيون، وسبب ذلك أن السلطان لما نازل المرقب وهي بالقرب من صهيون، لم يحضر إليه سنقر الأشقر، وبعث إليه ابنه ناصر الدين صمغار، فأسرها السلطان في نفسه، ولم يمكن صمغار من العود إلى أبيه وحمله معه إلى مصر، واستمر الحال على ذلك حتى هذه السنة، فسار طرنطاي ونازل صهيون حتى بعث الأشقر يطلب الأمان فأمنه، ونزل سنقر إليه ليسلم الحصن، فخرج طرنطاي إلى لقائه ماشيا، فنزل سنقر عندما رآه وتعانقا، وسار سنقر إلى مخيم طرنطاي، وقد خلع طرنطاي قباءه وفرشه على الأرض ليمشي عليه سنقر، فرفع سنقر القباء عن الأرض وقبله ثم لبسه، فأعظم طرنطاي ذلك من فعل سنقر، وشق عليه وخجل، وأخذ يعامل سنقر من الخدمة بأتم ما يكون، وتسلم طرنطاي حصن صهيون، ورتب فيه نائبا وواليا وأقام به رجالا، بعد ما أنفق في تلك المدة أربعمائة ألف درهم في العسكر الذي معه، فعتب عليه السلطان، ثم سار طرنطاي إلى مصر ومعه سنقر الأشقر حتى قرب من القاهرة، فنزل السلطان من قلعة الجبل، وهو وابنه الملك الصالح علي، وابنه الملك الأشرف خليل، وأولاد الملك الظاهر، في جميع العساكر إلى لقاء سنقر الأشقر، وعاد به إلى القلعة، وبعث إليه الخلع والثياب وحوائص الذهب والتحف والخيول، وأنعم عليه بإمرة مائة فارس وقدمه على ألف، فلازم سنقر الخدمة مع الأمراء إلى سابع عشري شهر رجب، وخرج السلطان من قلعة الجبل سائرا إلى الشام، فأقام بتل العجول ظاهر غزة.
في سادس ذي الحجة توجه الأمير علم الدين سنجر المسروري المعروف بالخياط متولي القاهرة، والأمير عز الدين الكوراني، إلى غزو بلاد النوبة، وجرد السلطان قلاوون معهما طائفة من أجناد الولايات بالوجه القبلي والقراغلامية، وكتب إلى الأمير عز الدين أيدمر السيفي السلاح دار متولي قوص أن يسير معهما بعدته ومن عنده من المماليك السلطانية المركزين بالأعمال القوصية، وأجناد مركز قوص، وعربان الإقليم: وهم أولاد أبي بكر وأولاد عمر، وأولاد شيبان وأولاد الكنز وبني هلال، وغيرهم، فسار الخياط في البر الغربي بنصف العسكر، وسار أيدمر بالنصف الثاني من البر الشرقي، وهو الجانب الذي فيه مدينة دنقلة، فلما وصل العسكر أطراف بلاد النوبة أخلى ملك النوبة سمامون البلاد، وكان صاحب مكر ودهاء، وعنده بأس، وأرسل سمامون إلى نائبه بجزائر ميكائيل وعمل الدو واسمه جريس، ويعرف صاحب هذه الولاية عند النوبة بصاحب الجبل، يأمره بإخلاء البلاد التي تحت يده أمام الجيش الزاحف، فكانوا يرحلون والعسكر وراءهم منزلة بمنزلة، حتى وصلوا إلى ملك النوبة بدنقلة، فخرج سمامون وقاتل الأمير عز الدين أيدمر قتالا شديدا، فانهزم ملك النوبة وقتل كثير ممن معه، واستشهد عدة من المسلمين، فتبع العسكر ملك النوبة مسيرة خمسة عشر يوما من رواء دنقلة إلى أن أدركوا جريس وأسروه، وأسروا أيضا ابن خالة الملك، وكان من عظمائهم، فرتب الأمير عز الدين في مملكة النوبة ابن أخت الملك، وجعل جريس نائبا عنه، وجرد معهما عسكرا، وقرر عليهما قطعة يحملانها في كل سنة، ورجع بغنائم كثيرة ما بين رقيق وخيول وجمال وأبقار وأكسية.
هو الشيخ الإمام العالم المقرئ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن بردس بن نصر بن بردس بن رسلان البعلبكي الحنبلي.
ولد ببعلبك سنة720، ودرس على والده، وأبي الفتح اليونيني، وسمع جمعا من مسندي عصره، وحدث عنهم، واشتهر باختصاره لجملة من الكتب ونظمها.
له بغية الأريب في اختصار التهذيب، أكمل مسودته في المحرم سنة 779 وهو اختصار ليس فيه إضافات تذكر، ولم يحذف من رجال التهذيب أحدا، لكنه حذف بعض أنساب المشهورين، وذكر الجرح والتعديل مختصرا، كما حذف الأسانيد.
نظم القائد الوزير تيمور طاش باشا فرق الخيالة العثمانيين المسماة سياهيه أو سياه- على نظام جديد، واختار أن تكون أعلامهم باللون الأحمر الذي لا يزال شعار الدولة التركية حتى الآن، وأقطع كل نفر منهم جزءا من الأرض يزرعه أصحابه الأصليون مسيحيين كانوا أو مسلمين في مقابلة دفع جعل معين لصاحب الإقطاع، وذلك بشرط أن يسكن الجندي في أرضه وقت السلم ويستعد للحرب عند الاقتضاء على نفقته، وأن يقدم أيضا جنديا آخر معه، وكان كل إقطاع لم يتجاوز إيراده السنوي عشرين ألف غرش، يسمى تيمار، وما زاد إيراده على ذلك يسمى زعامت، وكانت هذه الإقطاعات لا يرثها إلا الذكور من الأعقاب، وإذا انقرضت الذرية من الذكور ترجع إلى الحكومة، وهي تقطعها إلى جندي آخر بنفس هذه الشروط
خلع السلطان أبو العباس أحمد المستنصر بن إبراهيم بن أبي الحسن المريني ملك المغرب صاحب فاس ونفي إلى غرناطة، وبويع بدلا منه أبو فارس موسى بن أبي عنان المتوكل على الله، وكان مقيما بالأندلس، وتولى الوزير مسعود بن ماساي الأمور.
نزل مركبان من مراكب الفرنج على رشيد، فخرج الأمير يونس الدوادار، والأمير ألطنبغا المعلم، فلم يدركوهم.
في يوم الخميس الخامس عشر جمادى الآخرة من هذه السنة أمسك السلطان الأشرف إينال الأمير زين الدين الأستادار، واستقر عوضه في الأستادارية سعد الدين فرج بن النحال الوزير، فلما سمعت المماليك الأجلاب بهذا العزل والولاية نزلوا من وقتهم غارة إلى بيت الأستادار لينهبوه، فمنعهم مماليك زين الدين، وقاتلوهم وأغلقوا الدروب، فلما عجزوا عن نهب بيت زين الدين نهبوا بيوت الناس من عند بيت زين الدين فأخذوا ما لا يدخل تحت حصر كثرة، واستمروا في النهب من نهار الغد إلى قريب العصر، وفعلوا بالمسلمين أفعالا لا تفعلها الكفرة ولا الخوارج، فكانت هذه الحادثة من أقبح الحوادث الشنيعة، ومن ثم دخل في قلوب الناس من المماليك الأجلاب من الرجيف والرعب أمر لا مزيد عليه؛ لعلمهم أنه مهما فعلوا جاز لهم، وأن السلطان لا يقوم بنصر من قهر منهم، وفي يوم الأربعاء الثالث والعشرين رمضان نودي بالقاهرة من قبل السلطان بعدم تعرض المماليك الأجلاب إلى الناس والباعة والتجار، فكانت هذه المناداة كضرب رباب أو كطنين ذباب، واستمروا على ما هم عليه من أخذ أموال الناس والظلم والعنف حتى غلت الأسعار في سائر الأشياء من المأكول والملبوس والغلال والعلوفات، وصاروا يخرجون إلى ظواهر القاهرة، ويأخذون ما يريدون بأبخس الأثمان، إن أعطوا ثمنا، وإن شاؤوا أخذوه بلا ثمن، ثم شرعوا في نهب حواصل البطيخ الصيفي وغيره، ثم تزايد أمرهم، فغلت جميع الأسعار مع كثرتها عند أربابها، فضر ذلك بحال الناس قاطبة؛ رئيسها وخسيسها.