Warning: Undefined array key "sirA3lam" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
لما أهين كسيلة البربري من قبل أبي المهاجر قائد عقبة بن نافع أضمر كسيلة الغدر، فلما رأى الروم قلة من مع عقبة أرسلوا إلى كسيلة وأعلموه حاله، وكان في عسكر عقبة مضمرا للغدر، وقد أعلم الروم ذلك وأطمعهم، فلما راسلوه أظهر ما كان يضمره وجمع أهله وبني عمه وقصد عقبة وانفصل عنه ولحق بالروم وهاجم عقبة وجماعته عند تهوذة قرب جبال أوراس بالجزائر، فكسر عقبة والمسلمون أجفان سيوفهم وتقدموا إلى البربر وقاتلوهم، فقتل المسلمون جميعهم لم يفلت منهم أحد، وأسر محمد بن أوس الأنصاري في نفر يسير، فخلصهم صاحب قفصة وبعث بهم إلى القيروان.
فعزم زهير بن قيس البلوي على القتال، فخالفه حنش الصنعاني وعاد إلى مصر، فتبعه أكثر الناس، فاضطر زهير إلى العود معهم، فسار إلى برقة وأقام بها.
وأما كسيلة فاجتمع إليه جميع أهل أفريقيا، وقصد أفريقيا وبها أصحاب الأنفال والذراري من المسلمين، فطلبوا الأمان من كسيلة، فآمنهم ودخل القيروان واستولى على أفريقيا، وأقام بها إلى أن استعادها المسلمون في عهد عبد الملك بن مروان عام 69 هـ.
هو الإمام العارف، سيد الزهاد، أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي البلخي ويقال له العجلي.
أحد مشاهير العباد وأكابر الزهاد.
كانت له همة عالية في ذلك.
أصله من بلخ، ولد سنة 99،كان من الأشراف وكان أبوه كثير المال والخدم, ثم ترك ابن أدهم الدنيا وأقبل على آخرته، سكن الشام وروى الحديث، قال النسائي: "إبراهيم بن أدهم ثقة مأمون أحد الزهاد".
اشتهر بالزهد والورع، فلا يذكر الزهد إلا ويذكر إبراهيم، كان لا يأكل إلا من عمل يديه، وقصصه في الزهد مشهورة جدا.
عن سفيان الثوري قال: لو كان إبراهيم بن أدهم في الصحابة لكان رجلا فاضلا له سرائر وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يديه, وقال عبد الله بن المبارك: كان إبراهيم رجلا فاضلا له سرائر ومعاملات بينه وبين الله عز وجل.
قال ابن أدهم: الزهد ثلاثة، واجب، ومستحب، وزهد سلامة، فأما الواجب فالزهد في الحرام، والزهد عن الشهوات الحلال مستحب، والزهد عن الشبهات سلامة.
وقال: قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تورث الغم والجزع.
خرج عبد السلام بن هاشم اليشكري، وهو من الخوارج الصفرية في الجزيرة، وقوي أمره، وأحرز النصر على عدد من قواد المهدي وجيوشه، ثم سار إليه شبيب بن واج المروذي، فانهزم أولا، ثم طلب الدعم من المهدي فأمده وأعطى كل جندي ألف درهم معونة له، فنفر إليه وقاتله مرة أخرى، فهزمه وفر عبد السلام إلى قنسرين فتبعه إليها وتمكن منه وقتله.
ظهر المقنع بخراسان سنة 161 وقيل سنة 159 وكان رجلا أعور قصيرا، من أهل مرو، ويسمى حكيما، وكان اتخذ وجها من ذهب فجعله على وجهه لئلا يرى، فسمي المقنع، وادعى الألوهية، ولم يظهر ذلك إلى جميع أصحابه، وكان يقول: إن الله خلق آدم، فتحول في صورته، ثم في صورة نوح، وهكذا هلم جرا إلى أن تحول في صورة أبي مسلم الخراساني، ثم تحول إلى هاشم، وهاشم- في دعواه- هو المقنع، ويقول بالتناسخ، وتابعه خلق من ضلال الناس، وكانوا يسجدون له من أي النواحي كانوا، وكانوا يقولون في الحرب: يا هاشم أعنا، واجتمع إليه خلق كثير، وتحصنوا في قلعة بسنام، وسنجردة، وهي من رساتيق كش، وظهرت المبيضة ببخارى والصغد معاونين له، وأعانه كفار الأتراك، وأغاروا على أموال المسلمين.
وكان يعتقد أن أبا مسلم أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ينكر قتل يحيى بن زيد، وادعى أنه يقتل قاتليه.
واجتمعوا بكش، وغلبوا على بعض قصورها، وعلى قلعة نواكث، وحاربهم أبو النعمان، والجنيد، مرة بعد مرة، وقتلوا حسان بن تميم بن نصر بن سيار، ومحمد بن نصر وغيرهما، وأنفذ إليهم جبرائيل بن يحيى وأخاه يزيد، فاشتغلوا بالمبيضة الذين كانوا ببخارى، فقاتلوهم أربعة أشهر في مدينة بومجكث، ونقبها عليهم، فقتل منهم سبعمائة، ولحق منهزموهم بالمقنع، وتبعهم جبرائيل، وحاربهم؛ ثم سير المهدي أبا عون لمحاربة المقنع، فلم يبالغ في قتاله، واستعمل معاذ بن مسلم، ثم إن المقنع بعد أن طال حصاره بالقلعة وشعر بالغلبة احتسى السم وانتحر هو وأهله، وذلك في سنة 163 وكان قد حاصره سعيد الحريثي وبالغ في حصاره.
هو الفقيه الكبير، قاضي العراق، أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة بن أبي رهم - وهو بدري من السابقين المهاجرين- بن عبد العزى القرشي، ثم العامري.
كان أبو بكر من علماء قريش، ولاه المنصور القضاء، وكان خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن صاحب النفس الزكية، وكان على صدقات أسد وطيء، فقدم على محمد بأربعة وعشرين ألف دينار، فلما قتل محمد، أسر ابن أبي سبرة وسجن، ثم استعمل المنصور جعفر بن سليمان على المدينة، وقال له: إن بيننا وبين ابن أبي سبرة رحما، وقد أساء وأحسن، فأطلقه وأحسن جواره.
وكان الإحسان أن عبد الله بن الربيع الحارثي قدم المدينة ومعه العسكر، فعاثوا بالمدينة، وأفسدوا.
فوثب على الحارثي سودان المدينة والرعاع، فقتلوا جنده، وطردوهم، ونهبوا متاع الحارثي، ثم كسر السودان السجن، وأخرجوا ابن أبي سبرة حتى أجلسوه على المنبر، وأرادوا كسر قيده، فقال: ليس على هذا فوت، دعوني حتى أتكلم.
فتكلم في أسفل المنبر، وحذرهم الفتنة، وذكرهم ما كانوا فيه، ووصف عفو المنصور عنهم، وأمرهم بالطاعة.
فأقبل الناس على كلامه، وتجمع القرشيون، فخرجوا إلى عبد الله بن الربيع، فضمنوا له ما ذهب له ولجنده، ثم رجع ابن أبي سبرة إلى الحبس، حتى قدم جعفر بن سليمان، فأطلقه وأكرمه، ثم صار إلى المنصور، فولاه القضاء.
قال ابن عدي: عامة ما يرويه أبو بكر غير محفوظ، وهو في جملة من يضع الحديث.
قال ابن سعد: ولي القضاء لموسى الهادي، وهو ولي عهد، ثم ولي قضاء مكة لزياد بن عبيد الله.
توفي ابن ابي سبرة ببغداد, وقد عاش ستين سنة، فلما مات، استقضي بعده القاضي أبو يوسف.
كانت وقعة للزنوج مع أحمد بن ليثويه، وكان سببها أن مسرورا البلخي وجه أحمد بن ليثويه إلى كور الأهواز، فنزل السوس، وكان يعقوب الصفار قد قلد محمد بن عبيد الله بن هزارمرد الكردي كور الأهواز، فكاتب محمد قائد الزنج يطمعه في الميل إليه، وأوهمه أنه يتولى له كور الأهواز.
وكان محمد يكاتبه قديما، وعزم على مداراة الصفار، وقائد الزنج، حتى يستقيم له الأمر فيها، فكاتبه صاحب الزنج يجيبه إلى ما طلب، على أن يكون علي بن أبان المتولي للبلاد، ومحمد بن عبيد الله يخلفه عليها، فقبل محمد ذلك، فوجه إليه علي بن أبان جيشا كثيرا وأمدهم محمد بن عبيد الله، فساروا نحو السوس، فمنعهم أحمد بن ليثويه ومن معه من جند الخليفة عنها وقاتلهم فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر جماعة.
وسار أحمد حتى نزل جنديسابور، وسار علي بن أبان من الأهواز ممدا محمد بن عبيد الله على أحمد بن ليثويه، فلقيه محمد في جيش كثير من الأكراد والصعاليك، ودخل محمد تستر، فانتهى إلى أحمد بن ليثويه الخبر بتضافرهما على قتاله، فخرج عن جنديسابور إلى السوس.
ودخل أحمد تستر، وأتت الأخبار علي بن أبان بأن أحمد على قصدك، فسار إلى لقائه ومحاربته، فالتقيا واقتتل العسكران، فاستأمن إلى أحمد جماعة من الأعراب الذين مع علي بن أبان، فانهزم باقي أصحاب علي، وثبت معه جماعة يسيرة، واشتد القتال، وترجل علي بن أبان وباشر القتال راجلا، فعرفه بعض أصحاب أحمد فأنذر الناس به، فلما عرفوه انصرف هاربا وألقى نفسه في نهر المسرقان، فأتاه بعض أصحابه بسميرية (سفينة حربية صغيرة) فركب فيها ونجا مجروحا وقتل من أبطال أصحابه جماعة كثيرة.
(تنس) مدينة تقع بالقرب من مليانة بينهما بحر ميلان، أسسها وبناها البحريون من أهل الأندلس، وهي مسورة حصينة، وبعضها على جبل وقد أحاط به السور، وبعضها في سهل الأرض، وهي قديمة، ويشرب أهلها من عين عذبة تعرف بعين عبدالسلام، وبها فواكه وخصب وإقلاع وانحطاط، ولها أقاليم وأعمال ومزارع.
أصبحت تنس جمهورية مستقلة مع قدوم قبيلة السواد العربية.
قدم يعقوب بن الليث في جحافل فدخل واسط قهرا، فخرج الخليفة المعتمد بنفسه من سامرا لقتاله، فتوسط بين بغداد وواسط، فانتدب له أبو أحمد الموفق بالله- أخو الخليفة- في جيش عظيم على ميمنته موسى بن بغا، وعلى ميسرته مسرور البلخي، فتقاتلوا قتالا شديدا، وقد ظهر من أصحاب يعقوب كراهة للقتال معه؛ إذ رأوا الخليفة يقاتله، فحملوا على يعقوب ومن قد ثبت معه للقتال، فانهزم أصحاب يعقوب، وثبت يعقوب في خاصة أصحابه، حتى مضوا وفارقوا موضع الحرب، وتبعهم أصحاب الموفق، فغنموا ما في عسكرهم، وكان فيه من الدواب والبغال أكثر من عشرة آلاف، ومن الأموال ما يكل عن حمله، ومن جرب المسك أمر عظيم، وتخلص محمد بن طاهر من الأسر، وكان مثقلا بالحديد، وخلع عليه الموفق، وولاه الشرطة ببغداد بعد ذلك.
ولى المعتمد على الله ولده جعفرا العهد من بعده، وسماه المفوض إلى الله، وولاه المغرب، وضم إليه موسى بن بغا ولاية إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان وغير ذلك، وجعل الأمر من بعد ولده لأبي أحمد المتوكل، ولقبه الموفق بالله، وولاه المشرق وضم إليه مسرورا البلخي وولاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والري وزنجان والسند، وكتب بذلك مكاتبات وقرئت بالآفاق، وعلق منها نسخة بالكعبة.
كانت وقعة بين هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان وبين الدمستق بناحية ميافارقين، وكان سببها غزو الدمستق بلاد الإسلام، ونهبه ديار ربيعة وديار بكر، فلما رأى الدمستق أنه لا مانع له عن مراده قوي طمعه على أخذ آمد، فسار إليها وبها هزارمرد غلام أبي الهيجاء بن حمدان، فكتب إلى أبي تغلب يستصرخه ويستنجده، ويعلمه الحال، فسير إليه أخاه أبا القاسم هبة الله بن ناصر الدولة، واجتمعا على حرب الدمستق، وسار إليه فلقياه آخر رمضان، وكان الدمستق في كثرة، لكن لقياه في مضيق لا تجول فيه الخيل، والروم على غير أهبة، فانهزموا، وأخذ المسلمون الدمستق أسيرا، ولم يزل محبوسا إلى أن مرض سنة 363، فبالغ أبو تغلب في علاجه، وجمع الأطباء له، فلم ينفعه ذلك، ومات- قبحه الله- فقد بالغ في إيذاء المسلمين قتلا وأسرا ونهبا.
لما سار المعز الفاطمي إلى مصر خلف على إفريقية يوسف بلكين بن زيري، ولما عاد يوسف بلكين من وداع المعز أقام بالمنصورية يعقد الولايات للعمال على البلاد، ثم سار في البلاد، وباشر الأعمال، وطيب قلوب الناس، وكان المعز يريد أن يستخلف يوسف بلكين على الغرب لقوته، وكثرة أتباعه، ولكنه كان يخاف أن يتغلب على البلاد بعد مسيره عنها إلى مصر، فلما استحكمت الوحشة بين يوسف وبين زناتة أمن تغلبه على البلاد، ولكن يوسف اجتمعت له صنهاجة كما اجتمعت لأبيه من قبل، وبدأ يقوى أمره.
بعد أن انتظم الأمر في مصر للفاطميين تهيأ المعز الفاطمي العبيدي للانتقال إليها، فسار بخزائنه وتوابيت آبائه.
وكان دخوله إلى الإسكندرية في شعبان سنة 362 وتلقاه قاضي مصر الذهلي وأعيانها، فأكرمهم وطال حديثه معهم وأظهر لهم أن قصده الحق والجهاد، وأن يختم عمره بالأعمال الصالحة، وزعم أنه يقيم أوامر جده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعظ وذكر حتى بكى بعضهم ثم خلع عليهم.
وقال للقاضي أبي الطاهر الذهلي: من رأيت من الخلفاء؟ فقال: واحدا.
قال: من هو؟ قال مولانا، فأعجبه ذلك.
ثم إنه سار حتى خيم بالجيزة فأخذ عسكره في التعدية إلى الفسطاط، ثم دخل القاهرة وقد بني له بها قصر الإمارة وزينت مصر، فاستوى على سرير ملكه.
أقبل ملك الروم من القسطنطينية في عسكر كثيف إلى الشام، ونزل على مدينة منبج ونهبها وقتل أهلها، وهزم محمود بن صالح بن مرداس، وبني كلاب، وابن حسان الطائي، ومن معهما من جموع العرب، ثم إن ملك الروم ارتحل وعاد إلى بلاده، ولم يمكنه المقام لشدة الجوع.
أبو بكر بن عمر بن تكلاكين اللمتوني، أمير الملثمين، وهو ابن عم يوسف بن تاشفين أمير المرابطين، كان في أرض فرغانة، خلف أخاه يحيى بن عمر في زعامة صنهاجة وتقلد أمور الحرب، اتفق له من الناموس ما لم يتفق لغيره من الملوك، كان يركب معه إذا سار لقتال عدو خمسمائة ألف مقاتل، كان يعتقد طاعته، لما قدم عبدالله بن ياسين للصحراء لصحراء أفريقية لدعوة قبائلها وتعليمهم أمور دينهم وإقامة شرع الله فيهم؛ فلما قدم على لتمونة لمتونة قبيلة يوسف بن تاشفين, فأكرموه، وفيهم أبو بكر بن عمر، فذكر لهم قواعد الإسلام، وفهمهم، فقالوا: أما الصلاة والزكاة فقريب، وأما من قتل يقتل، ومن سرق يقطع، ومن زنى يجلد، فلا نلتزمه، فذهبا في تلك الصحارى المتصلة بإقليم السودان حتى انتهيا إلى جدالة، قبيلة جوهر، فاستجاب بعضهم، فقال ابن ياسين للذين أطاعوه: قد وجب عليكم أن تقاتلوا هؤلاء الجاحدين، وقد تحزبوا لكم، فانصبوا راية وأميرا.
قال جوهر: فأنت أميرنا.
قال: لا، أنا حامل أمانة الشرع؛ بل أنت الأمير.
قال: لو فعلت لتسلطت قبيلتي، وعاثوا.
قال: فهذا أبو بكر بن عمر رأس لمتونة، فسر إليه وعرض واعرض عليه الأمر، فبايعوا أبا بكر، ولقبوه أمير المسلمين، وقام معه طائفة من قومه وطائفة من جدالة، وحرضهم ابن ياسين على الجهاد، وسماهم المرابطين، فثارت عليهم القبائل، فاستمالهم أبو بكر، وكثر جمعه، وبقي أشرار، فتحيلوا عليهم حتى زربوهم في مكان، وحصروهم، فهلكوا جوعا، وضعفوا، فقتلوهم، وقوي أمر أبي بكر بن عمر وظهر، ودانت له الصحراء، ونشأ حول ابن ياسين جماعة فقهاء وصلحاء، وظهر الإسلام هناك، وكان مع هذا يقيم الحدود ويحفظ محارم الإسلام، ويحوط الدين ويسير في الناس سيرة شرعية، مع صحة اعتقاده ودينه، وموالاة الدولة العباسية، في سنة 453هـ قام أبو بكر بن عمر بتولية ابن عمه يوسف بن تاشفين شؤون المرابطين، وتوجه هو إلى الجنوب على رأس جيش مخترقا بلاد سجلماسة ثم قصد بلاد السودان السنغال متوغلا فيها ناشرا للإسلام إلى أن أصابته نشابة في بعض غزواته في حلقه فقتلته وهم في قتال مع السودان السنغال.
كان بمصر غلاء شديد، ومجاعة عظيمة حتى أكل الناس بعضهم بعضا، وفارقوا الديار المصرية، فورد بغداد منهم خلق كثير هربا من الجوع، وورد التجار، ومعهم ثياب صاحب مصر وآلاته، نهبت من الجوع، وكان فيها أشياء كثيرة كانت قد نهبت من دار الخلافة وقت القبض على الطائع لله سنة 381هـ، ومما نهب أيضا في فتنة البساسيري وخرج من خزائنهم ثمانون ألف قطعة بلور كبار، وخمسة وسبعون ألف قطعة من الديباج، وعشرون ألف سيف محلى، وغير ذلك كثير مما يتعجب المرء من سماعه لكثرته وعظمه، وكله كان في قصور المستنصر، وأكل أهل مصر الجيف والميتة والكلاب، فكان يباع الكلب بخمسة دنانير، وماتت الفيلة فأكلت ميتته، وأفنيت الدواب فلم يبق لصاحب مصر سوى ثلاثة أفراس، بعد أن كان له العدد الكثير من الخيل والدواب، ونزل الوزير يوما عن بغلته فغفل الغلام عنها لضعفه من الجوع فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها وأكلوها فأخذوا فصلبوا فما أصبحوا إلا وعظامهم بادية، قد أخذ الناس لحومهم فأكلوها، وظهر على رجل يقتل الصبيان والنساء ويدفن رؤوسهم وأطرافهم، ويبيع لحومهم، فقتل وأكل لحمه، وكانت الأعراب يقدمون بالطعام يبيعونه في ظاهر البلد، لا يتجاسرون يدخلون لئلا يخطف وينهب منهم، وكان لا يجسر أحد أن يدفن ميته نهارا، وإنما يدفنه ليلا خفية، لئلا ينبش فيؤكل، وبيعت ثياب النساء والرجال وغير ذلك بأرخص ثمن، وكذلك الأملاك وغيرها.
ورد رسول صاحب مكة محمد بن أبي هاشم، ومعه ولده، إلى السلطان ألب أرسلان، يخبره بإقامة الخطبة للخليفة القائم بأمر الله وللسلطان بمكة، وإسقاط خطبة الفاطمي صاحب مصر، وترك الأذان بحي على خير العمل، فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار، وخلعا نفيسة، وأجرى له كل سنة عشرة آلاف دينار، وقال: إذا فعل أمير المدينة مهنأ كذلك، أعطيناه عشرين ألف دينار، وكل سنة خمسة آلاف دينار.
فلم يلتفت المستنصر لذلك لشغله بنفسه ورعيته من عظم الغلاء والجوع، علما بأنه في هذه السنة ضاقت النفقة على أمير مكة فأخذ الذهب من أستار الكعبة والميزاب وباب الكعبة، فضرب ذلك دراهم ودنانير، وكذا فعل صاحب المدينة بالقناديل التي في المسجد النبوي.
قام يحيى المأمون بن إسماعيل بن ذي النون أمير طليطلة بالمسير إلى قرطبة للاستيلاء عليها، فاستنجد أميرها عبدالملك بن جهور بالمعتمد بن عباد الذي أرسل إليه جيشا للنجدة فاحتل قرطبة واعتقل عبدالملك بن جهور ووالده وأخاه ونفاهم إلى جزيرة شلطيش، وولى ابنه سراج الدولة حاكما على قرطبة فأنهى بذلك دولة الجهوريين على قرطبة التي دامت قريبا من خمس وثلاثين سنة.
جمع نور الدين محمود العساكر، فسار إليه أخوه قطب الدين من الموصل وغيره، فاجتمعوا على حمص، فدخل نور الدين بالعساكر بلاد الفرنج، فاجتازوا حصن الأكراد، وقصدوا عرقة فنازلوها وحصروها، وقصدوا حلبة وأخذوها، وفتحوا العريمة وصافيثا، وعادوا إلى حمص فصاموا بها رمضان، ثم ساروا إلى بانياس، وقصدوا حصن هونين، وهو للفرنج أيضا، من أمنع حصونهم ومعاقلهم، فانهزم الفرنج عنه وأحرقوه، فوصل نور الدين من الغد فهدم سوره جميعه، وأراد الدخول إلى بيروت، فتجدد في العسكر خلاف أوجب التفرق، فعاد قطب الدين إلى الموصل، وأعطاه نور الدين مدينة الرقة على الفرات، وكانت له، فأخذها في طريقه وعاد إلى الموصل.
أقبلت الفرنج في جحافل كثيرة إلى الديار المصرية، وساعدهم المصريون فتصرفوا في بعض البلاد، فبلغ ذلك أسد الدين شيركوه، فاستأذن الملك نور الدين محمود في العود إليها، وكان كثير الحنق على الوزير شاور السعدي، فتجهز وسار في ربيع الآخر في جيش قوي، وسير معه نور الدين جماعة من الأمراء، فلما اجتمع معه عسكره سار إلى مصر على البر، وترك بلاد الفرنج على يمينه، فوصل الديار المصرية، فقصد أطفيح، وعبر النيل عندها إلى الجانب الغربي، ونزل بالجيزة مقابل مصر، وتصرف في البلاد الغربية، وحكم عليها، وأقام نيفا وخمسين يوما، وكان شاور لما بلغه مجيء أسد الدين إليهم قد أرسل إلى الفرنج يستنجدهم، فأتوه على الصعب والذلول؛ طمعا في ملكها، وخوفا أن يملكها أسد الدين، فلما وصلوا إلى مصر عبروا إلى الجانب الغربي، وكان أسد الدين وعساكره قد ساروا إلى الصعيد، فبلغ مكانا يعرف بالبابين، وسارت العساكر المصرية والفرنج وراءه، فأدركوه بها في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، وكان أرسل إلى المصريين والفرنج جواسيس، فعادوا إليه وأخبروه بكثرة عددهم وعدتهم، وجدهم في طلبه، فعزم على قتالهم، إلا أنه خاف من أصحابه أن تضعف نفوسهم، فكلهم أشاروا عليه بعبور النيل إلى الجانب الشرقي والعود إلى الشام، فأشار أحدهم بالقتال وشجعهم عليه، فقال أسد الدين: هذا الرأي، وبه أعمل، واجتمعت الكلمة على القتال، فأقام بمكانه حتى أدركه المصريون والفرنج وهو على تعبئة، فلما تقاتلت الطائفتان حمل الفرنج على القلب، فقاتلهم من به قتالا يسيرا، وانهزموا بين أيديهم غير متفرقين وتبعهم الفرنج، فحمل حينئذ أسد الدين فيمن معه على من تخلف عن الذين حملوا من المسلمين والفرنج الفارس والراجل، فهزمهم، ووضع السيف فيهم، فأثخن وأكثر القتل والأسر، فلما عاد الفرنج من المنهزمين، رأوا عسكرهم مهزوما، والأرض منهم قفرا، فانهزموا أيضا، فلما انهزم الفرنج والمصريون من أسد الدين بالبابين سار إلى ثغر الإسكندرية وجبى ما في القرى على طريقه من الأموال، ووصل إلى الإسكندرية، فتسلمها بمساعدة من أهلها سلموها إليه، فاستناب بها صلاح الدين بن أخيه، وعاد إلى الصعيد فملكه وجبى أمواله، وأقام به حتى صام رمضان، وأما المصريون والفرنج فإنهم عادوا واجتمعوا على القاهرة، وأصلحوا حال عساكرهم، وجمعوا وساروا إلى الإسكندرية، فحصروا صلاح الدين بها، واشتد الحصار، وقل الطعام على من بها، فصبر أهلها على ذلك، وسار أسد الدين من الصعيد إليهم، وكان شاور قد أفسد من معه من التركمان، فوصل رسل الفرنج والمصريين يطلبون الصلح، وبذلوا له خمسين ألف دينار سوى ما أخذه من البلاد، فأجابوا إلى ذلك وشرط على الفرنج ألا يقيموا بالبلاد ولا يتملكوا منها قرية واحدة، فأجابوا إلى ذلك، واصطلحوا وعاد إلى الشام، وتسلم المصريون الإسكندرية في نصف شوال، ووصل شيركوه إلى دمشق ثامن عشر ذي القعدة، وأما الفرنج فإنهم استقر بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم؛ ليمتنع نور الدين من إنفاذ عسكر إليهم، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار.
وعاد الفرنج إلى بلادهم بالساحل الشامي، وتركوا بمصر جماعة من مشاهير فرسانهم.
سار صاحب اليمن الملك المسعود أقسيس بن الملك الكامل محمد، صاحب مصر، إلى مكة وصاحبها حينئذ حسن بن قتادة بن إدريس، العلوي الحسيني، قد ملكها بعد أبيه، وكان حسن قد أساء إلى الأشراف والمماليك الذين كانوا لأبيه، وقد تفرقوا عنه، ولم يبق عنده غير أخواله من غيره، فوصل صاحب اليمن إلى مكة، ونهبها عسكره إلى العصر، حتى أخذوا الثياب عن الناس، وأفقروهم، وأمر صاحب اليمن أن ينبش قبر قتادة الأمير السابق ويحرق، فنبشوه، فظهر التابوت الذي دفنه ابنه الحسن والناس ينظرون إليه، فلم يروا فيه شيئا، فعلموا حينئذ أن الحسن دفن أباه سرا، وأنه لم يجعل في التابوت شيئا، وذاق الحسن عاقبة قطيعة الرحم، وعجل الله مقابلته، وأزال عنه ما قتل أباه وأخاه وعمه لأجله.
هو الشيخ الإمام العالم القدوة المفتي شيخ الشافعية: فخر الدين، أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الدمشقي، الشافعي.
ولد سنة 550, وسمع من عميه؛ الصائن والحافظ، وتفقه على قطب الدين مسعود النيسابوري، وتزوج بابنته، وجاءه ولد منها، سماه مسعودا.
درس بالجاروخية، ثم بالصلاحية بالقدس، وبالتقوية بدمشق، فكان يقيم بالقدس أشهرا، وبدمشق أشهرا، وكان عنده بالتقوية فضلاء البلد، حتى كانت تسمى نظامية الشام، ثم درس بالعذراوية سنة 593، وكان فخر الدين لا يمل الشخص من النظر إليه، لحسن سمته، ونور وجهه، ولطفه، واقتصاده في ملبسه، وكان لا يفتر من الذكر، استدعاه الملك العادل بعد ما عزل قاضيه ابن الزكي فأجلسه إلى جانبه وقت السماط، وسأل منه أن يلي القضاء بدمشق، فقال حتى أستخير الله تعالى، ثم امتنع من ذلك فشق على السلطان امتناعه، وهم أن يؤذيه فقيل له: احمد الله الذي في بلادك مثل هذا, وكان قد خاف أن يكره، فجهز أهله للسفر، وخرجت المحابر- طلبة العلم الذين يستملون- إلى ناحية حلب، فردها العادل، وعز عليه ما جرى.
قال أبو شامة: كان فخر الدين يتورع من المرور في زقاق الحنابلة لئلا يأثموا بالوقيعة فيه؛ وذلك لأن عوامهم يبغضون بني عساكر؛ لأنهم كانوا أعيان الشافعية الأشعرية" لما توفي الملك العادل وأعاد ابنه المعظم الخمور أنكر عليه الشيخ فخر الدين، فبقي في نفسه منه، فانتزع منه تدريس التقوية، ولم يبق معه سوى الجاروخية ودار الحديث النورية ومشهد ابن عروة، كان زاهدا عابدا ورعا، منقطعا إلى العلم والعبادة، حسن الأخلاق، قليل الرغبة في الدنيا، وقل من تخلف عن جنازته.
قال أبو شامة: "أخبرني من حضره قال: صلى الظهر، وجعل يسأل عن العصر، وتوضأ، ثم تشهد وهو جالس، وقال: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، لقنني الله حجتي، وأقالني عثرتي، ورحم غربتي، ثم قال: وعليكم السلام، فعلمنا أنه حضرت الملائكة، ثم انقلب ميتا، غسله الفخر بن المالكي، وابن أخيه تاج الدين، وكان مرضه بالإسهال، وصلى عليه أخوه زين الأمناء، ومن الذي قدر على الوصول إلى سريره" وقال عمر بن الحاجب: "هو أحد الأئمة المبرزين، بل واحدهم فضلا وقدرا، شيخ الشافعية، كان زاهدا ثقة مجتهدا، غزير الدمعة، حسن الأخلاق، كثير التواضع، قليل التعصب، سلك طريق أهل اليقين، وكان أكثر أوقاته في بيته في الجامع، ينشر العلم، وكان مطرح الكلف، عرضت عليه مناصب فتركها، ولد في رجب وتوفي فيه، وعاش سبعين سنة، وكان الجمع لا ينحصر كثرة في جنازته، حدث بمكة ودمشق والقدس، وصنف عدة مصنفات".
وقال القوصي: "كان كثير البكاء، سريع الدموع، كثير الورع والخشوع، وافر التواضع والخضوع، كثير التهجد، قليل الهجوع، مبرزا في علمي الأصول والفروع، وعليه تفقهت وعرضت عليه (الخلاصة) للغزالي"، ودفن عند شيخه قطب الدين مسعود النيسابوري.
سار شهاب الدين غازي بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب قلعة سرماري، وهي من أعمال أرمينية إلى خلاط، لأنه كان في طاعة صاحب خلاط، فحضر عنده، واستخلف ببلده أميرا من أمرائه، فجمع هذا الأمير جمعا وسار إلى بلاد الكرج، فنهب منها عدة قرى وعاد، فسمعت الكرج بذلك، فجمع صاحب دوين، واسمه شلوة، وهو من أكابر أمراء الكرج، عسكره وسار إلى سرماري فحصرها أياما، ونهب بلدها وسوادها ورجع، فسمع صاحب سرماري شهاب الدين الخبر، فعاد إلى سرماري، فوصل إليها في اليوم الذي رحل الكرج عنها، فأخذ عسكره وتبعهم، فأوقع بساقتهم، فقتل منهم وغنم، واستنقذ بعض ما أخذوا من غنائم بلاده، ثم إن صاحب دوين جمع عسكره وسار إلى سرماري ليحصرها، فوصل الخبر إلى شهاب الدين بذلك، فحصنها، وجمع الذخائر وما يحتاج إليه، فأتاه من أخبره أن الكرج نزلوا بوادي بني دوين وسرماري، وهو وادي ضيق، فسار بجميع عسكره جريدة –الجريدة: خيل لا رجالة فيها- وجد السير ليكبس الكرج، فوصل إلى الوادي الذي هم فيه وقت السحر، ففرق عسكره فرقتين: فرقة من أعلى الوادي، وفرقة من أسفله، وحملوا عليهم وهم غافلون، ووضعوا السيف فيهم، فقتلوا وأسروا، فكان في جملة الأسرى شلوة أمير دوين، في جماعة كثيرة من مقدميهم، ومن سلم من الكرج عاد إلى بلدهم على حال سيئة، ثم إن ملك الكرج أرسل إلى الملك الأشرف موسى بن العادل، صاحب ديار الجزيرة، وهو الذي أعطى خلاط وأعمالها الأمير شهاب الدين، يقول له: كنا نظن أننا صلح، والآن فقد عمل صاحب سرماري هذا العمل، فإن كنا على الصلح فنريد إطلاق أصحابنا من الأسر، وإن كان الصلح قد انفسخ بيننا فتعرفنا حتى ندبر أمرنا، فأرسل الأشرف إلى صاحب سرماري يأمره بإطلاق الأسرى وتجديد الصلح مع الكرج، ففعل ذلك واستقرت قاعدة الصلح، وأطلق الأسرى.
هو الإمام العلامة البارع الفقيه أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي، الجماعيلي، الدمشقي، الصالحي، الحنبلي، صاحب (المغني).
ولد بجماعيل، من عمل نابلس، في شعبان سنة 541.
صاحب كتاب المغني المشهور في المذهب الحنبلي، قدم مع أهله إلى دمشق في سنة إحدى وخمسين، وهو ابن عشر سنوات ومعه ابن خاله الحافظ عبد الغني, وقرأ القرآن وسمع الحديث الكثير، ورحل مرتين إلى العراق إحداهما مع الحافظ عبد الغني، فأدركا نحو أربعين يوما من جنازة الشيخ عبد القادر، فنزلا عنده بالمدرسة، واشتغلا عليه تلك الأيام، وسمعا منه، تفقه ببغداد على مذهب الإمام أحمد، وبرع وأفتى وناظر وتبحر في فنون كثيرة، مع زهد وعبادة، وورع وتواضع وحسن أخلاق، وجود وحياء وحسن سمت وكثرة تلاوة، وصلاة وصيام وقيام، وطريقة حسنة واتباع للسلف الصالح، فكان عالم أهل الشام في زمانه.
قال ابن النجار: "كان إمام الحنابلة بجامع دمشق، وكان ثقة حجة، نبيلا، غزير الفضل، نزها، ورعا، عابدا، على قانون السلف، عليه النور والوقار، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه", وقال عمر بن الحاجب: "هو إمام الأئمة، ومفتي الأمة، خصه الله بالفضل الوافر، والخاطر الماطر، والعلم الكامل، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار، أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية.
.
.
، إلى أن قال: وله المؤلفات الغزيرة، وما أظن الزمان يسمح بمثله، متواضع، حسن الاعتقاد، ذو أناة وحلم ووقار، مجلسه معمور بالفقهاء والمحدثين، وكان كثير العبادة، دائم التهجد، لم نر مثله، ولم ير مثل نفسه".
عمل الشيخ الضياء (سيرته) في جزأين، فقال: "كان تام القامة، أبيض، مشرق الوجه، أدعج، كأن النور يخرج من وجهه لحسنه، واسع الجبين، طويل اللحية، قائم الأنف، مقرون الحاجبين، صغير الرأس، لطيف اليدين والقدمين، نحيف الجسم، ممتعا بحواسه".
وقال الضياء: "سمعت المفتي أبا بكر محمد بن معالي بن غنيمة يقول: ما أعرف أحدا في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق, وسمعت الحافظ أبا عبد الله اليونيني يقول: أما ما علمته من أحوال شيخنا وسيدنا موفق الدين، فإنني إلى الآن ما أعتقد أن شخصا ممن رأيته حصل له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة التي يحصل بها الكمال سواه؛ فإنه كان كاملا في صورته ومعناه من حيث الحسن، والإحسان، والحلم والسؤدد، والعلوم المختلفة، والأخلاق الجميلة، رأيت منه ما يعجز عنه كبار الأولياء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنعم الله على عبد نعمة أفضل من أن يلهمه ذكره)), فقلت بهذا: إن إلهام الذكر أفضل من الكرامات، وأفضل الذكر ما يتعدى إلى العباد، وهو تعليم العلم والسنة، وأعظم من ذلك، وأحسن ما كان جبلة وطبعا، كالحلم، والكرم، والعقل، والحياء، وكان الله قد جبله على خلق شريف، وأفرغ عليه المكارم إفراغا، وأسبغ عليه النعم، ولطف به في كل حال.
قال الضياء: كان الموفق لا يناظر أحدا إلا وهو يتبسم, وقيل: إن الموفق ناظر ابن فضلان الشافعي الذي كان يضرب به المثل في المناظرة، فقطعه.
وبقي الموفق يجلس زمانا بعد الجمعة للمناظرة، ويجتمع إليه الفقهاء، وكان يشغل إلى ارتفاع النهار، ومن بعد الظهر إلى المغرب ولا يضجر، ويسمعون عليه، وكان يقرئ في النحو، وكان لا يكاد يراه أحد إلا أحبه, وما علمت أنه أوجع قلب طالب، وكانت له جارية تؤذيه بخلقها، فما يقول لها شيئا، وأولاده يتضاربون وهو لا يتكلم, وسمعت البهاء يقول: ما رأيت أكثر احتمالا منه.
" كان يؤم الناس للصلاة في محراب الحنابلة هو والشيخ العماد، فلما توفي العماد استقل هو بالوظيفة، وله مصنفات عديدة مشهورة، أشهرها المغني في شرح مختصر الخرقي، والكافي في الفقه الحنبلي، والمقنع للحفظ، والروضة في أصول الفقه، وغير ذلك من التصانيف المفيدة، وكانت وفاته في يوم عيد الفطر، وقد بلغ الثمانين، وكان يوم سبت وحضر جنازته خلق كثير، ودفن بتربته المشهورة، ورئيت له منامات صالحة رحمه الله تعالى.
كان له أولاد ذكور وإناث، ماتوا في حياته, ولم يعقب منهم سوى ابنه عيسى ولد له ولدان ثم ماتا وانقطع نسله.
هو المنتصر بالله- وقيل المستنصر بالله أبو يعقوب يوسف بن محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي.
ولد سنة 594، وأمه أم ولد، اسمها قمر الرومية، وكان يشبه بجده.
تولى الملك بعد وفاة أبيه يقول الذهبي: "فملكوه وله ست عشرة سنة، فضيعوا أمر الأمة، وكان بديع الحسن، بليغ المنطق، غارقا في وادي اللهو والبطالة" فغلب عليه وزراؤه واشتغل المنتصر بما يستهويه, وفي عهده استولى الأسبان في الأندلس على المعاقل التي كانت للموحدين، وكانت في عهده هزائم أخرى أشهرها العقاب في الأندلس، وبدأت دولته في عصره بالهرم، ثم إن المنتصر ظل مقيما في مراكش إلى أن توفي ولم يخلف ولدا، فبويع بعده عم أبيه عبد الواحد بن يوسف الملقب بالمخلوع، لكبر سنه ووفور عقله، فلم يحسن التدبير، ولا دارى أهل دولته فخلعوه وخنقوه بعد تسعة أشهر من ولايته.
وبويع ابن أخيه عبد الله العادل بن يعقوب المنصور.
كان غياث الدين بن خوارزم شاه محمد بالري، وله معها أصفهان وهمذان وما بينهما من البلاد، وله أيضا بلاد كرمان، فلما هلك أبوه، وصل التتر إلى بلاده، وامتنع بأصفهان، وحصره التتر فيها فلم يقدروا عليها، فلما فارق التتر بلاده، وساروا إلى بلاد قفجاق، عاد ملك البلاد وعمر ما أمكنه منها، وأقام بها إلى أواخر سنة 620، فسار إلى بلاد فارس فلم يشعر صاحبها، وهو أتابك سعد بن دكلا، إلا وقد وصل غياث الدين إلى أطراف بلاده، فلم يتمكن من الامتناع، فقصد قلعة إصطخر فاحتمى بها، وسار غياث الدين إلى مدينة شيراز، وهي كرسي مملكة فارس، وأكبرها وأعظمها، فملكها بغير تعب هذه السنة، وبقي غياث الدين بها، واستولى على أكثر البلاد، ولم يبق بيد سعد إلا الحصون المنيعة، فلما طال الأمر على سعد صالح غياث الدين على أن يكون لسعد من البلاد قسم اتفقوا عليه، ولغياث الدين الباقي، وأقام غياث الدين بشيراز، وازداد إقامة وعزما على ذلك لما سمع أن التتر قد عادوا إلى الري والبلاد التي له وخربوها.
أول هذه السنة وصلت سرية للري من التتر من عند ملكهم جنكيزخان، وهؤلاء غير الطائفة الغربية، وكان من سلم من أهلها قد عادوا إليها وعمروها، فلم يشعروا بالتتر إلا وقد وصلوا إليها، فلم يمتنعوا عنهم، فوضعوا في أهلها السيف وقتلوهم كيف شاؤوا، ونهبوا البلد وخربوه، وساروا إلى ساوة ففعلوا بها كذلك، ثم إلى قم وقاشان، وكانتا قد سلمتا من التتر أولا، فإنهم لم يقربوهما، ولا أصاب أهلهما أذى، فأتاهما هؤلاء وملكوهما، وقتلوا أهلهما، وخربوها، وألحقوهما بغيرهما من البلاد الخراب، ثم ساروا في البلاد يخربون ويقتلون وينهبون، ثم قصدوا همذان، وكان قد اجتمع بها كثير ممن سلم من أهلها، فأبادوهم قتلا وأسرا ونهبا، وخربوا البلد، وكانوا لما وصلوا إلى الري رأوا بها عسكرا كثيرا من الخوارزمية، فكبسوهم وقتلوا منهم، وانهزم الباقون إلى أذربيجان، فنزلوا بأطرافها، فلم يشعروا إلا والتتر أيضا قد كبسوهم ووضعوا السيف فيهم، فولوا منهزمين، فوصل طائفة منهم إلى تبريز، وأرسلوا إلى صاحبها أوزبك بن البهلوان يقولون: إن كنت موافقنا فسلم إلينا من عندك من الخوارزمية، وإلا فعرفنا أنك غير موافق لنا، ولا في طاعتنا، فعمد إلى من عنده من الخوارزمية فقتل بعضهم وأسر بعضهم، وحمل الأسرى والرؤوس إلى التتر، وأنفذ معها من الأموال والثياب والدواب شيئا كثيرا، فعادوا عن بلاده نحو خراسان، فعلوا هذا وليسوا في كثرة، كانوا نحو ثلاثة آلاف فارس، وكان الخوارزمية الذين انهزموا منهم نحو ستة آلاف راجل، وعسكر أوزبك أكثر من الجميع، ومع هذا فلم يحدث نفسه ولا الخوارزمية بالامتناع منهم.
سارت الكرج (وهم قوم كفار) في جموعها إلى مدينة كنجة من بلاد أران قصدا لحصرها، وأعتدوا لها بما أمكنهم من القوة؛ لأن أهل كنجة كثير عددهم، قوية شوكتهم، وعندهم شجاعة كثيرة من طول ممارستهم للحرب مع الكرج، فلما وصلوا إليها ونازلوها قاتلوا أهلها عدة أيام من وراء السور، لم يظهر من أهلها أحد، ثم في بعض الأيام خرج أهل كنجة ومن عندهم من العسكر من البلد، وقاتلوا الكرج بظاهر البلد أشد قتال وأعظمه، فلما رأى الكرج ذلك علموا أنهم لا طاقة لهم بالبلد، فرحلوا بعد أن أثخن أهل كنجة فيهم، {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا} [الأحزاب: 25]
ثار على شروان شاه ولده فنزع منه الملك، وأخرجه من البلاد، وملك بعده، وسبب ذلك أن شروان شاه كان سيئ السيرة، كثير الفساد والظلم، يتعرض لأموال الرعايا وأملاكهم، وقيل أيضا: إنه كان يتعرض للنساء والولدان، فاشتدت وطأته على الناس، فاتفق بعض العسكر مع ولده، وأخرجوا أباه من البلاد، وملك الابن وأحسن السيرة، فأحبه العساكر والرعية، وأرسل الولد إلى أبيه يقول له: إني أردت أن أتركك في بعض القلاع وأجري لك الجرايات الكثيرة، ولكل من تحب أن يكون عندك، والذي حملني على ما فعلت معك سوء سيرتك وظلمك لأهل البلاد، وكراهيتهم لك ولدولتك, فلما رأى الأب ذلك سار إلى الكرج، واستصرخ بهم وقرر معهم أن يرسلوا معه عسكرا يعيدونه إلى ملكه، ويعطيهم نصف البلاد، فسيروا معه عسكرا كثيرا، فسار حتى قارب مدينة شروان، فجمع ولده العسكر، فخرج في عسكره، وهم قليل، نحو ألف فارس، ولقوا الكرج وهم في ثلاثة آلاف مقاتل، فالتقوا واقتتلوا، وصبر أهل شروان، فانهزم الكرج، فقتل كثير منهم، وأسر كثير، ومن سلم عاد بأسوأ حال، وشروان شاه المخلوع معهم، فتشاءم الكرج منه فطردوه عن بلادهم، واستقر ابنه في الملك، واغتبط الناس بولايته.
سار جمع من الكرج الكفار من تفليس يقصدون أذربيجان والبلاد التي بيد أوزبك بن البهلوان، فنزلوا وراء مضيق في الجبال لا يسلك إلا للفارس بعد الفارس، فنزلوا آمنين من المسلمين استضعافا لهم، واغترارا بحصانة موضعهم، وأنه لا طريق إليهم، وركب طائفة من العساكر الإسلامية وقصدوا الكرج، فوصلوا إلى ذلك المضيق، فجاوزوه مخاطرين، فلم يشعر الكرج إلا وقد غشيهم المسلمون ووضعوا فيهم السيف فقتلوهم كيف شاؤوا، وولى الباقون منهزمين وأسر منهم جمع كثير، فعظم الأمر عليهم، وعزموا على الأخذ بثأرهم، والجد في قصد أذربيجان واستئصال المسلمين منه، وأخذوا يتجهزون على قدر عزمهم، فبينما هم في ذلك إذ وصل إليهم الخبر بوصول جلال الدين بن خوارزم شاه إلى مراغة، فتركوا ذلك وأرسلوا إلى أوزبك، صاحب أذربيجان، يدعونه إلى الموافقة على رد جلال الدين، وقالوا: إن لم نتفق نحن وأنت وإلا أخذك ثم أخذنا، فعاجلهم جلال الدين قبل اتفاقهم واجتماعهم.
كانت دولة الموحدين قد قويت أولا في إسبانيا، ولكنها لم تستطع أن تقف لوحدها في وجه التوسع الصليبي بصورة دائمة، كما لم يدم صمودهم طويلا إثر ذلك النصر الذي أحرزوه في معركة الأرك سنة 591 فقد جاءت هزيمتهم الماحقة في معركة العقاب سنة 609 على أيدي تحالف ملوك الصليبيين في إيبيريا، والذي نجم عنه انسحاب الموحدين نهائيا من إسبانيا وانكماش آخر سلاطينهم إلى المغرب، وضعف شوكتهم عموما حتى في المغرب.
ونشوء إمارات بني مرين في فاس، والحفصيين في تونس، وبني زيان في تلمسان، وبني هود في مرسية بالأندلس.