محمداً صلى الله عليه وسلم لم يبعث لينسخ باطلاً بباطل ويبدل عدواناً بعدوان ، ويحرم شيئاً في مكان ويحله في مكان آخر ، ويبدل أثرة أمة بأثرة أمة أخرى ، لم يبعث زعيماً وطنياً أو قائداً سياسياً ، يجر النار إلى قرصه ويصغي الإناء إلى شقه ، ويخرج الناس من حكم الفرس والرومان إلى حكم عدنان وقحطان وإنما أرسل إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً

بل إن كثيرا من هؤلاء السلاطين والأمم كانوا كلا على ظهر الأرض وويلا للنوع الإنساني وعذابا للأمم الصغيرة والضعيفة ومنبع الفساد والمرض في جسم المجتمع البشري

عندما سئل الأستاذ أبو الحسن علي الندوي –رحمه الله تعالي – عن مصر : فقال في الحسنات: الإيمان بالله والدين, والمحبة للمسلم خاصة إذا كان غريباً, ورقة القلب, وسلامة الصدر, وكثرة الأعمال المنتجة أما عن السيئات فقال في تحرج: السفور وعدم التستر والصور الخليعة في الصحف والمجلات, واستهانة بعض العلماء ببعض المحرمات, وعدم المحافظة علي صلاةِ الجماعة في المساجد بالرغم من كثرتها, والإندفاع في تقليد الحضارة الغربية بلا تبصر

الزعامة الإسلامية تقتضي صفات واسعة جدا نستطيع أن نجمعها في كلمتين الجهاد والإجتهاد فهما كلمتان خفيفتان بسيطتان ولكنهما جامعتان عامرتان بالمعاني الكثيرة

وكذلك ضاعت رسالة الأنبياء، والأخلاق الفاضلة والمبادئ السامية في العالم المتمدن المعمور بين غنى مطغٍ وفقر مسن، وأصبح الغني في شغل عن الدين والاهتمام بالآخرة والتفكير في الموت وما بعده بنعيمه وترفه، وأصبح الفلاح أو العامل في شغل عن الدين كذلك لهمومه وأحزانه وتكاليف حياته ​​​​​​​

إن النظرية المهيمنة السائدة على هذا العصر هي النظرية الاقتصادية ، وأصبح البطن أو الجيب ميزاناً لكل مسألة فبمقدار اتصالها بالجيب وتأثيرها فيه يقبل الناس عليها ويعنون بها

لم تزل طريق الملوك والفاتحين غير طريق الأنبياء والهداة والمصلحين ، وإن الحقيقة التي ذكرها القرآن على لسان ملكة سبأ حقيقة راهنة لا تختلف في الأزمنة والأمكنة : { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً }


أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس، بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر بل مكثوا زمنًا طويلًا تحت تربية محمد صلى الله عليه وسلم وإشرافه الدقيق يزكيهم ويؤدبهم ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة  والإيثار على النفس وخشية الله وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها   

 الإسلام هو قومية العالم العربي , ومحمد صلى الله عليه وسلم هو روح العالم العربي وإمامة وقائده 

الرسول صلى الله عليه وسلم غذِّي أرواح الصحابة بالقرآن وربي نفوسهم بالإيمان وأخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدن وخشوع قلب وخضوع جسم وحضور عقل ، فازدادو كل يوم سمو روح ونقاء قلب ونظافة خلق وتحرراً من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات ونزوعاً إلى رب الأرض والسموات ، وأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفس

محمدا صلى الله عليه و سلم, لم يبعث لينسخ باطلا بباطل, و يبدل عدوانا بعدوان, و يحرم شيئا في مكان و يحله في مكان آخر, ويبدل أثرة أمة بأثرة أمة أخرى, لم يبعث زعيما وطنيا أو قائدا سياسيا, يجر النار إلى قرصه و يصغي الإناء إلى شقه, و يخرج الناس من حكم الفرس و الرومان إلى حكم عدنان و قحطان

صرف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، شجاعة العرب من المنافسات القبلية والتقاتل وأخذ الثأر والأحقاد القديمة إلى الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله ، وصرف تبذيرهم وسماحتهم إلى الإنفاق في سبيل الله ، وشغلهم عن الجاهلية بالدين الإسلامي

لم يكن نظر الناس إلى الدين على أنه المعين يستمد منه الناس ما يعينهم على العمل الصالح بل كان الدين في نظرهم هو الاعتقاد المجرد في أصول معينة

شرب الخمر ليس إلا نتيجةَ نفسيةٍ تعشق اللذة حتى في السم، وتبتغي النشوة حتى في الإثم، فلا تهجره بمجرد الدعاية والنشر والكتب والخطب وبيان مضارِّه الطبية ومفاسده الخلقية، وبِسَنِّ القوانين الشديدة والعقوبات الصارمة لا تهجره إلا بتغيير نفسٍ عميق، وإذا أُرغمت على تركه بغير هذا التغيير تسللت إلى غيره من أنواع الجريمة أو استباحته بتغيير الأسماء والصور

إن الإسلام عقيدة استعلاء، من أخص خصائصها أنها تبعث في روح المؤمن بها إحساس العزة من غير كبر ، وروح الثقة في غير اعتزاز، وشعور الاطمئنان في غير تواكل وأنها تشعر المسلمين بالتبعة الإنسانية الملقاة على كواهلهم، تبعة الوصاية على هذه البشرية في مشارق الأرض ومغاربها

الإسلام يهدي الناس إلى الشعور بالمسئولية الخلقية في كل عمل يعمله كبيراً كان أو صغيراً إن نظام الإسلام الديني لا يسمح أبداً بمثل ما أمر به الإنجيل قائلاً " أعطوا ما لقيصر لقيصر وأعطوا ما لله لله " ، لأن الإسلام لا يسمح بتقسيم حاجات حياتنا إلى خلقية وعملية ، ليس هناك إلا خيرة فقط ، خيرة بين الحق والباطل ، وليس شيء وسطاً بينهما

أصبح المال هو الروح الساري في جسم المجتمع البشري والحافز الأكبر للناس على أعمالهم ونشاطهم المدني ، وقد يدفع المخترع إلى الاختراع والصانع إلى صناعته والسياسي إلى مقالته والمرشح إلى انتخابه والعالم إلى تأليفه ، حتى القادة إلى الحرب ، فهو القطب الذي تدور حوله رحى الحياة العصرية

إذا حكمت على عصرك وطبائعه وأذواقه وأنت بمعزل عن الحياة وبنيت حكمك على مؤلفات ومقالات إنما تكتب في زاوية من زوايا الكتب فإنك تغالط نفسك

أشد العقبات التي واجهها الأنبياء والدعاة الدينيون , واصطدمت بها خطبهم ومواعظهم ودعوتهم , هم أولئك الذين حرموا الحاسة الدينية أو فقدوها بتاتًا , والذين تحجرت قلوبهم وماتت نفوسهم في مسألة الدين, والذين آلوا على أنفسهم أنهم لا يفكرون في أمر الدين وأمور الآخرة

إذا تغلبت جماعة لا تعبد إلا المادة وما إليها من لذة ومنفعة محسوسة، ولا تؤمن إلا بهذه الحياة، ولا تؤمن بما وراء الحس أثرت طبيعتها ومبادئها وميولها في وضع المدنية وشكلها، وطبعتها بطابعها، وصاغتها في قالبها، فكملت نَوَاحٍ للإنسانية واختلت نَوَاحٍ أُخرى أهمّ منها وعاشت هذه المدنية وازدهرت في الجصِّ والآجر وأخصبت في ميادين الحروب وساحات وماتت وأجدبت في القلوب والأرواح