نص نثري |
* |
-1- |
اليومَ ارتكبتُ خطأً كبيراً جداً |
عندما زرتُ سان فرانسيسكو وحيداً |
أخذتُ شارعَ "فانيس"( 1) نزولاً |
واتجهتُ إلى رصيف الصيادين |
"الفيشار مانز وورف"( 2) |
تمشيتُ هناك لا ألوي على شيء.. |
الساعة في يدي أشارتْ إلى الخامسةِ مساءً |
قفلتُ عائداً |
باتجاه "البرودوي"( 3)... |
شارعِ الملذات |
ومررتُ بقرب مطعمِ الثوم الشهير |
وتذكرتُ يومَ التقينا مع الأصدقاء هناك |
ثم تابعتُ المسيرَ باتجاه "الإمباركاديرو"(4 ) |
لكنني لم أصله |
فرأيتُ إحدى المومساتِ شبهَ عارية |
وقد رسمتْ على ظهرها نجمة داوود |
نظرتُ إلى ماءِ المحيطِ الذي يجلبُ الرياح |
فرأيته هادئاً |
على غير عادته.. |
ربما لأنك (يا حبيبتي) لستِ معي... |
ورأيتُ الجسرَ الكبير |
جسر الخليج "الباي بريدج"(5 ) |
خجولاً يختبئ بين الضباب... |
فاتجهتُ إلى أعلى التلة الشاهقة |
كانت الطريقُ كأنها جدارٌ مدهونٌ بالشيكولا |
تسلقتُها |
وتذكرتُ يومَ كنتِ معي |
وأخذنا نصعد هذه الطرق شديدة الانحدار |
وأنت ترتجفين من البرد وليس من الخوف |
فدثرتكِ بمعطفي... |
وحملتُ يدكِ على كتفي |
وأنتِ تحدثينني عن يومكِ الأول في أمريكا |
يوم حملتكِ في عناقٍ طويل لأنني كنت بانتظارك |
وكنتُ مشتاقاً لك كثيراً.. |
واليومَ ها نحنُ نفترق |
مثلما توقعنا في أول يوم التقينا فيه |
هل تذكرين؟ |
لا اعتقد... |
لكنني أذكرُ تلك القشعريرةَ الخفيفة |
التي هزتْ جسدكِ عندما قلتُ لك أحبك |
أولَ مرة.. |
كانت رائعةً |
لماذا لا يستطيع الإنسانُ |
أن يقول "أول مرة" |
إلا عن مرة واحدة...؟ |
كم تمنيتُ أن تتكرر |
لكن لذتها لا تسمح بذلك |
مثل كل الأشياء المقدسة |
2-- |
اليوم اكتشفتُ أنني لستُ طاهراً |
مثلما أخبرتكُ من قبل |
ومثلما أقنعتُ نفسي.. |
لانني قمتُ بفض بكارة المدينة |
مع انك أنت حبيبتي الوحيدة.. |
لكنك مَن علمني أن أعشقَ سان فرانسيسكو |
اتجهتُ إلى شاليمار( 6) |
كما كنا نفعل دائماً |
فنظر الناس إليَّ هناك باستغراب |
وسألتني عيونهم عنك |
فجلستُ وحيدا |
انتظر ذلك النادلَ غير الرقيق |
الذي يجلبُ لنا الطعام الرائعَ عادةً |
وقفتُ امامَه مثل طفل ضائع |
وأجبته قبل أن يسأل |
"لقد افترقنا" |
فلم يقل لي أي شيء.. |
3-- |
رسمتُ الطريقَ بالسيارة |
وطليتها برائحة شهية من الأرز الهندي الفاخر.. |
حبيبتي، أنا لم أجد اليوم طبقك المفضل.. |
لكنني على أي حال لن ألتقيك.. |
ولن يكون لنا موعد اليوم |
وسأعودُ لأجدك تبكين |
أو على الشرفة لا تنتظرين أحدا |
ولا تشربين إلا فنجان القهوة البائس.. |
وسأجدُ الفراشةَ نائمة.. |
بكيتُ |
نعم |
بكيتُ على قدميها |
لقد أضعتُ يومي في الخارج |
بين أزقة سان فرانسيسكو |
وفي نفق "البرودوي" |
وفي شارع تسعة عشر |
وها أنا ذا أعود لاجدَ نفسيَ مشارفاً على الموت |
اليومَ سأحفر لنفسي قبراً |
وسأجلسُ فيه منتظراً شيئاً لا أعرف ما هو.. |
وسأقبّلُ ساقَ إحدى النساءِ الغريبات |
حتى أثبتَ لنفسي أننا افترقنا.. |
وأنني أصبحتُ حراً |
-4- |
ربما تتعجبين أنني لم أكتب عن هذا الحدث الهام شعرا |
الشعر يا حبيبتي هربَ مني |
عندما اتفقنا على الفراق |
ولم أعد اتذكر أوزانَ البحور |
ولا موسيقى بحر الكامل |
الذي كتبتُ لك باستخدامه كثيرا.. |
حتى القوافي |
والأفكار |
والضروب والأعاريض |
لم تعد تستجيب لي |
ولم يعد هنالك متسعٌ من الوقت |
لكي أقول شعراً مرة أخرى |
فمثلما لن أراك مرة اخرى، |
لن يكون بإمكاني أن أكتب |
أعدك أن احاول ترجمة هذا الكلام إلى شعر |
وإن استطعتُ |
فسأعتبر نفسي فاشلاً في الفراق |
مثلما أنا فاشلٌ في الحب... |
لكن لا يوجد أية بوادر لا لهذا |
ولا لذاك... |
-5- |
أنظرُ إلى صفحة السماء، |
فأجدُ الطائراتِ على شكل نقاطٍ من الضوء.. |
دائماً كنا نجلسُ معاً ونبدأ بعدِّ هذه النقاط |
ونكرر ذلك حتى تلتقي عيوننا |
وندخلَ في عناقٍ حار |
يحكي قصة حب عمرها أكثر من تسع سنوات |
-6- |
اليوم افترقنا كما كنا نتوقع |
وكما لم يتوقع الذين كانوا يروننا معا |
وانا اكتشفتُ ان الحب لا يلتقي مع الأحلام |
إنما يصنعها |
ثم يخذلها.. |
-7- |
الآن سأجلبُ لنفسي السعادة |
وسوف أكررُ القسَم الذي قرأناه معا |
أمام الله |
في الصخرةِ المشرفة |
قبل أكثر من تسع سنوات |
ولم يكن يشهدُ علينا إلا رشيد |
صديق عمري الذي رحل |
ونستطيعُ اليوم أن نخونه كما يحلو لنا |
فهو في مكان لا يوجد فيه أي ألم أو غضب |
حتى الأحاسيس والعواطف المؤلمة.. |
غير موجودة هناك |
ولن يغضب منا إن افترقنا.. |
8-- |
عدتُ إلى "بيلمونت"( 7) |
متخذا الشارع رقم مئة وواحد جنوبا |
رأيتُ على جانب الطريق حادث سير |
علمتُ أن سرعة السائق الذي تحطم دماغه |
لم تتجاوز السبعين ميلا في الساعة |
وأنا الآن أقود سيارتي بسرعة مئة ميل |
وقلبي محطم إلى فتات |
السيارة لا تستجيب لأوامري |
أضغط الفرامل.. |
فتزداد السرعة أكثر |
أحرك المقود باتجاه اليمين |
فلا يتغير مسارها.. |
يبدو أنني نسيتُ قوانين السير |
ولم أعد أتذكر كيف يعشق الإنسان |
أو يمارس الحب |
كانت سان فرانسيسكو اليوم كئيبة |
أظن أنها حزينةٌ لفراقنا... |
وعندما حلَّ الظلام على الدروب والطرقات |
واختفت وجوه الناس خلف ستائر سوداء.. |
أحسستُ بقلبي يتوقف عن النبض... |
فجلستُ على مقعدٍ لم نجلس عليه معا |
وأخذتُ أتهربُ من عيون الناس |
الذين اعتادوا أن يروك معي.. |
في هذه اللحظة |
بكيتُ وقلتُ لهم |
لقد افترقنا... |
* |
كاليفورنيا - 5 حزيران، 2005 |
* |
(1) شارع كبير يمر في وسط سان فرانسيسكو. |
(2) منطقة ساحلية في مدينة سان فرانسيسكو. |
( 3) شارع كبير في المدينة. |
(4) شارع مشهور في مدينة سان فرانسيسكو يمر بمحاذاة الخليج. |
( 5) وهو جسر كبير في المدينة يمر فوق الخليج. |
( 6) أحد أشهر المطاعم الهندية الشعبية في أمريكا. |
( 7) بلدة صغيرة في ولاية كاليفورنيا تقع جنوب سان فرانسيسكو. |