أرشيف الشعر العربي

الشاعر في وادي الموتى

الشاعر في وادي الموتى

مدة قراءة القصيدة : 6 دقائق .
من الطارق الساري خلال المقابر كخفقة روح في الدجنات عابر ؟
من الوجل المذعور في وحشة الدجى تقلبهُ الأوهام في كل خاطر ؟
يُنقّل في تلك الدياجير خطوهُ ويخطر في همس كهمس المحاذر؟
وقد سكنت من حوله كل نأمة * سوى قلبهُ الخفاق بين الدياجرِ
وغشاه روع الموت ، والموت روعة تغشى فيعنو كل نِكس وقادر؟

***

هو الشاعر الملهوف للحق والهدى وللسر لم يكشفهُ ضوء لناظر
تحير في سر الحياة وما اهتدى إليه ، ولم يقنع بتلك الظواهر
وساءل عنه الكون والكون حائر يسير كمعصوب بأيدي المقادر
وساءل عنه الموت ، والموت سادر وساءل عنه الشعر في حنق ثائر
وساءل عنه كل شيء ، فلم يفز بشيء ولم يرجع بصفقة ظافر !

***

أفي هذه الأجداث طلسم سرّه لعل فمن يدري بسر المقابر ؟
ألم يخلع الموتى الأحابيل كلها ؟ أحابيل أوهام الحياة الجوائر ؟
ألم يتركوا الدنيا الغَرور لأهلها ويستوثقوا مما وراء المصائر ؟
ألا تهمس الأرواح بالسر إذ سرى إليها ؟ ألا تهدي اليقين لحائر ؟
أجل ! ربما تعطي الجواب لسائل وربما تجلو المصير لشـاعر !

***

وفيما يناجي في حمى الصمت نفسهُ تسمّع همساً من خلال الحفائر
" من الطارق الساري خلال المقابر فأقلق منّا كل غاف وساهرِ "
" أما يقنع الأحياءُ بالرحب كله ؟ أيا ويح للأحياء صرعى المظاهر "
" تركنا لهم دنياهمو وديارهم ولم يدعونا في حمى غير عامرِ "

***

وقال فتى منهم حديث قدومه بنغمة إشفاق ونبرةَ ساخر !
" لعل الذي قد دب في ذلك الحمى وأيقظ في أحشائه كل سادر"
" أخو صبوة ، يهفو إلى قبر ميتة له عنده وجد وتحنان ذاكر "
يقرّبهُ منه التذكر والهوى وتبعدهُ عنها غلاظ الستائر "
" وما أخدع الحب الذي في ديارهم يغشى على أبصارهم والبصائر "
وقالت لهم أم وفي صوتها أسى ونبرة تحنان ، وكتمان صابر
" ألا ربما كانت ثكولاً حزينةً على فلذة من قلبها المتناثر "
" وربتما كانت عجوزاً تأيمت وضاقت بدهر ناضب العون غادر

***

وقد ذهبوا في حدسهم كل مذهب وفيما حوته نفسهُ من مشـاعر !

***

وجلجل صوت الشيخ يدوي كأنما هو الدهرُ في صوت من الروع ظاهر
" من الطارق الساري خلال المقابر فأقلق منا كل غاف وساهر " !

***

فقال أخو الأحياء والقلبُ خافق من الوجل الأخاذ ، في صوت حاسر
" أنا الحي لما يدر أسباب خلقه أنا المدلج الحيران بين الخواطر "
" دلفت إلى وادي المنايا لعلني أفوز بسر في حناياه غائر "
" أما تعلمون السر في خلق عالم يموت ويحيا بين حين وآخر "
" وتكنفهُ الأحداث من كل جانب ويركب للغايات شتى المخاطر "
" وليس له غاية غير أنه مسوق إلى تحقيق رغبة قاهر "
" ضنين بما يبغيه ليس يبيحهُ لسائله عما وراء الظواهر "
" وماذا لقيتم بعد ما قد خلعتمو قيود الليالي الخادعات المواكر ؟ "
" وماذا وراء الغيبِ والغيبُ مطبقٌ وهل يتجلى مرة للنواظر ؟ "
" سؤال أخي شوق ، وقد طال شوقهٌ وحيرتهُ ، بين الشكوك الكوافر "

***

أريت لو ان الهول صُور منظراً تجلله الأخطار جد غوامر ؟
كذلك ساد الصمت بين الحفائر وران على أرواحهم والضمائر
وأذهل هاتيك النفوس فخفضت من البهر والإعياء دقات طافر

***

وجلجل صوت الشيخ يدوي كأنه يحدّث من كون قصي المعابر !
" أيا ويلها تلك الحياة وأهلها تكشف عن بلوائها كل ساتر "
" وتطلب أسباب الشقاء لنفسها ! فتضرب في تيه من الشك غامر "
" وتسأل عن " سر " وليست بحاجة إلى السر تشريهِ بأنفس حاضر ! "
" لقد أغمض الموت الرحيم جفوننا وهدّأ في أفكارنا كل نافر !
" نسينا سؤالا لم يزل كل كائنٍ يردده حيران في حرز " حازر " !
" نسيناه فارتحنا من الحيرة التي خسرنا بها الأعمار جد نواضر "
" وهاأنت ذا تذكيه ، يا لك جائر ويالك مخدوعا بسر المقابر "
أريت لو ان الهول صور منظراً تجلله الأخطار جد غوامر ؟
كذلك ساد الصمت بين الحفائر وران على أرواحهم والضمائر
وأذهل هاتيك النفوس فخفضت ز من البهر والإعياء دقات طافر

***

وعاد أخو الأحياء بعطو بحسرة ولهفة محروم ، وإعياء خائرِ
لقد كان في الموتى وفي الموت مأمل يعلله بالكشف عن كل ضامر
فألفى سرابا ثم لا ينقع الصدى فوا ندما عن بحثه المتواتر !
فقد كان خيرا أن يعيش على المنى ويأمل بعد الموت كشف الستائر
ويا ليت هذا الموت يسرع خطوه فيطوي حيّا عمره ربح خاسرِ !

*

1934

اخترنا لك قصائد أخرى للشاعر (سيد قطب) .

البطل

تحية الحياة

التجارب

العود

مأساة البدارى


فهرس موضوعات القرآن