الإنسان الأخير
مدة
قراءة القصيدة :
3 دقائق
.
صحا ذات يوم حين تصحو البواكرُ | وتستيقظ الدنيا وتجلو الدياجرُ |
ويشرقُ وجه الصبح في غمرة الدجى | كما تشرقُ الآمال واليأس غامرٌ |
وتضطربُ الأنفاسُ خفّضها الكرى | وتخفق أرواح وتذكو مشاعرُ |
وحين يعج الكون بالصوت والصدى | وبالكدح تزجيه المنى والمخاطرُ |
وبالصرخة الهوجاء والضحكةُ التي | يضج بها الأحياءُ والدهرُ ساخرُ |
*** | |
ولكنهُ لم يلفِ بالكون نأمة | تنم على حيّ ، ولم يهـفُ خاطرُ |
ففي نفسهِ ما يشبهُ الموت سكرة | ومن حوله موتٌ نمتهُ المقابرُ |
جلال كأن الله أطلع وجههُ | عليهِ ، فقرّت في النفوس الضمائرُ |
وصمتٌ فما في الكون صوت ولا صدى | ولا خفقةٌ يُحيي بها الكون شاعر |
فأدرك في أعماقهِ عن بديهة | نهاية ما صارت إليه المصائر ! |
*** | |
وما همّ بالتنقيب عن أي صاحبٍ | ففي نفسهِ يأسٌ من النفسِ صـادرُ |
ولكنهُ ألقى بها عبر نظرة | على الكون والأيام وهي دوائرُ |
ركامُ وأشلاء وأطلال نعمـة | وبؤسٌ ، وشتّى ما حوتهُ الأداهر |
وفي نفسهِ من مثلها كل ذرة | فهاتيك أشلاء وهذي خواطرُ |
تجمّع فيها ما تفرق في الورى | وما ضمنت تلك السنون الغوابرُ |
خلاصةُ أعمارٍ وشتى تجاربٍ | ومجمع أشواق بها الكون حائرُ |
*** | |
وأوغلَ في إطراقةٍ ملؤها الأسى | فمرّت عليه الذكريات العوابرُ |
تحث خطاها موكبا إثر موكبٍ | وقد جاورت فيها المآسي البشائرُ |
وأقبلت الآمالُ واليأس حولها | تمزقها أنيابهُ والأظافرُ |
وجمّع فيها الخير والشر رابط | من النفس مشدود إليها مخامرُ |
وشتى عبادات وشتى عقائد | يؤلفها الإيمان وهي نوافرُ ! |
وفيها من المجهول سرٌ وروعة | ورغبة محروم وخوف مساورُ |
وقد كان في المجهول مطمح كاشـف | تحجّبه عن طالبيه الستائرُ |
فيا ليته يدري بما خلف سترهُ | فيختم سفر الناس في الأرض ظافرُ ! |
*** | |
وعادت له الآمالُ إذ جدّ مطمح | يرجى ، وأذكاه الخيال المغامرُ |
لعل وراء الكون مفتاح لغزه | وطلسم ما ضمت عليه السرائرُ |
وما هي إلا ومضةٌ تكشف الدجى | ويخلع هذا الجسم والجسمُ جائرٌ |
ولولا مواثيق الحياة تشدّهٌ | إليها لأمضى عزمهُ وهو صابرُ |
وخلّف هذا الجسم للموت والبلى | وأشرق روحاً حيث تصفو البصائرُ |
وعاودهُ حب الحياة لذاتها | وقد أجفلت تلك النوازي الكوافرُ |
وهاجت به الأطمـاع حب امتلاكها | له وحدهُ والناس ميت وداثرُ |
فعاد إلى الدنيا العريضة مالكاً | ولا من يلاحيهِ ولا من يشاطرُ |
ولكنه لم يستطب ملكهُ الذي | تمحص لا يسعى به أو يغامرُ |
وما فيه من كدّ ولا من تسابقٍ | ولا سابق في الكادحين وقاصرُ |
وكيف يطيب العيشُ إلا تزاحماً | فيربحُ مجدود ، ويخسرُ عاثرُ ! |
*** | |
:" برمتُ بهذا الكون همدان موحشاً | برمتُ بملكٍ ربهُ (1) فيه خاسرُ " |
"فهيّا إذن للموت أروح رحلة | لتكشف أستار ويهدأ ثائرُ " ! |
*** | |
وفيما يعاني سكرة الموت هينمت | إلى مسمعيه هاتفات سواحرُ |
" هو السر أن تهفو إلى السر لهفة | وأن تشتروا الآتي بما هو حاضرُ " ! |
__________ | |
(1) | صاحبهُ |
* | |
1934 |