و لأني الهارب من جدران التاريخ |
و من آلام السفر |
لأني الباحث عن ثقب مخنوق |
أدفن فيه كياني |
أهرب منه من المجهول إلى المجهول |
أهرب من ذاتي |
من هذا الواقع |
من حبر الصمت و صرخات المخذول |
أهرب.. أهرب |
من ذاكرة النسيان |
لأحتضن المنفى |
أهرب من وطن عشت الدهر أكابده |
يأويني المنفى |
يسعدني |
يشعرني أني حي لا زلت أناضل |
أني لا زلت أدب على ظهر الأرض |
يشعرني |
أني لا زلت أحبك يا وطني |
و أُفَتِّشُ عنك و عن لغةٍ تحويني |
لغةٍ لا أسأمها |
أشعر معها أنك مينائي |
أنك يا أملي |
رغم التغريبة شاطئ أهوائي |
يشعرني |
أن الأرض سواك هي المنفى |
أن فضاء الكون بلا عينيك |
هو السجن المخنوق |
علمني المنفى.. |
كيف أحلق بجناح مكسور |
في آفاق الأوهام |
كيف أرفرف فوق بروج الطغيان |
و كيف ألملم أجزائي |
لما بعثرت الغربة أشلائي |
علمني كيف أرتب أوراقي و أضاحكها رغم الأحزان |
ما أجمل ذاك المنفى |
من وطن يجبرني أن أتنحى |
عن عرش الوهم الخالد و دفيء الأحلام |
يُسْلِمُني لليأسِ |
و يقتل نبضي الحالمَ بصقيع الواقع و الآلام |
وطنٍ يغرس في قلبي |
شجرةَ بؤسٍ |
أشواكًا تغتال الحبَّ |
و تذبح معها كلَّ سَلام |
... |
وطني إنك تعرفني.. |
تعرفني من يأسٍ في العَيْنَيْنْ |
تعرفني من بؤسٍ يعلو ذي الشَّفَتَيْنْ |
و أنا لا زلت بأحلامي |
أقتلع التِّنّينَ من النَّهْرَيْنْ!! |
لست بموسى.. |
لست مسيح القرن الحاضر |
أنا يا وطني |
أرقب ما بين السَّدَّيْنْ |
لست بعبد كي أستصرخ ذا القرنينْ |
أرفض عودة يأجوج و مأجوج |
و لكني.. |
لن أستصرخ ذا القرنينْ |
السد أمامي.. |
يهتزُّ |
تتزعزع أركانه ركنًا ركنًا |
أخشى يا وطني |
إذا ما انكسر السد و ساح السيل على أرضي |
لن ينفعني يومًا عِنْدي |
لكني لا زلت أنادي: |
لن أستصرخ ذا القرنينْ |
... |
أهرب من رقعة شطرنجٍ |
دومًا كنت أنا فيها الجُنْدِيَّ الحالِمَ |
بالشَّطِّ الآخر |
حين يُتَوَّجُ بعد عناءٍ |
خيلاً أبيض |
يعدو معه فوق حدود اللعبة |
يهرب من واقِعِهِ |
و تَحَكُّمِ من يملك تلك الرقعة في منصِبِهِ |
كلاّ كلاّ |
أنا خيلٌ أبيض |
أقفز من ذاك الجزءِ الداكنِ من لعبتكم |
نحو الحرية و المجهول |
كلا كلا |
لن تُرْسَمَ بعد اليوم خُطايْ |
سأثور على رقعة لعبتكم |
و سأقلب كل عساكرها |
فوق رؤوسكم المحشُوَّةِ بالغازات |
و سأعدو نحو المجهول |
... |
أهرب من حوصلة الطِّبِّ |
و من سور الجامعة المتهالك |
حول الجثث و أشلاء الموتى |
من رائحة الفورْمالينْ |
أرقص مع عزف الأموات لسيمفونية حلمي الضائعِِ |
في المشرحة الكبرى |
أتذكر حطين فأهرب |
أهرب من نفسي |
و أفر إلى البحر العابث بالريح الشتوية |
و أحدثه.. |
ها سَعْد الواقف تحت الشمسْ |
ينظر للبحر بعينيه الحالمتينْ |
يرمق بهما من تحت القدم |
و يتمنى لو كان بوسعه ركلُ أولئك بالقدمينْ!! |
ها زغلول و قد أضْحى |
قطعةَ تمثال!! |
... |
أهرب من قطعة تمثال قد يحويني إن صرت عظيمًا |
و لماذا أهرب؟؟ |
أنا نفسي قطعة تمثال!! |
... |
و أُحَدِّقُ في البحرِ |
و في آفاق البصر اللامحدود |
يأخذني معه البحر إلى المجهول |
ميدان المَنْشِيَّةِ يشهدني |
آه.. إن المجهول يطاردني |
حتى عندك لا ينساني المجهول!! |
يا ذاك الجندي الباسل |
مَيْدانُكَ يحمل رائحة المسك |
و يحمل أشرف ما في هذا التاريخ المعجون بماء الزيف |
ما بال الناس تمر عليك و لا تعبأ؟ |
ما عدت تُذَكِّرُهُمْ مجدًا |
ما عدت تُرَقِّقُ فيهم أي شعور! |
يا ذاك الجندي المجهول |
كم أحتاج اليوم إليك تعلمني فلسفة القوة |
أَوَ تعلم أنّي.. |
لا زلت الهارب من كتب الواقع |
من ديوان العته الأزلي |
و من صمت البوح و عجز الروح عن الكتمان؟ |
أنا ذاك الهارب منك |
فلن أرضى يومًا |
أن أصبح جنديًّا مجهول! |
... |
الدوري الإفريفيُّ يَشُّلُّ الشارع |
يحتَلُّ عقول المارَّة |
يغزوني رغمًا عن أنفي |
و تسد الآفاق وجوه |
لم تألفها أرصفة الطرقاتْ |
بات الدرب إلى المريخ |
أسهل من أن ألمح سور الجامعة المتلاشي |
خلف دخان السياراتْ |
و خلف صفير السوداواتْ |
لن أصل الجامعة اليوم.. |
أخشى أن أخترق حشود الجمهور لأعبر |
فضيوف البلدة ثقلاء اليد!! |
"البالطو" الأبيض لا يشفع لي |
حتى ذاك الوجه العربي المستهجن من قبل العالم |
لن يشفع لي |
إما أن أختار السحق بذي الأقدام |
أو أوثر دفء فراشي |
و ربيع الأحلام.. |
... |
أعدو للمنزل.. |
علَّ هواء البيت المخنوق يحررني |
من ذاك القهر الساري بين شراييني |
من كونٍ مقلوبٍ أمقته أرضًا و سماءْ |
أستكتب قافيتي الخرساءْ |
أبكي من هيمنة الظلم على أرضى |
حتى الغرباءْ!!!! |
لم يعطوني وزنًا أو قيمة |
و أنا ابن الأرضِ! |
و ملامح وجهي العربية لا تسمح لي |
أن أخترق حشود السود و أعبر أنى شئت على أرضي!! |
أنا أملك تاريخًا ذهبيًا |
لن تدركه مباراتكم البلهاء |
... |
أسياف الواقع تترصًّدُ أحلامي |
فتصادر ما يتبقى من أشلاء كياني |
معها أتساقط كخريف العمر.. |
و ريعان شبابي مدفون |
بين الحرية و المجهول.. |
الفارق بينهما: |
وهمٌ |
لا يسعفني أفْق خيالي أن أدركه |
أتعذب وحدي بظنوني |
بأمانٍ أبنيها من قلبي |
و أعيش هنا فيها وحدي |
... |
و أنا في ريعان شبابي |
تزداد خطوط جبيني عمقًا عمقًا |
و يكاد الشيب يعسكر رأسي |
لولا أوهامي.. |
أني قد أحيا فوق مرابع أحلامي |
أني و العودة وجهان |
... |
من أين العودة يا وطني؟؟ |
و خريف العمر يذوِّب أحلامي؟؟ |
و يسطر بيديه الحاقدتين |
نهاية أيامي |
يومًا يا وطني.. |
سأكف عن الهرب الدامي |
و سأهدم منفاي |
و أعود إليك بآلامي |
بيدي و يديك.. |
ستصبح كل الأحلام حقيقة |
________ |
فبراير 2006 م |