وقع حلف الفضول في الشهر الحرام, تداعت إليه قبائل من قريش, بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي؛ لسنه وشرفه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وشهد هذا الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عنه: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت).

وهذا الحلف تنافي روحه الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها، ويقال في سبب هذا الحلف: إن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، واشتراها منه العاص بن وائل السهمي، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الأحلاف عبد الدار ومخزوما، وجمحا, وسهما وعديا فلم يكترثوا له، فعلا جبل أبي قبيس، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعا صوته، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك.

حتى اجتمعوا فعقدوا الحلف الذي عرف بحلف الفضول, ثم قاموا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق الزبيدي.

وسبب تسميته بهذا الاسم: أن ثلاثة من قبيلة جرهم هم: الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، والفضل بن الحارث؛ قد عقدوا قديما نظيرا لهذه المعاهدة، فلما أشبه فعل القريشيين فعل هؤلاء الجرهميين الأول المسمون جميعا بالفضل سمي الحلف: حلف الفضول.


بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس تسعة أشهر من الهجرة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في عشرين من المهاجرين.

وقيل: ثمانية إلى الخرار.

وعقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو رضي الله عنه.

والخرار: واد يتوصل منه إلى الجحفة، وقد عهد صلى الله عليه وسلم إليه ألا يجاوزه؛ ليعترض عيرا لقريش تمر بهم، فخرجوا يمشون على أقدامهم، يكمنون النهار ويسيرون الليل حتى صبحوا المكان المذكور في صبح خمس؛ فوجدوا العير قد مرت بالأمس؛ فضربوا راجعين إلى المدينة من غير حرب.


وكان سبب نزولها أن عمر رضي الله عنه كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم.
.
.

إلى قوله تعالى:.
.
وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن".


وقعت هذه الغزوة بعد غزوة الأحزاب مباشرة، وكان سببها نقض بني قريظة العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم بتحريض من حيي بن أخطب النضري.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسل الزبير لمعرفة نيتهم، ثم أتبعه بالسعدين –سعد بن عبادة وسعد بن معاذ- وابن رواحة، وخوات بن جبير لذات الهدف ليتأكد من غدرهم.

وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، بقتالهم بعد عودته من الخندق ووضعه السلاح، فأوصى عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يتوجهوا إلى بني قريظة، وقال لهم: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة).

كما في رواية البخاري، أو (الظهر) كما في رواية مسلم.

فضرب الرسول صلى الله عليه وسلم الحصار على بني قريظة لمدة خمس وعشرين ليلة على الأرجح، حتى نزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، فأحب أن يكل الحكم عليهم إلى واحد من رؤساء الأوس؛ لأنهم كانوا حلفاء بني قريظة، فجعل الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ، فلما دنا من المسلمين قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار: قوموا إلى سيدكم -أو خيركم- ثم قال: إن هؤلاء نزلوا على حكمك.

قال -أي سعد بن معاذ-: تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قضيت بحكم الله تعالى.

ونفذ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحكم فيهم، وكانوا أربعمائة على الأرجح.

ولم ينج إلا بعضهم، ثم قسم الرسول صلى الله عليه وسلم أموالهم وذراريهم بين المسلمين.


كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل عقد صلح الحديبية بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة، وحمله على جمل له يقال له: الثعلب.

فلما دخل مكة عقرت به قريش وأرادوا قتل خراش فمنعهم الأحابيش حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عمر ليبعثه إلى مكة، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بها من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها؛ ولكن أدلك على رجل هو أعز مني عثمان بن عفان.

فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته، فخرج عثمان حتى أتى مكة ولقيه أبان بن سعيد بن العاص، فنزل عن دابته وحمله بين يديه وردف خلفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به.

فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل).

 قال ابن عمر رضي الله عنهما:كانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «هذه يد عثمان».

فضرب بها على يده، فقال: «هذه لعثمان».

وقال جابر بن عبد الله: كنا يوم الحديبية ألفا وأربع مائة، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة.

وقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم اليوم خير أهل الأرض».

ثم قال جابر: لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة.
  وعن معقل بن يسار قال: لقد رأيتني يوم الشجرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة.

وقد اختلفت الروايات في عددهم، فقال ابن حجر: (والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال: ألفا وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال: ألفا وأربعمائة ألغاه).


خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه قرابة ألف وأربعمائة من أصحابه يريدون العمرة فلما وصلوا إلى الحديبية - وهي تبعد عن مكة قرابة 22 كم - وصله الخبر أن هناك من يريد أن يقاتله، فقال: إنه لم يجئ لقتال؛ بل جاء معتمرا.

وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى مكة ليخبرهم بذلك، ثم شاع الخبر أن عثمان قتل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم أن يبايعوه على القتال، فبايعوه وهي بيعة الرضوان، ثم جاء المشركون إلى الحديبية وحصلت عدة مفاوضات بين رؤساء من المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء سهيل بن عمرو فصالحه النبي صلى الله عليه وسلم على أن توضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وعلى أن من أتى رسول الله من أصحابه من غير إذن وليه رده رسول الله عليهم، ومن أتى قريشا من أصحابه لم يردوه، وأن بينهم عيبة مكفوفة، أي: لا غش فيها، وأنه لا إسلال -يعني لا سرقة- ولا إغلال -يعني لا خيانة- وأن يرجع في عامه هذا دون أن يدخل مكة وله ذلك في العام القابل، يدخلها ثلاثة أيام معه سلاح الراكب لا يدخلها بغير السيوف في القرب.
.
.

ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ينحروا ويحلقوا؛ ولكنهم لم يفعلوا حتى أشارت عليه أم سلمة رضي الله عنها أن يقوم هو بذلك دون أن يكلم أحدا فلما رأوه نحر تواثبوا إلى الهدي وفعلوا مثل ما فعل, ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة دون عمرة ودون قتال.


بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية أبي حدرد الأسلمي إلى الغابة، وسبب ذلك أن رجلا من جشم بن معاوية أقبل في عدد كبير إلى الغابة، يريد أن يجمع قيسا على محاربة المسلمين، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حدرد مع رجلين ليأتوا منه بخبر وعلم، فوصلوا إلى القوم مع غروب الشمس، فكمن أبو حدرد في ناحية، وصاحباه في ناحية أخرى، وأبطأ على القوم راعيهم حتى ذهبت فحمة العشاء، فقام رئيس القوم وحده، فلما مر بأبي حدرد رماه بسهم في فؤاده فسقط ولم يتكلم، فاحتز أبو حدرد رأسه، وشد في ناحية العسكر وكبر، وكبر صاحباه وشدا، فما كان من القوم إلا الفرار، واستاق المسلمون الثلاثة الكثير من الإبل والغنم.


قال ابن عباس رضي الله عنهما: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، قال المشركون: إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين، ليرى المشركون جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا.

قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.

وفي هذه العمرة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث رضي الله عنها.


حنين: واد إلى جنب ذي المجاز، قريب من الطائف، وبينه وبين مكة بضعة عشر ميلا من جهة الشرائع والسيل الكبير، وقيل سمي بحنين؛ نسبة إلى رجل يدعى: حنين بن قابثة بن مهلائيل.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أقام بمكة 19 يوما، حتى جاءت هوازن وثقيف فنزلوا بحنين يريدون قتال النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد جمعوا قبل ذلك حين سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، وهم يظنون أنه إنما يريدهم، فلما أتاهم أنه قد نزل مكة، أخذوا في الاستعداد لمواجهته، وقد أرادوها موقعة حاسمة، فحشدوا الأموال والنساء والأبناء حتى لا يفر أحدهم ويترك أهله وماله، وكان يقودهم مالك بن عوف النضري، واستنفروا معهم غطفان وغيرها.

فاستعد الرسول صلى الله عليه وسلم لمواجهتهم، فاستعار من يعلى بن أمية ثلاثين بعيرا وثلاثين درعا، واستعار من صفوان بن أمية مائة درع، واستعمل عتاب بن أسيد بن أبي العاص أميرا على مكة، وقد ثبت في الصحيحين أن الطلقاء قد خرجوا معه إلى حنين.

واستقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بجيشه وادي حنين في عماية الصبح، وانحدروا فيه، وعند دخولهم إلى الوادي حملوا على هوازن فانكشفوا، فأكب المسلمون على ما تركوه من غنائم، وبينما هم على هذه الحال استقبلتهم هوازن وأمطرتهم بوابل من السهام، ولم يكن المسلمون يتوقعون هذا فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فولوا مدبرين لا يلوي أحد على أحد، وانحاز الرسول صلى الله عليه وسلم ذات اليمين وهو يقول: (أين الناس؟ هلموا إلي، أنا رسول الله، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله).

وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم عمه العباس -وكان جهوري الصوت- أن ينادي الناس بالثبات، وخص منهم أصحاب بيعة الرضوان، فأسرعوا إليه، ثم خص الأنصار بالنداء، ثم بني الحارث بن الخزرج، فطاروا إليه قائلين: لبيك، لبيك.

ودارت المعركة قوية ضد هوازن، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى المعركة تشتد: (هذا حين حمي الوطيس).

ثم أخذ حصيات -أو ترابا- فرمى به وجوه الكفار وهو يقول: (شاهت الوجوه).

فما خلق الله تعالى منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (انهزموا ورب محمد)، وفي رواية أخرى: (انهزموا ورب الكعبة, انهزموا ورب الكعبة).

وقد روي: أن قتلى بني مالك من ثقيف لوحدها قد بلغ 70 قتيلا، وقتل بأوطاس من بني مالك 300، وقتل خلق كثير من بني نصر بن معاوية ثم من بني رئاب، وروي: أن سبي حنين قد بلغ 6000 من النساء والأبناء.

بينما قتل من المسلمين أربعة.


ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة عام حنين، وهذه العمرة هي الثالثة بعد عمرة الحديبية وعمرة القضاء.

قال ابن حجر: فإنه صلى الله عليه وسلم أحرم من الجعرانة ودخل مكة ليلا فقضى أمر العمرة ثم رجع ليلا فأصبح بالجعرانة كبائت.

قال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون أن يدخلوا مكة نهارا ويخرجوا منها ليلا.

وعن عطاء: إن شئتم فادخلوا ليلا إنكم لستم كرسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه كان إماما فأحب أن يدخلها نهارا ليراه الناس.

انتهى.

وقضية هذا أن من كان إماما يقتدى به استحب له أن يدخلها نهارا.


هو عبد الله بن أبي بن ابن سلول، رأس المنافقين، مرض في ليال بقين من شوال بعد أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك, ولما مات استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه بعد أن حاول عمر منعه عن الصلاة عليه، وقد نزل القرآن بعد ذلك بموافقة عمر رضي الله عنه، وإنما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إجراء له على حكم الظاهر وهو الإسلام؛ ولما فيه من مصلحة شرعية؛ وهو تأليف قلوب قومه وتابعيه، فقد كان يدين له بالولاء فئة كبيرة من المنافقين، فعسى أن يتأثروا ويرجعوا عن نفاقهم ويعتبروا ويخلصوا لله ولرسوله.


سار خالد بن الوليد رضي الله عنه بجيوشه المجتمعة إلى الفراض على تخوم الشام والعراق والجزيرة، وتعاون الفرس والروم ضد المسلمين, فأقام هنالك شهر رمضان مفطرا لشغله بالأعداء، ولما بلغ الروم أمر خالد ومصيره إلى قرب بلادهم حموا وغضبوا وجمعوا جموعا كثيرة، ثم ناهدوا خالدا فحالت الفرات بينهم، فقالت الروم لخالد: اعبر إلينا.

وقال خالد للروم: بل اعبروا أنتم.

فعبرت الروم إليهم، فاقتتلوا هنالك قتالا عظيما بليغا، ثم هزم الله جموع الروم وتمكن المسلمون من اقتفائهم، فقتل في هذه المعركة من الفرس والروم والعرب المتنصرة أكثر من مائة ألف، وأقام خالد بعد ذلك بالفراض عشرة أيام، ثم رتب لرجوع جيشه للحيرة، ثم  اتجه مع بعض جنده للحج دون علم أحد بهم.


أقام خالد بن الوليد بالفراض عشرة أيام، ثم أذن بالقفول إلى الحيرة، لخمس بقين من ذي القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير في المقدمة، وأمر شجرة بن الأعز أن يسير في الساقة، وأظهر خالد أنه يسير في الساقة, ثم انطلق في كوكبة من أصحابه، وقصد شطر المسجد الحرام، وسار إلى مكة في طريق لم يسلك قبله قط، وتأتى له في ذلك أمر لم يقع لغيره، فجعل يسير معتسفا على غير جادة، حتى انتهى إلى مكة فأدرك الحج, ثم عاد فأدرك أمر الساقة قبل أن يصلوا الحيرة، ولم يعلم أبو بكر الصديق بذلك أيضا إلا بعد ما رجع أهل الحج من الموسم، فبعث يعتب عليه في مفارقته الجيش، وأمره بالذهاب إلى الشام ممدا جموع المسلمين.


بعد أن فر يزدجرد من المدائن وسار باتجاه حلوان، والتف من التف حوله خلال مسيره فأمر عليهم مهران وأقاموا بجلولاء، وتحصنوا فيها، وحفروا الخنادق حولها، فبعث سعد إلى عمر يخبره بذلك، فأمره أن يقيم بالمدائن، ويرسل إليهم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، فسار إليهم هاشم وحاصرهم، واشتد القتال، وكانت النجدات تصل إلى الطرفين حتى فتح الله على المسلمين، وقد قتلوا من الفرس الكثير.


بعد أن توفي يزيد وكان قد عهد بالخلافة لابنه معاوية، وكان شابا مريضا، وكان ناسكا صالحا متعبدا لم تدم خلافته بالناس سوى اليسير، ولم يرد الخلافة وقد علم أنه ليس لها بأهل، واعتزل الناس وقال: إنه لم يجد للناس من يخلفه كما خلف أبو بكر للناس عمر بن الخطاب، ولا وجد في الناس ستة من أهل الشورى يكون الأمر بينهم كما وجد عمر بن الخطاب للناس أهل الشورى، فترك الأمر للناس يختارون من شاءوا، واعتزلهم حتى توفي.


لما مات يزيد بن معاوية أقلع جيشه عن مكة، وهم الذين كانوا يحاصرون ابن الزبير وهو عائذ بالبيت، فلما رجع حصين بن نمير السكوني بالجيش إلى الشام بعد أن عرض الحصين على ابن الزبير أن يبايعه بالخلافة شرط أن يأتي معهم للشام؛ لكن ابن الزبير رفض الذهاب إلى الشام, كان يزيد قد أوصى بالخلافة لابنه معاوية؛ لكنه لم يكن راغبا فيها فتركها وجعلها شورى للمسلمين.

استفحل أمر ابن الزبير بالحجاز وما والاها، وبايعه الناس في العراق وما يتبعه إلى أقصى مشارق ديار الإسلام، وفي مصر وما يتبعها إلى أقصى بلاد المغرب، وبايعت الشام أيضا إلا بعض جهات منها، ففي دمشق بايع الضحاك بن قيس الفهرى لابن الزبير، وفي حمص بايع النعمان بن بشير، وفي قنسرين زفر بن الحارث الكلابي، وفي فلسطين بايع ناتل بن قيس، وأخرج منها روح بن زنباع الجذامي، ولم يكن رافضا بيعة ابن الزبير في الشام إلا منطقة البلقاء وفيها حسان بن مالك بن بحدل الكلبي.

وقد كان التف على عبد الله بن الزبير جماعة من الخوارج يدافعون عنه، منهم نافع بن الأزرق، وعبد الله بن إباض، وجماعة من رؤوسهم, فلما استقر أمره في الخلافة قالوا فيما بينهم: إنكم قد أخطأتم لأنكم قاتلتم مع هذا الرجل ولم تعلموا رأيه في عثمان بن عفان -وكانوا ينتقصون عثمان- فاجتمعوا إليه فسألوه عن عثمان فأجابهم فيه بما يسوؤهم، فعند ذلك نفروا عنه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا فيها.

صرح العديد من العلماء والمؤرخين بأن بيعة ابن الزبير بيعة شرعية، وأنه أولى بها من مروان بن الحكم, فيروي ابن عبد البر، عن مالك أنه قال: إن ابن الزبير كان أفضل من مروان وكان أولى بالأمر منه، ومن ابنه عبد الملك.

ويقول ابن كثير عن ابن الزبير: ثم كان هو الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة، وهو أرشد من مروان بن الحكم، حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه، وقامت البيعة له في الآفاق، وانتظم له الأمر، والله أعلم.


لما احترقت الكعبة حين غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير أيام يزيد تركها ابن الزبير يشنع بذلك على أهل الشام، فلما مات يزيد واستقر الأمر لابن الزبير شرع في بنائها، فأمر بهدمها حتى ألحقت بالأرض، وكانت قد مالت حيطانها من حجارة المنجنيق، وجعل الحجر الأسود عنده، وكان الناس يطوفون من وراء الأساس، وضرب عليها السور وأدخل فيها الحجر، واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (لولا حدثان عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم، وأزيد فيها الحجر).

فحفر ابن الزبير فوجد أساسا أمثال الجمال، فحركوا منها صخرة فبرقت بارقة، فقال: أقروها على أساسها وبنائها، وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر.


جهز الحكم بن هشام أمير الأندلس جيشا مع عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الفرنج بالأندلس، فسار بالعساكر حتى دخل بأرضهم، وتوسط بلادهم، فخربها ونهبها وهدم عدة من حصونها، كلما أهلك موضعا وصل إلى غيره، فاستنفد خزائن ملوكهم.

فلما رأى ملكهم فعل المسلمين ببلادهم، كاتب ملوك جميع تلك النواحي مستنصرا بهم، فاجتمعت إليه النصرانية من كل صوب، فأقبل في جموع عظيمة بإزاء عسكر المسلمين، بينهم نهر، فاقتتلوا قتالا شديدا عدة أيام، المسلمون يريدون يعبرون النهر، وهم يمنعون المسلمين من ذلك.

فلما رأى المسلمون ذلك تأخروا عن النهر، فعبر الفرنج إليهم، فاقتتلوا أعظم قتال، فانهزم الفرنج إلى النهر، فأخذهم بالسيف والأسر، فمن عبر النهر سلم، وأسر جماعة من جنودهم وملوكهم وقمامصتهم، وعاد الفرنج ولزموا جانب النهر، يمنعون المسلمين من جوازه، فبقوا كذلك ثلاثة عشر يوما يقتتلون كل يوم، فجاءت الأمطار، وزاد النهر، وتعذر جوازه، فقفل عبد الكريم عنهم سابع ذي الحجة.


دخل كثير من أهل الجبال، وهمذان، وأصبهان، وماسبذان، وغيرها في دين الخرمية، وتجمعوا فعسكروا في عمل همذان، فوجه إليهم المعتصم العساكر، وكان فيهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وعقد له على الجبال، فسار إليهم، فأوقع بهم في أعمال همذان، فقتل منهم ستين ألفا وهرب الباقون إلى بلد الروم، وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية.


هو علي بن عبدالله بن جعفر المعروف بابن المديني، إمام عصره في الجرح والتعديل والعلل، ولد سنة إحدى وستين ومائة، أحد الأعلام، وصاحب التصانيف، روى عنه الأئمة: البخاري، وأحمد، والنسائي، وغيرهم، قال ابن عيينة: "لولا ابن المديني ما جلست"، وقال النسائي: "كأن الله خلق علي بن المديني لهذا الشأن"، وقيل للبخاري ما تشتهي؟ قال: "أقدم العراق وعلي بن عبدالله حي فأجالسه".

وقال البخاري: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني" له كتاب العلل، وقوله في الجرح والتعديل مقدم، توفي في سامرا، فرحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.