عنوان الفتوى : طلب التأمين بدلاً من الدية
عندنا في ليبيا التأمين على السيارات إجباري فلا يرخص للسيارة إلا بعد دفع التأمين والتأمين عندنا كله تأمين تجاري وبعض العائلات تقول نحن نسامح في الدية وأعطونا ورقة التأمين، علماً بأنه لا يُعرف المبلغ الذي يدفعه التأمين وهل يعطيهم التأمين أم لا، فهل هذا من الصلح على غرر، وهل يجوز أم لا؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالتأمين التجاري محرم لقيامه على المقامرة والغرر، لكن إذا أجبر عليه الإنسان فلا إثم عليه، إنما الإثم على من أجبره، ولا حرج على من أحيل على شركة التأمين ليقبض ما يستحقه من تعويض عن ضرر أصابه لأنه غير مسؤول عن المال الذي كسبه غيره إذا دفعه إليه مقابل استحقاقه هو لهذا المال بصورة مشروعة، وراجع في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 22859، 7899، 24030.
وأما بخصوص طلب التأمين بدلاً من الدية مع عدم العلم بالمبلغ الذي سوف يدفعه التأمين، وما إذا كان سيدفع أم لا؟ فإن هذا يحتمل صوراً:
الصورة الأولى: أن يسامح أهل الميت في الدية دون اشتراط أن يعطوا بدلاً منها مبلغ التأمين، ولكن يطلبوا ذلك فقط، فإن منعوا لم يرجعوا في تنازلهم عن الدين، فهذا يجوز لأن إعطاءهم التأمين في هذه الحالة عبارة عن هبة، والهبة لا يفسدها الغرر والجهالة على الراجح من قولي العلماء وهو مذهب مالك -رحمه الله-، وممن أوضح ذلك الإمام القرافي في الفروق، فقال رحمه الله: الفرق الرابع والعشرون بين قاعدة ما تؤثر فيه الجهالات والغرر، وقاعدة ما لا يؤثر فيه ذلك من التصرفات: وردت الأحاديث الصحيحة في نهيه عليه السلام عن بيع الغرر وعن بيع المجهول، واختلف العلماء بعد ذلك: فمنهم من عممه في التصرفات وهو الشافعي فمنع من الجهالة في الهبة والصدقة والإبراء والخلع والصلح وغير ذلك، ومنهم من فصل وهو مالك بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو باب المماكسات والتصرفات الموجبة لتنمية الأموال وما يقصد به تحصيلها، وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو ما لا يقصد لذلك. وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام: طرفان وواسطة، فالطرفان: أحدهما: معاوضة صرفة فيجتنب فيها ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة... وثانيهما: ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال كالصدقة والهبة والإبراء، فإن هذه التصرفات لا يقصد بها تنمية المال بل إن فاتت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه، فإنه لم يبذل شيئاً؛ بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المال المبذول في مقابلته فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه، أما الإحسان الصرف فلا ضرر فيه فاقتضت حكمة الشرع وحثه على الإحسان التوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعاً وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله، فإذا وهب له عبده الآبق جاز أن يجده فيحصل له ما ينتفع به، ولا ضرر عليه إن لم يجده لأنه لم يبذل شيئاً وهذا فقه جميل..
الصورة الثانية: أن يشترطوا للتنازل عن الدية أن يعطوا التأمين، فإذا كان التأمين يمكن أن يدفع لهم ويمكن ألا يدفع، فهذا غرر واضح لا يجوز ولا يصح لأنه لا يتحقق به مقصود الصلح من قطع المنازعة والخصام.
الصورة الثالثة: أن يشترطوا للتنازل عن الدية أن يعطوا التأمين، وقد عُلم أن التأمين سوف يدفع لهم ولكن لا يعلم مقدار المدفوع، فالظاهر -والله أعلم- أن هذا يصح بشرط أن يكون مبلغ التأمين مهما كثر لن يبلغ مقدار الدية وهم يعلمون ذلك حتى تنتفي شبهة المقامرة، والدليل على ذلك ما رواه البخاري عن جابر: أن أباه قتل يوم أحد شهيداً وعليه دين، فاشتد الغرماء في حقوقهم، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم أن يقبلوا ثمرة حائطي ويحللوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطي، وقال: سنغدو عليك، فغدا علينا حين أصبح فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة، فجددتها فقضيتهم وبقي لنا من ثمرها. وفي لفظ: أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقاً لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم اليهودي ليأخذ ثمرة نخله بالذي له فأبى، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيها ثم قال لجابر: جد له فأوف له الذي له. فجده بعدما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وسقا، وفضلت سبعة عشر وسقا. رواهما البخاري، وقد بوب البخاري على هذا الحديث: باب إذا قاص أو جازفه في الدين تمراً بتمر أو غيره، وقال الحافظ ابن حجر: غرضه -يعني من الترجمة- بيان أنه يغتفر في القضاء من المعاوضة ما لا يغتفر ابتداء لأن بيع الرطب بالتمر لا يجوز في غير العرايا، ويجوز في المعاوضة عند الوفاء، وذلك بين في حديث الباب فإنه صلى الله عليه وسلم سأل الغريم أن يأخذ تمر الحائط وهو مجهول القدر في الأوساق التي هي له وهي معلومة، وكان تمر الحائط دون الذي له؛ كما وقع التصريح بذلك في كتاب الصلح من وجه آخر وفيه (فأبوا ولم يروا أن فيه وفاء). ونقل الحافظ في الفتح عن المهلب أنه قال: إنما يجوز أن يأخذ مجازفة في حقه أقل من دينه إذا علم الآخذ ذلك ورضي. انتهى.
ونقل عن ابن المنير أنه قال: بيع المعلوم بالمجهول مزابنة، فإن كان تمراً نحوه فمزابنة وربا، لكن اغتفر ذلك في الوفاء.
وقال الشوكاني في نيل الاوطار: والحديث فيه دليل على جواز المصالحة بالمجهول عن المعلوم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الغريم أن يأخذ ثمر الحائط وهو مجهول القدر في الأوساق التي له وهي معلومة. ولكنه ادعى في البحر الإجماع على عدم الجواز، فقال ما لفظه: مسألة: ويصح بمعلوم عن معلوم إجماعاً، ولا يصح بمجهول إجماعاً ولو عن معلوم، كأن يصالح بشيء عن شيء، أو عن ألف بما يكسبه هذا العام. انتهى. فينبغي أن ينظر في صحة هذا الإجماع، فإن الحديث مصرح بالجواز. اهـ
وعلى هذا.. فالحاصل أنه إذا كان مبلغ التأمين الذي سوف يعطونه أقل مما يستحقون وقد رضوا بذلك فلا بأس.
والله أعلم.