عنوان الفتوى : أحكام من حلف كاذبا متعمدا على أمر ماض أو حاضر أو مستقبل
واحد سألني عن فلوس، وأنا أقسمت أني لا يوجد معي، ولكن معي، ولكن هي أقل من حاجته. فهل واجب عليَّ كفارة القَسَم؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الحلف على الكذب محرم، وهو من اليمين الغموس. قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: الكذب هو: إخباره عن الشيء خلاف ما هو عليه، لهذا يقول أصحابنا في اليمين الغموس: هي التي يحلف بها كاذبا عالما بكذبه. اهــ
وقال المرداوي الحنبلي في الإنصاف: يَمِينُ الْغَمُوسِ. وَهِيَ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا كَاذِبًا، عَالِمًا بِكَذِبِهِ ... اهـــ.
وجاء في الاختيار لتعليل المختار من كتب الحنفية: الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةٌ: غَمُوسٌ، وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ أَوْ حَالٍ يَتَعَمَّدُ فِيهَا الْكَذِبَ. اهــ
ومثله قول بدر الدين العيني الحنفي في كتاب البناية شرح الهداية: (فالغموس: هو الحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه). ش: على إثبات شيء أو نفيه، وسواء كان ماضيًا أو حالًا، نظير الماضي قول الرجل: والله ما فعلت ذلك الأمر، هو عالم بأنه قوله. ونظير الحال قوله: والله إنه زيد مع علمه إنه عمرو، وما أشبهه. اهـــ.
وإذا تبين أن يمينك هذه داخلة في الغموس؛ فقد اختلف الفقهاء في وجوب الكفارة فيها.
فقال الحنابلة والحنفية: لا كفارة فيها، وقال الشافعية: فيها الكفارة، وفصل المالكية فأوجبوا الكفارة في اليمين على الحال دون الماضي، وظاهر الكلام أن يمينك تتعلق بالحال، فتجب الكفارة فيها عند المالكية والشافعية. فقد جاء في حاشية الصاوي على بلغة السالك لأقرب المسالك (2/ 205):
لا (كفارة في ماضية): أي في يمين متعلقة بماض (مطلقا) غموسا، أو لغوا، أو غيرهما؛ لأنها إما صادقة -وظاهر أنها لا كفارة فيها- وإما غموس -ولا كفارة لها إلا الغمس في جهنم، أو التوبة، أو عفو الله-. وإما لغو -ولا كفارة فيها لما مر-.
(عكس) اليمين (المستقبلة): أي المتعلقة بمستقبل؛ فإنها تكفر مطلقا إذا حنث غموسا، أو لغوا، وبقي التفصيل في المتعلقة بحال، فإن كانت غموسا كفرت، وإلا فلا. وقد نظم ذلك العلامة الأجهوري في بيت مفرد بقوله:
كفر غموسا بلا ماض تكون كذا ... لغوا بمستقبل لا غير فامتثلا اهـ
وجاء في الموسوعة الفقهية: فِي الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى تَمَامِ الْغَمُوسِ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ.
الرَّأْيُ الأوَّل: أَنَّهَا لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَى مَاضٍ أَمْ حَاضِرٍ، وَكُل مَا يَجِبُ إِنَّمَا هُوَ التَّوْبَةُ، وَرَدُّ الْحُقُوقِ إِلَى أَهْلِهَا إِنْ كَانَ هُنَاكَ حُقُوقٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّ فِيهَا الْكَفَّارَةَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُلاَحَظُ أَنَّهُمْ فِي تَعْرِيفِ الْغَمُوسِ خَصُّوهَا بِالْمَاضِي، لَكِنْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِيجَابَ الْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْمَاضِي يَسْتَلْزِمُ إِيجَابَهَا فِي الْحَلِفِ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَل؛ لأِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ كُل مَا عَدَا اللَّغْوَ مَعْقُودٌ.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيل، وَقَدْ أَوْضَحَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِنَاءً عَلَى تَوَسُّعِهِمْ فِي مَعْنَاهَا، فَقَالُوا: مَنْ حَلَفَ عَلَى مَا هُوَ مُتَرَدِّدٌ فِيهِ أَوْ مُعْتَقِدٌ خِلاَفَهُ فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَاضِيًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مُوَافِقًا لِلْوَاقِعِ أَمْ مُخَالِفًا، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلاً وَكَانَ فِي الْحَالَيْنِ مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ.
وَإِلَى التَّفْصِيل ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا، حَيْثُ اقْتَصَرُوا فِي تَعْرِيفِ الْغَمُوسِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَى الْمَاضِي، وَشَرَطُوا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنْ تَكُونَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ فَيُؤْخَذُ مِنْ مَجْمُوعِ كَلاَمِهِمْ أَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الْكَذِبِ عَمْدًا لاَ كَفَّارَةَ فِيهِ إِنْ كَانَ عَلَى مَاضٍ أَوْ حَاضِرٍ، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ. اهــ.
وبناء عليه؛ فالأحوط أن تكفر في هذه الحال، إلا إذا كنت قصدت عند اليمين أنه لا يوجد معك المبلغ الذي طلبه، فأنت صادق، فلا كفارة عليك، ولا إثم.
هذا وننبهك إلى أمرين:
أولهما: الحذر من الكذب عموما، واليمين الكاذبة خصوصا، وعدم التساهل فيها، فإن الكذب من الذنوب العظيمة، والأخلاق الذميمة، وهو من صفات المنافقين التي وصفوا بها في القرآن الكريم، والحديث النبوي، ويعظم إثمه ويزداد بشاعته إذا انضم إليه توكيده بالحلف بالله تعالى، كما قال عز وجل: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {المجادلة:14}.
وثانيهما: التذكير بما شرعه الله تعالى من الإحسان للناس، وإعطاء المحتاجين منهم، والسائلين على حسب الاستطاعة، وردهم عند عدم القدرة بأسلوب حسن، وانظر الفتوى: 132493 .
والله أعلم.