عنوان الفتوى : الحكم الجلية من وقوع النسخ في القرآن الكريم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: لقد رأيت برنامجاً في قناة مسيحية يتحدث عن الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، ويقول ذلك القمص زكريا بطرس أن آيات نزلت على رسولنا الكريم ثم أنساها الله له فلم يعد يذكرها، كما يقول أن سورة التوبة كان بها 200 آية، ويقول كيف يعقل أن ينزل الله آية أو سورة على نبيه ثم ينسيها له، لماذا هل أنزلها الله ثم وجد أنها غير صالحة أم ماذا؟ وهنا أتسأل أنا: هل هذا الأمر صحيح، وإن كان صحيحاً فما الحكمة من ذلك، وهل هو أمر لم تعرف بعد حكمته أم ماذا، ولماذا لا يتعرض علماء المسلمين لهذه القضية، أرجو أن ترسلوا لي الجواب في أقرب وقت ممكن، فأعداء الله لا ينتظرون، وقد يسقط في براثنهم ضعاف الإيمان، وبالمناسبة ذلك البرنامج هو أسئلة عن الإيمان ويقدم بقناة الحياة المسيحية ويقدمه شخص يقول إنه كان مسلماً وأصبح مسيحياً، أو بمعنى أصح ارتد عن الإسلام، أفيدوني أفادكم الله، وانشروا الجواب على الإنترنت ليستفيد منه الجميع؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقبل أن نشرع في الجواب ينبغي التنبيه على أمر مهم وهو أنه يجب على المسلم أن يصون دينه عن الشبهات، فلا يستمع إليها، لأن الشبهة قد تستقر في قلبه ولا يستطيع دفعها لضعف إيمانه أو قلة علمه أو هما معا ، وقد نص العلماء على حرمة النظر في كتب أهل الكتاب لما فيها من التحريف، فكيف بالاستماع لشبهات هؤلاء؟! فهو أشد تحريما وانظر الفتوى رقم: 14742.
وأما الكلام عن الحكمة من نسخ الآيات بعد نزولها فقد سبق في الفتوى رقم: 3715، والفتوى رقم: 13919 ونزيد هنا بعض الكلام الذي لا بد منه.
قال الزرقاني في مناهل العرفان وهو يرد على من أنكر النسخ بحجة أنه يستلزم البداء، قال رحمه الله تعالى: البداء بفتح الباء يطلق في لغة العرب على معنيين متقاربين: أحدهما الظهور بعد الخفاء ومنه قول الله سبحانه: وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ* وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا، ومنه قولهم: بدا لنا سور المدينة.
والآخر نشأة رأي جديد لم يك موجودا، قال في القاموس: وبدا له في الأمر بدواً وبداء وبداة أي نشأ له فيه رأي... ذانك معنيان متقاربان للبداء، وكلاهما مستحيل على الله تعالى لما يلزمهما من سبق الجهل وحدوث العلم، والجهل والحدوث عليه محالان لأن النظر الصحيح في هذا العالم دلنا على أن خالقه ومدبره متصف أزلا وأبداً بالعلم الواسع المطلق المحيط بكل ما كان وما سيكون وما هو كائن، كما هدانا هذا النظر الصحيح إلى أنه تعالى لا يمكن أن يكون حادثا ولا محلا للحوادث وإلا لكان ناقصا يعجز عن أن يبدع هذا الكون ويدبره هذا التدبير المعجز، ذلك إجمال لدليل العقل.
أما أدلة النقل فنصوص فياضة ناطقة بأنه تعالى أحاط بكل شيء علما، وأنه لا تخفى عليه خافية، ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير، وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمت الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتب مبين، الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، إلى غير ذلك من مئات الآيات والأحاديث.
ولكن على رغم هذه البراهين الساطعة من عقلية ونقلية ضل أقوام... وزعموا أن النسخ ضرب من البداء أو مستلزم للبداء... ونسوا أو تناسوا أن الله تعالى حين نسخ بعض أحكامه ببعض... علم أن الحكم الأول المنسوخ منوط بحكمة أو مصلحة تنتهي في وقت معلوم، وعلم بجانب هذا أن الناسخ يجيء في هذا الميقات المعلوم منوطا بحكمة وبمصلحة أخرى، ولا ريب أن الحكم والمصالح تختلف باختلاف الناس وتتجدد بتجدد ظروفهم وأحوالهم، وأن الأحكام وحكمها والعباد ومصالحهم والنواسخ والمنسوخات كانت كلها معلومة لله من قبل، ظاهرة لديه لم يخف شيء منها عليه، والجديد في النسخ إنما هو إظهاره تعالى ما علم لعباده لا ظهور ذلك له، على حد التعبير المعروف شؤون يبديها ولا يبتديها وما كان ربك نسيا.
وقال الزرقاني رحمه الله تعالى: أما حكمته سبحانه في أنه نسخ به الأديان كلها فترجع إلى أن تشريعه أكمل تشريع يفي بحاجات الإنسانية في مرحلتها التي انتهت إليها بعد أن بلغت أشدها واستوت، وبيان ذلك أن النوع الإنساني تقلب كما يتقلب الطفل في أدوار مختلفة، ولكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه غير الحال التي تناسب دورا غيره، فالبشر أول عهدهم بالوجود كانوا كالوليد أول عهده بالوجود سذاجة وبساطة وضعفا وجهالة، ثم أخذوا يتحولون من هذا العهد رويدا رويدا ومروا في هذا التحول أو مرت عليهم أعراض متباينة من ضآلة العقل وعماية الجهل وطيش الشباب وغشم القوة على تفاوت في ذلك بينهم اقتضى وجود شرائع مختلفة لهم تبعا لهذا التفاوت، حتى إذا بلغ العالَم أوان نضجه واستوائه وربطت مدنيته بين أقطاره وشعوبه جاء هذا الدين الحنيف ختاما للأديان ومتمما للشرائع وجامعا لعناصر الحيوية ومصالح الإنسانية ومرونة القواعد جمعا وفق بين مطالب الروح والجسد، وآخى بين العلم والدين، ونظم علاقة الإنسان بالله وبالعالم كله من أفراد وأسر وجماعات وأمم وشعوب وحيوان ونبات وجماد، مما جعله بحق دينا عاما خالدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها...
وأما حكمة الله في أنه نسخ بعض أحكام الإسلام ببعض فترجع إلى سياسة الأمة وتعهدها بما يرقيها ويمحصها.. على مهل متألفة –أي الشريعة- لهم متلطفة في دعوتهم متدرجة بهم إلى الكمال رويدا رويدا، صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئا فشيئا، منتهزة فرصة الإلف والمران والأحداث الجادة عليهم لتسير بهم من الأسهل إلى السهل، ومن السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب حتى تم الأمر ونجح الإسلام نجاحا لم يعرف مثله في سرعته وامتزاج النفوس به ونهضة البشرية بسببه.
تلك الحكمة على هذا الوجه تتجلى فيما إذا كان الحكم الناسخ أصعب من المنسوخ كموقف الإسلام في سموه ونبله من مشكلة الخمر في عرب الجاهلية بالأمس، وقد كانت مشكلة معقدة كل التعقيد يحتسونها بصورة تكاد تكون إجماعية، ويأتونها لا على أنها عادة مجردة بل على أنها أمارة القوة ومظهر الفتوة وعنوان الشهامة. فقل لي بربك هل كان معقولا أن ينجح الإسلام في فطامهم عنها ولو لم يتألفهم ويتلطف!!...
أما الحكمة في نسخ الحكم الأصعب بما هو أسهل منه فالتخفيف على الناس ترفيها عنهم وإظهارا لفضل الله عليهم ورحمته بهم وفي ذلك إغراء لهم على المبالغة في شكره وتمجيده وتحبيب لهم فيه وفي دينه .
وأما الحكمة في نسخ الحكم بمساويه في صعوبته أو سهولته فالابتلاء والاختبار ليظهر المؤمن فيفوز والمنافق فيهلك ليميز الخبيث من الطيب.. انتهى كلامه رحمه الله تعالى، وبذا يتضح لك تهافت دعاوى هؤلاء المبطلين.
وأما نسيان النبي صلى الله عليه وسلم فسبق الكلام عنه في الفتوى رقم: 29478 والفتوى رقم: 37776, وقد ذكر أهل العلم أن سورة الأحزاب كانت مثل سورة البقرة فرفع أكثرها تلاوة وحكما.
والله أعلم.