عنوان الفتوى : تسخّط العبد المطيع لله بسبب ما يحلّ به من مصائب وعدم توفيق

مدة قراءة السؤال : 3 دقائق

السؤال

أرجو أولًا -أيها الكرام- أن تعطوا مجالًا أوسع للفتوى للدول العربية التي يقلّ فيها التدّين؛ لأن هذا الموقع هو الملجأ الوحيد لي؛ لعدم وجود الشيوخ في مجتمعنا، ولديَّ الكثير من الأسئلة والخواطر، وأحبّ أن أعلمكم قبلها أني حفظت القرآن، وكثيرًا من الأحاديث بأسانيدها والمتون، لكني نسيتها.
سؤالي الأول: كلما تقدمت لفتاة رفض أهلها، أحيانًا لعدم وجود دخل، وأحيانًا لأسباب قومية، لكن الوليّ الذي رفض تزويجي مؤخرًا رفضني لأنني متدين، أو لأنني أخضع لمراقبة إدارية -لأني أتصل بمركز الشرطة كل يوم للإمضاء-، وقال: إنه يخاف على ابنته من بطش الحاكم يومًا آخر، ونَعَتَني بانعدام الأخلاق، والله يشهد على طيب أخلاقي، ولا أزكّي نفسي، وقرأت عندكم أنه يمكن الالتجاء إلى وليّ الأمر لتزويجي، فإذا كان ولي الأمر لا يحكم بالشرع، فهل يمكن الالتجاء له في هذه الحالة؟ مع العلم أن بقية أعمامها موافقون، لكن ليس لهم مع أخيهم هذا كلمة؛ لأنه أكبرهم.
السؤال الثاني: أكرمني الله، فأصبحت محاسبًا، وموظفًا حكوميًّا، ثم قمت بعمل مشروعين بالتوازي مع عملي، وأتيت بالمال بأن اشتريت سلعة من المغازات، ثم بعتها اجتنابًا للربا، لكني تعرضت للسجن مرة أخرى بسبب اللحية، فذهب المشروعان، وخسرت فيهما أموالًا طائلة، مع كثرة الديون والهموم، فأصابني التسخّط: لماذا الله يشمت بي الأعداء، ويضيع أملاكي، رغم أنني تركت الربا من أجله، وتركت الغش في المشروعين من أجله، وكنت أتصدق منهما لأجله!؟ فإن كانت ذنوبي هي السالبة لنعمه، فأنا صادق في الالتجاء إليه، لكن المجتمع والفتن والشياطين أقوى من نفسي الضعيفة، حتى الزواج لم ييسره الله لي؛ لكي أغضّ بصري، وأرضيه، مع أنه في الحديث: "حق عليه أن يزوجني"، أفليس الأجدر أن ييسر لي كل المرافق التي تعينني على تقواه!؟
أنا اليوم دون دخل رغم أني أعمل موظفًا؛ لأن راتبي تأخذه المغازات التي تركت الربا وذهبت لها، أليس الأجدر أن يرزقني الله مالًا آخر؛ لأنني تركت الربا من أجله لسداد دَيني؟
وأخيرًا: كلما دعوت الله جاءت الإجابة بالعكس تمامًا، وكلما دعوته بقلبي دون تلفظ، ربما استجاب، فغلب على ظني أنه شيطان الحسد؛ لأنني عانيت منه كثيرًا.
أخيرًا: أنا أقاوم هذه الخواطر السيئة كل يوم لئلا أتلفظ بها؛ لكيلا أكفر، ونجحت نسبيًّا، لكني أخاف أن تؤثر على أفعالي. وشكرًا.

مدة قراءة الإجابة : 6 دقائق

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فنسأل الله تعالى أن يوفّقك لما يحب ويرضى، وأن يجنبك مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يلهمك رشدك، ويقيك شر نفسك.

ثم نذكر الأخ السائل بأن سياسة الموقع ألا يجاب من الأسئلة المتعددة إلا على السؤال الأول فقط؛ وهذا لتتكافأ الفرص بين السائلين، ولتنظيم العمل في فريق الفتوى، ونظرًا لحساسية وضع السائل، فسنجيب عن أسئلته بشيء من الاختصار:

أما سؤالك الأول، فجوابه: أنه ليس للخاطب أن يرفع أمره للقاضي، أو للجهة المختصة عند رفض الولي لخطبته، وإنما الذي يرفع الأمر هو المرأة إذا عضلها وليّها دون عذر شرعي.

أما إذا كان للولي عذر، كالبحث عن الكفاءة المعتبرة، أو مرض الخاطب، أو فقره، أو نحو ذلك مما جرى العرف بمراعاته، فلا يكون عاضلًا، وراجع في ذلك الفتاوى: 97989، 335782، 226894

أما بخصوص السؤال الثاني، فنقول: إن مبنى إشكاله على إحسان الظن بنفسه، وإساءة الظن بربه!

ولو عقل المرء، وأدرك حقائق الأمور؛ لعلم أن العيب ينبغي أن يُعصَب برأسه هو، لا بفعل الله تعالى، فكل ما هو من الله، يوجب شكره، وحسن الثناء عليه، وكل ما هو من العبد، يوجب الاعتذار والاستغفار، كما قال الهروي في منازل السائرين في تحسين الخلق مع الله تعالى: تحسينه مِنْك أَن تعلم أَن كل مَا يَأْتِي مِنْك يُوجب عذرًا، وكل مَا يَأْتِي من الْحق يُوجب شكرًا. اهـ.

قال ابن القيم في شرحه مدارج السالكين: هذه الدرجة مبنية على قاعدتين:

إحداهما: أن تعلم أنك ناقص، وكل ما يأتي من الناقص ناقص، فهو يوجب اعتذاره منه لا محالة؛ فعلى العبد أن يعتذر إلى ربه من كل ما يأتي به من خير وشر: أما الشر: فظاهر. وأما الخير: فيعتذر من نقصانه، ولا يراه صالحا لربه، فهو - مع إحسانه - معتذر في إحسانه؛ ولذلك مدح الله أولياءه بالوجل منه مع إحسانهم بقوله: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} [المؤمنون:60] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو الرجل يصوم، ويتصدق، ويخاف أن لا يقبل منه»، فإذا خاف، فهو بالاعتذار أولى

والحامل له على هذا الاعتذار أمران:

أحدهما: شهود تقصيره ونقصانه.

والثاني: صدق محبته؛ فإن المحب الصادق يتقرب إلى محبوبه بغاية إمكانه، وهو معتذر إليه، مستحي منه أن يواجهه بما واجهه به، وهو يرى أن قدره فوقه وأجلّ منه، وهذا مشاهد في محبة المخلوقين.

القاعدة الثانية: استعظام كل ما يصدر منه سبحانه إليك، والاعتراف بأنه يوجب الشكر عليك، وأنك عاجز عن شكره، ولا يتبين هذا إلا في المحبة الصادقة، فإن المحب يستكثر من محبوبه كل ما يناله ... وإن كان المحب يسره ذكر محبوبه له، وإن ناله بمساءة، كما قال القائل:

لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالكا

فكيف إذا ناله محبوبه بمسرة -وإن دقّت-، فإنه لا يراها إلا جليلة خطيرة، فكيف هذا مع الرب تعالى الذي لا يأتي أبدًا إلا بالخير، ويستحيل خلاف ذلك في حقه، كما يستحيل عليه خلاف كماله! وقد أفصح أعرف الخلق بربه عن هذا بقوله: «والشر ليس إليك»، أي: لا يضاف إليك، ولا ينسب إليك، ولا يصدر منك؛ فإن أسماءه كلها حسنى، وصفاته كلها كمال، وأفعاله كلها فضل، وعدل، وحكمة، ورحمة، ومصلحة، فبأي وجه ينسب الشر إليه سبحانه وتعالى؟ فكل ما يأتي منه، فله عليه الحمد والشكر. وله فيه النعمة والفضل. اهـ.

وهنا ينبغي الانتباه إلى أن العبد، ولو أحسن واتقى، فإن وعود الله الكريمة للمتقين إنما تتحقق بطريقة تتفق مع الحكمة من الخلق، وهي الابتلاء، وقد سبق لنا تفصيل ذلك في الفتوى: 117638.

وأما ما سماه السائل: الدعاء بالقلب، فما هو في الحقيقة إلا استعانة بالله تعالى، ولجوء إليه، وهذه عبادة لها أثرها وفضلها، ولكنها لا تغني عن الدعاء باللسان، ولا تقوم مقامه، والكمال أن يجتمع عمل القلب مع عمل اللسان، فالقلب يتوكل على الله تعالى، ويتعلق بفضل الله ورحمته، ويحسن الظن به، واللسان يلهج بذكره سبحانه، وحسن الثناء عليه، والإلحاح في سؤاله، وراجع في ذلك الفتاوى: 35909، 117527، 289219.

وأما مسألة إجابة الدعاء، فليعلم المسلم أن من حقق شروط الإجابة، وانتفت عنه موانعها، فدعاؤه مستجاب بلا ريب، ولكن ليس معنى ذلك أن يحصل المطلوب بعينه، فإن صور الإجابة متنوعة: فإما أن يعطى ما سأل، وإما أن يصرف عنه من السوء مثله، وإما أن يدّخر له في الآخرة، وراجع في ذلك الفتاوى: 183023، 114947، 123662.

وأما شيطان الحسد الذي ذكره السائل، فراجع فيه الفتوى: 207367.

والله أعلم.