عنوان الفتوى : ما الواجب إذا احتل العدو بلدًا وكان فيهم كفاية في العدد واحتاجوا المال؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

إذا احتل العدو بلدًا من بلاد المسلمين، وكان في أهل البلد المحتل كفاية في عدد المقاتلين، فهل يجب على من جاورهم، وعلى بقية المسلمين أن يجاهدوا بأنفسهم وإن كان الذي يلزم أهل البلد المحتل هو المال، فهل يصير الجهاد بالمال فرض عين على من جاورهم من المسلمين أم فرض كفاية؟

مدة قراءة الإجابة : 7 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإذا احتل الكفار بلدًا من بلاد المسلمين، فالمعتبر في رفع الحرج من وجوب الجهاد على من عداهم من القادرين هو: كفاية أهل هذا البلد، هم ومن جاورهم ممن هو دون مسافة قصر الصلاة، على الأظهر من أقوال العلماء، قال النووي في منهاج الطالبين: من هو دون مسافة قصر من البلدة كأهلها، ومن على المسافة يلزمهم الموافقة بقدر الكفاية إن لم يكف أهلها ومن يليهم، قيل: وإن كفوا. اهـ.

وقال الدَّمِيري في شرحه النجم الوهاج: أشار بقوله: بقدر الكفاية ـ إلى أنه لا يجب على الجميع الخروج، بل إذا صار إليهم قوم فيهم كفاية... سقط الحرج عن الباقين، وقيل: يجب على الجميع الخروج، خوفًا من التواكل، قال: قيل: وإن كَفَوا ـ لعظم الواقعة، والأصح: المنع؛ لأنه يؤدي إلى الإيجاب على جميع الأمة، وفي ذلك حرج من غير حاجة. اهـ.

وقال القاضي زكريا الأنصاري في أسنى المطالب في شرح روض الطالب: ويتعين عليهم بدخول الكفار، فإن دخل الكفار بلاد المسلمين تعين حينئذ على المعذورين، وعلى من دون مسافة القصر، ولو استغني عنهم بغيرهم؛ لتقوى القلوب، وتعظم الشوكة، وتشتد النكاية في الكفار انتقامًا من هجومهم... وحتى على الأبعدين عن البلدة بأن يكونوا بمسافة القصر عند الحاجة إليهم في القتال، بأن لم يكن في أهلها والذين يلونهم كفاية، بخلاف ما إذا كان فيهم كفاية لا يجب على الأبعدين لأنه يؤدي إلى الإيجاب على جميع الأمة، وفي ذلك حرج بغير حاجة، فيصير الجهاد فرض عين في حق من قرب، وفرض كفاية في حق من بعد. اهـ.

وقال في الإنصاف للمرداوي: هذا في أهل الناحية ومن بقربهم، أما البعيد على مسافة القصر: فلا يجب عليه إلا إذا لم يكن دونهم كفاية من المسلمين. اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: إذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب؛ إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة.. ونصوص أحمد صريحة بهذا، وهو خير مما في المختصرات، لكن هل يجب على جميع أهل المكان النفير إذا نفر إليه الكفاية؟ كلام أحمد فيه مختلف. اهـ.

وقال في السياسة الشرعية: إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبًا على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين لإعانتهم، كما قال الله تعالى: وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق... وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه، وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب. اهـ.

وإن كان ما يلزم أهل البلد المحتل هو المال دون الجند، فيلزم القادرين من المسلمين على الجهاد بالمال أن يعينوهم بما يكفيهم حتى يستغنوا، كل حسب طاقته، قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: نحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله قد أوجب إيتاء المال في غير الزكاة المفروضة في مواضع: مثل الجهاد بالمال عند الحاجة. اهـ.

وقال في كتاب الحسبة: العاجز عن الجهاد بنفسه يجب عليه الجهاد بماله في أصح قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فإن الله أمر بالجهاد بالمال والنفس في غير موضع من القرآن، وقد قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ {التغابن: 16}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ـ أخرجاه في الصحيحين، فمن عجز عن الجهاد بالبدن لم يسقط عنه الجهاد بالمال، كما أن من عجز عن الجهاد بالمال لم يسقط عنه الجهاد بالبدن. اهـ.

وقال الجصاص في أحكام القرآن: قوله: وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ـ أوجب فرض الجهاد بالمال والنفس جميعًا، فمن كان له مال وهو مريض، أو مقعد، أو ضعيف لا يصلح للقتال، فعليه الجهاد بماله بأن يعطيه غيره، فيغزو به، كما أن من له قوة وجلد وأمكنه الجهاد بنفسه كان عليه الجهاد بنفسه، وإن لم يكن ذا مال ويسار بعد أن يجد ما يبلغه، ومن قوي على القتال وله مال فعليه الجهاد بالنفس والمال، ومن كان عاجزًا بنفسه معدمًا فعليه الجهاد بالنصح لله ولرسوله.. اهـ.

وقال ابن القيم في زاد المعاد: الجهاد بالمال في وجوبه قولان، والصحيح وجوبه؛ لأن الأمر بالجهاد به، وبالنفس في القرآن سواء. اهـ.

وقال في موضع آخر: وهو الصواب الذي لا ريب فيه، فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيق الأمر بالجهاد بالنفس في القرآن وقرينه، بل جاء مقدمًا على الجهاد بالنفس في كل موضع إلا موضعًا واحدًا، وهذا يدل على أن الجهاد به أهم وآكد من الجهاد بالنفس، ولا ريب أنه أحد الجهادين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من جهز غازيًا فقد غزا ـ فيجب على القادر عليه كما يجب على القادر بالبدن، ولا يتم الجهاد بالبدن إلا ببذله، ولا ينتصر إلا بالعدد والعدد، فإن لم يقدر أن يكثر العدد وجب عليه أن يمد بالمال والعدة. اهـ.

وقال في بدائع الفوائد: والأدلة عليها أكثر من أن تذكر هنا، ومن تأمل أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته في أصحابه وأمرهم بإخراج أموالهم في الجهاد، قطع بصحة هذا القول. اهـ.

وقال في عدة الصابرين: وربما كان الجهاد بالمال أنكى وأنفع، وبأي شيء فضّل عثمان على علي، وعليٌّ أكثر جهادًا بنفسه، وأسبق إسلامًا من عثمان. اهـ.

وقال ابن باز في فتاويه: الجهاد بالمال له شأن عظيم، فهو أوسع أنواع الجهاد؛ لأن المال يستعان به على استخدام الرجال، واستخدام السلاح، واستخدام الدعاة، فالمال أوسعها، وأكثرها نفعًا؛ ولهذا بدأ به الله في الآيات قبل النفس في أغلب الآيات... فالجهاد بالمال جهاد عظيم ينفع المجاهدين، ويعينهم على عدوهم، بصرفه في استخدام المجاهدين، وتجهيزهم، وتفريغهم للجهاد، والإحسان إلى عوائلهم، ويصرف أيضًا في شراء السلاح الذي يجاهد به، ويصرف أيضًا في حاجتهم من اللباس، والطعام، والخيام، وغير ذلك، ومصالحه كثيرة؛ ولهذا بدأ الله به في أغلب الآيات، كما في قوله سبحانه: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. اهـ.

وسئل ابن عثيمين: نجد أن الله عزَ وجل في كثير من آيات الجهاد يقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، فما الحكمة من ذلك؟

فأجاب بقوله: لأن الجيش الإسلامي قد يحتاج إلى المال أكثر من حاجته إلى الرجال، ولأن الجهاد بالمال أيسر من الجهاد بالنفس. اهـ. 

والله أعلم.