عنوان الفتوى : رجل أعطى آخر مالا ليستثمره له فاشترى به بضاعة للرجل ثم اشتراها منه بربح ليبيعها

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

والدي تاجر، وقد أعطاه أحدهم مبلغا من المال ليستثمره له، وقد تصرف والدي فيه، فاشترى بالمبلغ بضاعة للرجل، ووضعها في دكانه، ثم اشتراها منه بربح معقول، ثم أصبح يبيعها للناس بربح آخر حسب الظروف، على فترة من الزمن حسب انتهاء البضاعة. ويريد أن يعرف هل ما يقوم به صحيح أم لا؟ علما بأن الرجل لا يمانع في أي طريقة يتبعها والدي في الاستثمار، وقد قاس والدي ما يفعله على ما تفعله البنوك الإسلامية، ولكنه يريد أن يعرف هل قياسه صحيح. وإن كان غير صحيح فما هو الصحيح؟

مدة قراءة الإجابة : 9 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 فلعل أقرب المعاملات المصرفية شبها بما فعله والدك، هو ما يسمى بالمرابحة العكسية، وصورتها أن يسلم العميل البنك مالا، ويوكله بشراء سلعة له، ثم يشتريها البنك من العميل نسيئة بأكثر من النقد. وهو منتج مصرفي لبعض البنوك الإسلامية، لم ‏يلق قبولا لدى كثير من العلماء المعاصرين؛ لما فيه من شبه بالعينة، والتورق المنظم كما أوضح ذلك قرار مجلس المجمع الفقهي ‏الإسلامي برابطة العالم الإسلامي. هذا من حيث الشبه بين الصورتين: المرابحة العكسية، والمعاملة المسؤول عنها.

غير أن عدم الاتفاق المسبق بين والدك وصاحبه في الصورة المسؤول عنها، يمنع من جريان أحكام المرابحة العكسية عليها، وإنما تجري عليها أحكام وشروط الشركة ‏والمضاربة، وما ذكرته في معاملة والدك مع صاحب المال يحتمل أن تكون مضاربة محضة، ويحتمل أن تكون شركة ومضاربة. فإذا أراد والدك أن يجعلها مضاربة محضة؛ لأن المالك دفع إليه نقودا، فيضارب بها في بضاعة متميزة عن بضاعته ولا يخلط البضاعتين، مع الاتفاق على نسبة الربح في هذه البضاعة الخاصة بالمستثمر، ‏فإن أبى إلا أن تكون شركة رأس مالها بضاعته في الدكان، وما دفع المستثمر، فلا بد أن يقيّم سعر ‏بضاعته بيومها قبل الدخول في الشركة؛ وانظري الفتوى رقم: ‏‎129942‎‏.‏
‏ويشترط أن يحصل الاتفاق على نسبة محددة لكل منهما من الأرباح.‏
قال الموفق في المغني: (والحكم في الشركة كالحكم في المضاربة، في وجوب معرفة قدر ما لكل واحد منهما من الربح، إلا ‏أنهما إذا أطلقاها ولم يذكرا الربح، كان بينهما على قدر المالين).‏ وعلى أن لا تقل نسبة التاجر (العامل) من الأرباح عن نسبته في رأس المال على المختار.‏
‏ قال الموفق في المغني: وأما المضاربة التي فيها شركة وهي أن يشترك مالان، وبدن صاحب أحدهما، مثل أن يخرج كل واحد ‏منهما ألفا، ويأذن أحدهما للآخر في التجارة بهما، فمهما شرطا للعامل من الربح إذا زاد على النصف، جاز؛ لأنه مضارب ‏لصاحبه في ألف، ولعامل المضاربة ما اتفقا عليه بغير خلاف. وإن شرطا له دون نصف الربح، لم يجز؛ لأن الربح يستحق بمال ‏وعمل، وهذا الجزء الزائد على النصف المشروط لغير العامل لا مقابل له، فبطل شرطه.

ثم فصل -رحمه الله- الكلام لو كانت نسبة ‏أرباحهما على قدر حصتهما من رأس المال، فأجازه إن لم تكن حصة العامل قرضا من شريكه.‏
‏ويشترط إذن صاحب المال للتاجر في بيع البضاعة نسيئة لنفسه بأقل من سعرها في السوق؛‏ لأن الشركة والمضاربة قائمتان على الوكالة والأمانة، والجمهور على اشتراط إذن المالك الصريح للتاجر العامل في هذه المعاملة؛ ‏لما فيها من مخاطرة بمال الشركة؛ لأن الثمن مؤجل؛ ولما فيها من محاباة للنفس في السعر، وبأقل من سعر السوق بدليل أنه ‏سيستربح ببيعها لاحقا؛ كما صرح في السؤال. ‏
قال الموفق في المغني: وشركة العنان مبنية على الوكالة والأمانة؛ لأن كل واحد منهما يدفع المال إلى صاحبه أمنة، وبإذنه له في ‏التصرف وكله. ومن شرط صحتها أن يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف.

وقال في النسيئة: المضارب ‏وغيره من الشركاء، إذا نص له على التصرف، فقال: نقدا أو نسيئة أو قال: بنقد البلد. أو ذكر نقدا غيره، جاز، ولم تجز مخالفته؛ ‏لأنه متصرف بالإذن، فلا يتصرف في غير ما أذن له فيه، كالوكيل، ولأن ذلك لا يمنع مقصود المضاربة. وقد يطلب بذلك الفائدة ‏في العادة. وإن أطلق، فلا خلاف في جواز البيع حالا، وفي البيع نسيئة روايتان: إحداهما، ليس له ذلك. وهو قول مالك، وابن أبي ‏ليلى والشافعي؛ لأنه نائب في البيع، فلم يجز له البيع نسيئة بغير إذن صريح فيه، كالوكيل، وذلك لأن النائب لا يجوز له التصرف ‏إلا على وجه الحظ والاحتياط، وفي النسيئة تغرير بالمال، وقرينة الحال تقيد مطلق الكلام، فيصير كأنه قال: بعه حالا.

وقد بينا ‏الخلاف في بيع مال المضاربة دينا، ورجحنا المنع بغير إذن المالك في الفتوى رقم: 52067.

وقال- رحمه الله- في البيع بأقل من ثمن ‏المثل: (وحكم المضارب حكم الوكيل، في أنه ليس له أن يبيع بأقل من ثمن المثل، ولا يشتري بأكثر منه، مما لا يتغابن الناس ‏بمثله)

لأن التاجر بالنسبة لحصة المالك في هذه المعاملة، بمثابة المضاربة وإن لم تكن مضاربة محضة، فإذا لم يأذن له المالك بذلك فقد خان شريكه؛ لأنه استربح بماله لحظ نفسه دون شريكه. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: إن الله يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خانه خرجت من بينهما. ومعنى: خرجت من بينهما: أي أزلت البركة والعناية بهما في شراكتهما. وللمزيد في ذلك تنظر الفتوى رقم: 139358 .
وأما في البيع من نفسه لنفسه؛ فقد قال الموفق في المغني على الخرقي ممزوجين: من وُكّل في بيع شيء، لم يجز له أن يشتريه من ‏نفسه، في إحدى الروايتين. نقلها. مهنا. وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي.

والشريك والمضارب وكيلان -كما تقدم- فالأصل الاستئذان في ذلك وإلا كان التاجر ضامنا.‏
‏ويشترط في الشركة أن تكون الخسارة على قدر حصة كل من الشريكين في رأس مال الشركة .‏
قال الموفق في المغنى على مختصر الخرقي ممزوجين: (والوضيعة على قدر المال) . يعني الخسران في الشركة على كل ‏واحد منهما بقدر ماله، فإن كان مالهما متساويا في القدر، فالخسران بينهما نصفين، وإن كان أثلاثا، فالوضيعة أثلاثا. لا نعلم في ‏هذا خلافا بين أهل العلم. وبه يقول أبو حنيفة، والشافعي وغيرهما.‏
‏ويشترط في الشركة أيضا ألا يشترط أحدهما لنفسه مبلغا معلوما.‏
قال الموفق في المغني على مختصر الخرقي ممزوجين: (ولا يجوز أن يجعل لأحد من الشركاء فضل دراهم) وجملته أنه متى ‏جعل نصيب أحد الشركاء دراهم معلومة، أو جعل مع نصيبه دراهم، مثل أن يشترط لنفسه جزءا وعشرة دراهم، بطلت الشركة.‏

فإذا روعيت هذه الشروط، صحت المعاملة إن شاء الله.

والله أعلم.