عنوان الفتوى : الحكمة من وجود شهوة النكاح في الإنسان
لدي مشكلة عقدية أخفيتها لسنوات، لكنني أدركت أنها تتفاقم وستأتي على بنيان العقيدة كاملا إن لم تعالج، فلدي نفس تعشق الكمال وأحب أن أراه في العقيدة التي أعتنقها، لكنني عندما كبرت وعرفت حقيقة شهوة الإنسان أصبت بخيبة أمل وصارت أسئلة كبيرة تلح علي ولا أجد لها جوابا: 1ـ لماذا خلق الله تلك الشهوة لدى الإنسان مع قدرة الخالق العظيمة على جعل استمرار النسل يتم بطريقة تحفظ تكريمه ولا تحط من شأنه إلى درك الحيوان؟. 2ـ لماذا يأمر الله الإنسان بمجاهدة شهوته وينهاه عن المعاصي التي يرتكبها بدافع الشهوة التي ابتلي بها ثم يعده ثوابا في الجنة بأن يمتعه بما نهاه عنه بآيات تتلى في المساجد على الملأ ـ سورة الرحمن؟. 3ـ كيف ينهى الإسلام عن الزنا ثم يبيح للرجل معاشرة الإماء والسراري بأي عدد ودون زواج؟. أرجوكم أريد إجابات تشفي قلبي المكلوم ولكم عند الله الأجر والثواب لإنقاذ عقيدة مؤمن تتداعى.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الإيمان بالله عز وجل يقتضي التسليم لقضاء الله الكوني وأمره الشرعي الديني، وإن لم تظهر حكمتها للعباد، فالله عز وجل لا يُسأل عما يخلق سبحانه، كما قال: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {الأنبياء:23}.
والعباد وإن ظهرت لهم بعض الحكم في خلق الله وأمره إلا أنهم لا يحيطون بحكمة الله عز وجل في ذلك، كما قال سبحانه عن نفسه: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا {طه:110}.
والتعمق في الأسئلة والشبه حول الحكمة من قدر الله وشرعه قد يودي بإيمان العبد، قال الإمام الطحاوي: وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرج الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا أو فكرا أو وسوسة، فإنه تعالى طوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه، كما قال عز وجل: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ـ فمن سأل لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين. اهـ.
قال ابن أبي العز الحنفي في شرحه: اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك، كما في الإنجيل: يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا، ولهذا كان سلف هذه الأمة، التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلوما لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم، فأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأمورا، بحيث لا يتوقف الإتيان به على معرفة حكمته، فإن ظهرت له فعله، وإلا عطله، فإن هذا ينافي الانقياد، ويقدح في الامتثال. اهـ
قال القرطبي ناقلا عن ابن عبد البر: فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العي السؤال، ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم، فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره. اهـ.
فأعظم علاج للشبهات في الاعتقاد هو إلجام النفس بالتسليم لله والخضوع له، ثم بعد ذلك يسأل العبد عما يعرض له من شبه سؤال استفهام واستعلام ليشفي قلبه، ولا يسأل سؤال معاندة ومكابرة، مع اعتقاده الجازم أن لله عز وجل الحكمة البالغة فيما يخلق ويأمر وإن لم يجد إجابة تقنعه عن أسئلته وشبهاته، ولا يجعل إيمانه بحكم الله مشترطا بوقوفه على جواب مقنع له عن شبهه، ولخلق الشهوة في بني آدم حكم عظيمة، منها: ابتلاء العباد وامتحانهم، هل يتبعون هذه الشهوة في معصية الله، أم يطيعون الله عز وجل ولا يضعون هذه الشهوة إلا فيما أحل الله؟ ومنها: بقاء جنس الإنسان وتكاثره، فلو لم تركب هذه الشهوة لما حرص الناس على التناسل، قال ابن القيم في شأن آدم وحواء: ثم لما أراد الله سبحانه أن يذرّ نسلهما في الأرض ويكثره وضع فيهما حرارة الشهوة ونار الشوق والطلب وألهم كلا منهما اجتماعه بصاحبه فاجتمعا على أمر قد قدر. اهـ.
ومنها: أن تركيب الشهوة هو من مقتضى البشرية، فلو لم تركب فيها الشهوة لما كان إنسانا، بل كان خلقا آخر، قال ابن القيم: والمقصود أن تركيب الإنسان على هذا الوجه هو غاية الحكمة ولا بد أن يقتضي كل واحد من القوتين أثره فلا بد من وقوع الذنب والمخالفات والمعاصي، فلابد من ترتب آثار هاتين القوتين عليهما، ولو لم يخلقا في الإنسان لم يكن إنسانا بل كان ملكا. اهـ.
ومنها: إظهار نقص الإنسان، فيقوده تذكر أصله إلى البعد عن الكبر والتعالي، فعن محمد بن عبد الله بن سعيد المهراني قال: سمعت رجلا من أهل العلم يقول بلغ مصعب بن الزبير عن رجل من أهل البصرة كبر، فقال مصعب: العجب من ابن آدم كيف يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين؟ ـ قال الأحنف بن قيس: عجبت لمن يجري في مجرى البول مرتين كيف يتكبر؟ رواهما ابن عساكر في تاريخ دمشق.
وأما الجزئية الثانية: فلا ندري ما هو الشيء الذي نهى الله العباد عنه وذكره من نعيم الجنة في سورة الرحمن؟ وإن كنت تقصد قوله تعالى: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ {الرحمن:56}.
وقوله تعالى: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ {الرحمن:70ـ 74}.
فأي إشكال في هذا؟ فالله عز وجل قد أباح الزواج في الدنيا، وجعل من نعيم أهل الجنة تزويجهم بالحور العين، ولا يرد هذا السؤال إلا على من جعل الزواج مثل الزنا، ولا يقول بهذا عاقل.
وأما الجزئية الثالثة من السؤال: فلا ندري ما الرابط بين الزنا وبين ما أباحه الله من إتيان المرء لما ملكت يمينه؟ وما مثل هذا القول إلا قول المشركين: إنما البيع مثل الربا ـ وقد فصلنا الجواب عن الشبهات حول إباحة إتيان ملك اليمين في فتاوى كثيرة، منها الفتاوى التالية أرقامها: 4341، 12210، 111305، 225088.
والله أعلم.