عنوان الفتوى : الخروج على السلطان بين المصالح والمفاسد
لو قلنا: إن سلطة ولي الأمر المسلم مطلقة - والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة - وإن جار وقتل وهتك, فطالما أنه يصلي بالمسلمين فلا يجوز الخروج عليه, ودون اكتراث لتحقيق العدل بين مواطني الدولة المسلمين والحكومة, فكيف يستقيم أن يكون ذلك وحيًا من السماء؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاستقراء أحداث التاريخ, ومتابعة أحوال الواقع يجتمعان في الدلالة على أن الناس قد يسعون في إزالة منكر, أو رفع ظلم, أو محاربة فساد، فيتوسلون لذلك بما تزيد به المنكرات، وتعظم به المظالم، ويشتد به الفساد، وهذا من جملة ما استدل به أهل العلم على منع الخروج على الإمام المسلم وإن جار وظلم، قال الدكتور عبد الله الدميجي في رسالته العلمية الإمامة العظمى: لا شك أن الضرر في الصبر على جور الحكام أقل منه في الخروج عليهم؛ لما يؤدي إليه من الهرج والمرج، فقد يرتكب في فوضى ساعة من المظالم ما لا يرتكب في جور سنين, قال ابن تيمية: "وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر، أعظم مما تولد من الخير" فلا يهدم أصل المصلحة شغفًا بمزاياها، كالذي يبني قصرًا ويهدم مصرًا. وذكر ابن الأزرق في معرض استدلاله أن جور الإمام لا يسقط وجوب الطاعة قال: "الثاني: دلالة وجوب درء أعظم المفاسد عليه، إذا لا خفاء أن مفسدة عصيانه تربو على مفسدة إعانته بالطاعة له، كما قالوا في الجهاد معه، ومن ثَمَّ قيل: عصيان الأئمة هدم أركان الملة" ... وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الحكمة التي راعاها الشارع في النهي عن الخروج على الأمراء وندب إلى ترك القتال في الفتنة لما في المقاتلة من قتل للنفوس بلا حصول للمصلحة المطلوبة، قال: "وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بالحرة وبدير الجماجم على يزيد, والحجاج, وغيرهما ... لكن إذا لم يزل المنكر إلا بما هو أنكر منه صارت إزالته على هذا الوجه منكرًا، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف، كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرًا، وبهذا الوجه صارت الخوارج يستحلون السيف على أهل القبلة حتى قاتلت عليًا - رضي الله تعالى عنه - وغيره من المسلمين، وكذلك من وافقهم في الخروج على الأئمة بالسيف في الجملة من المعتزلة والزيدية والفقهاء وغيرهم", ويقرر تلميذه ابن القيم - رحمهما الله - هذه المسألة فيقول: "إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره, وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لا، ما أقاموا الصلاة»، وقال: «ومن رأى من أميره ما يكرهه فليصبر, ولا ينزعن يدًا من طاعة» ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل, وعدم الصبر على منكره، فطلب إزالته فتولَّد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت وردِّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام, وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه ـ .. إلى أن قال ـ : فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقلّ وإن لم يُزل بجملته.
الثالثة: أن يتساويا.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: اعتبر الفقهاء - من حيث الجملة - قيد عدم وقوع الفتنة عند عزل الإمام، فإذا فسق الإمام أو ظلم وجار استحق العزل إن لم يترتب على عزله فتنة، فإن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - صلوا خلف أئمة الجور, وقبلوا الولاية عنهم، وهذا عندهم للضرورة وخشية الفتنة، فإن أدى خلعه إلى فتنة احتمل أدنى المضرتين من جوره وظلمه, أو خلعه وعزله، فإذا قام عليه إمام عدل فيجوز الخروج عليه, وإعانة ذلك القائم. اهـ.
ومما سبق يتبين أن النهي عن الخروج على الإمام المسلم ليس إقرارًا للظلم، ولا رضى بالفسق، وإنما هو من باب احتمال أدني المفسدتين عند عدم القدرة على رفعهما معًا, وراجع لمزيد الفائدة عن هذا المعنى الفتوى رقم: 194295, وراجع إجابتنا في سؤالك السابق في الفتوى رقم: 216631.
ثم ننبه على أن السلطة المطلقة التي صدر بها السائل كلامه، ليس لها مكان في شريعة الإسلام، التي جاءت لتحكم على الحاكم والمحكوم معًا، فهي بمثابة ما يعرف اليوم بالدستور، الذي يلزم الجميع ـ رؤساء ومرؤوسين ـ الخضوع له, والسيادة في الإسلام لله وحده، والسلطة إنما تُمنح لمن يقوم بهذه الشريعة بقدر قيامه بها، فلا طاعة لأحد في معصية الله تعالى، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف. رواه البخاري ومسلم, واللفظ له, وقال صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لمن عصى الله. رواه ابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني.
ثم إن للإمامة العظمى في الشريعة شروطًا لا بد من توفرها، وقد سبق لنا بيانها في الفتوى رقم: 8696.
والله أعلم.