عنوان الفتوى : القول علماء أهل السنة في الحركة والانتقال ونزول الله
كنت مطمئنًا للعقيدة السلفية إلى أن ناقشت أحد الأشاعرة, وأدخلوني في بحر الشبهات, فأتاني بنصوص لعلمائنا يناقضون فيه ما علمونا إياه من إثبات ما أثبته الله لنفسه فقط, وأنه سبحانه لا يلزمه من الصفة لوازمها عند البشر, فمثلًا كنا نؤمن أن الله ينزل نزولًا يليق به, ولا يحتاج إلى ما يحتاجه البشر من حركة وانتقال وخلو العرش منه, فأتى لي بنص للعلامة ابن عثيمين من كتاب إزالة الستار عن الجواب المختار لهداية المحتار, يقول فيه ابن عثيمين: (وهذه النصوص في إثبات الفعل والمجيء والاستواء والنزول إلى السماء الدنيا إن كانت تستلزم الحركة لله, فالحركة له حق ثابت بمقتضى هذه النصوص ولوازمها وإن كنا لا نعقل كيفية هذه الحركة) والأشاعرة يؤولون الصفة؛ لأنهم يقيسونها على المخلوقين, فيقولون: بما أن النزول يقتضي الحركة, والحركة غير جائزة في حق الله, فهذه الصفة إذن ليست على ظاهرها, ونرد عليهم نحن ونقول: الحركة لازم للنزول عند البشر, ولكن الله لا يلزمه شيء, وليس بحاجة إلى شيء, فنثبت أنه ينزل كيفما يشاء, فلماذا أثبت ابن عثيمين الحركة؟ ولماذا لم يقل هذا لفظ مبتدع لا نثبته ولا ننكره, ونثبت صفة النزول كما جاءت بلا كيف؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فطريقة الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في هذا الباب هي طريقة علماء أهل السنة والجماعة، وهي طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وذلك أننا نؤمن بما وصف الله به نفسه, وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف, ولا تمثيل, ومن غير تحريف, ولا تعطيل. وصفات الله التي أخبر بها عن نفسه حق على حقيقتها، ولا يشبه شيء منها صفات المخلوقين؛ لأن الرب لا تشبه ذاته ذوات المخلوقين, فهو سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته, ولا في صفاته, ولا في أفعاله.
وأما من ينفون بعض الصفات لاستلزامها ما يزعمون أنها لوازم باطلة, فإن الجواب عنهم يكون بنفي اللزوم، فنقول: لا نسلم أن هذه اللوازم تلزم من أثبت هذه الصفات، ثم نتنزل معهم في الخطاب فنقول: على فرض لزومها فهي ليست لازمة لنا, وإنما تلزم من تكلم بهذه الصفة ونطق بها، فإن كان لازم هذه الصفة ما ذكر حقًّا فنحن نلتزمه؛ لأن لازم الحق حق، ونقول في كل ما كان مجملًا من العبارات لم ينطق به الكتاب ولا السنة - كالتحيز والحركة والانتقال والجسم وما إلى ذلك -: نحن لا نثبت هذا اللفظ ولا ننفيه؛ لأن الكتاب والسنة لم يأت بإثباته ولا نفيه, وإنما نستفصل من أطلقه: فإن أراد به معنى حقًّا فهو حق, وإن أراد معنى باطلًا فهو باطل، فمن تصور من النزول حركة مشبهة لحركة المخلوقين فنقول له: كلامك هذا باطل قطعًا, بل هو نزول لائق بالرب تبارك وتعالى, لا يشبه نزول أحد من خلقه، فليس فيما ذكرته ما يستنكر أصلًا, وليس فيما ذكرته إثبات من الشيخ للفظ الحركة، بل هو يقول: لو فرض كون هذا لازمًا فهو لا يلزمني أنا, وإنما يلزم من تكلم بهذه الصفة، فإن كان هذا اللازم حقًّا فأنا ألتزم به؛ لأن لازم الحق حق, وإن لم يكن حقًّا فلا تلزمني ما لا يلزم، ومن كلام الشيخ الذي يوضح لك مقصوده فيما نقلت عنه قوله: وأما قولكم: إنه يلزم من تفسير الاستواء بالعلو أن يكون الله جسمًا, فجوابه: كل شيء يلزم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو حق، ويجب علينا أن نلتزم به، ولكن الشأن كل الشأن أن يكون هذا من لازم كلام الله ورسوله؛ لأنه قد يمنع أن يكون لازمًا، فإذا ثبت أنه لازم، فليكن، ولا حرج علينا إذا قلنا به. انتهى من شرحه على الواسطية.
وراجع تقريب الشيخ للتدمرية ففيها ما يزيل عنك اللبس والإشكال - إن شاء الله - وما ذكرناه هنا مجملًا قد بسطناه في فتاوى كثيرة, وبينا ما يجب اعتماده في هذا الباب, وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 120182، 179011، 173177، وغيرها من الفتاوى كثير.
فالزم ما كان عليه السلف - رحمهم الله - في هذا الباب, ففيه النجاة والعصمة، وإن كانت بضاعتك في العلم مزجاة فلا تفتح على نفسك أبواب الشكوك والشبهات, ولا تسمح لأحد أن يلقي في قلبك أمثال هذه الإيرادات الباطلة, أو أن يشككك في عقيدتك النقية الصافية الموروثة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصدر هذه الأمة الطيب، وإياك والجدال والمراء في هذا الباب, فإنه مدرجة للشر, ومبعدة عن الصواب والسداد، هدانا الله وإياك لأرشد امرنا.
والله أعلم.