عنوان الفتوى : البيع بالتقسيط بين المبيحين والمانعين
أعلم أن وقتكم ضيق لذلك سأحاول ألا أطيل عليكم وجزاكم الله خيرا: أنا في حيرة من أمري فيما يتعلق بالبيع بالتقسيط مقابل منفعة فقد عم هذا البيع وانتشر لدرجة يطغى فيها على البيع نقدا بتعريفه الذي نعرفه جميعا، وأجده مباحا حتى أصبح جزءا من الدين وليس لأحد أن ينفيه، كنت غير مرتاح لهذا النوع من البيع حتى سمعت رأي الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في هذا النوع من البيع وبالأدلة الشرعية بأنه معاملة ربوية صريحة وتحايل على شرع الله، منها أنه رحمه الله قاسه على زواج المحلل، فهذا النوع من الزواج تتوفر فيه الشروط والأركان كافة من ولي وشهود وموافقة ولكن الهدف منه تحليل الحرام لذلك حرم ولعن فاعله، فبيع المرابحة للبنوك قائم على هذا الأساس ففيه أركان وشروط البيع كاملة من تراض وامتلاك للسلعة وغيرها لكن الذي اختلف أنهم يريدون بنيتهم تحليل عملية القرض المحرم ونعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات ـ ويرجع أيضا دليل التحريم إلى الحديثين المعروفين بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع بيعتين في بيعة معتمدا على تفسير راوي الحديث لمعنى بيعتين في بيعة، وهو الرأي المعتمد كما تعلمون، كذلك نجد أن هذا النوع من البيع طغى على القرض الحسن الذي حث عليه صلى الله عليه وسلم، فأين التراحم بين المسلمين؟ فنظرة إلى ميسرة، وطلب ما عند الله من البيع بالتقسيط مقابل زيادة في الثمن، ويقول الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ إن بيع التقسيط هذا دخل إلينا بسبب الاستعمار أذكر وأنا في الجامعة أنني درست مادة تعنى بالقروض ـ باللغة الانجليزية ـ نجد أنهم يؤمنون بأن هناك قيمة زمنية للنقود، أي يجب أن يكون هناك مقابل لتأخير سداد القرض، وهو الربا بمصطلحاتنا نحن المسلمون، وهذا الأصل نجده أيضا في بيع التقسيط حيث يتقاضى المسلم من المسلم أجرا مقابل الصبر عليه وتنازل بذلك عن الأجر الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بأن قرض درهمين صدقة درهم فالأمر في غاية الخطورة، فإن صح قول الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ فقد عمت البلوى والمصيبة، حيث إنه كما تعلمون فضيلتكم أن دخول المسلم في كبيرة من أعظم المصائب، ولكن استحلال الحرام واستحلال الكبائر أعظم ـ والعياذ بالله ـ وقد ذكر الشيخ رحمه الله في أحد تسجيلاته في إطار حديثه عن هذا الموضوع قصة أصحاب السبت وكيف مسخهم الله بسبب تحايلهم على شرعه، فهم كما تعلمون لم يصطادوا يوم السبت ولكن تحايلوا على شرع الله تحايلا قد يقبله الكثير منا في هذه الأيام، الحلول التي وضعت بالنص القرآني: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {البقرة:280}هي: 1ـ الصبر على المقترض إن تأخر. 2ـ التصدق والمسامحة. ولو كان هناك عوض مادي أو دنيوي على هذا الصبر أو حتى حل غير هذا الحل لذكره الله تعالى أو أشير إليه في الآية الكريمة، لأنها آية كاملة تعالج هذا الموضوع وهي تتضمن أمرا إلهيا للدائن بالصبر على الذي عليه دين إن كان لا يستطيع السداد ـ وهو واجب على الدائن كما يقول ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ وليس جدولة هذه الديون والقروض بفوائد ومنافع تزداد بازدياد مدة السداد، فليس الحل أن نستغل فقر أخينا المسلم وحاجته إلى السلعة لرفع الثمن عليه، فالذي يلجأ إلى الأقساط عادة هو الشخص الذي لا يستطيع شراء السلعة وهو محتاج لها، فهل شرع الله تعالى يعطينا الحق باستغلال حاجة بعضنا البعض ورفع أسعار السلع على الفقير حتى تأخذ قيما غير قيمتها الحقيقية والعمل على إغراق الفقير بالديون والتربح عليه بسبب فقره أي العمل على إفقاره، فنجد أن الغني الذي يشتري نقدا يحصل على السلعة بسعر أقل من الفقير بسبب هذا النوع من البيع، والنصوص وقواعد الشرع تأمرنا برحمة الفقير ومساعدته ولا تأمرنا بإغراقه بالدين واستغلاله واستغلال حاجته، وتجد جميع من يتعامل بهذا البيع وعلى رأسهم البنوك المسماة إسلامية يعطون خيارات للسداد على سنة أو سنتين أو أكثر وكلما ازدادت مدة السداد ازدادت القيمة المضافة التي تسمى ربحا، والشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ رفض هذه التسمية حيث قال إن هذا هو الربا بعينه، فكأنهم يقولون كلما ازددت فقرا وقلت قدرتك على السداد زدنا عليك سعر السلعة أو سداد القرض وهو حال المرابي، وحجة المرابي كذلك في أكله للربا أن هذا تعطيل لماله ولابد له من ثمن، وهذه هي حجة من يبيع بالقسط مقابل منفعة مادية وأخيرا نشكركم على قراءتكم لما كتبت وسعة صدركم، وأنا والحمد لله لم أدخل في مثل هذه البيوع ولن أدخلها ـ بإذن الله تعالى ـ ولكنني أريد حجة أنصح بها من حولي فلا أكاد أجد إلا قلة لم يدخلوا هذا البيع، وأنا لا أفتي ولست أهلا لذلك ولا أتجرأ على ذلك، وجزاكم الله خيرا ووفقكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أن عامة الفقهاء على جواز البيع بزيادة في الثمن الآجل عن الثمن الحال ولم يخالف في ذلك إلا قلة قليلة، والمذاهب الأربعة على جواز ذلك وإليك بعض أقوالهم:
المذهب الحنفي: الثمن قد يزاد لمكان الأجل. بدائع الصنائع: 5 ـ187 .
المذهب المالكي: جَعل للزمان مقدار من الثمن. بداية المجتهد: 2 ـ108 .
المذهب الشافعي: الخمسة نقداً تساوي ستة نسيئة. الوجيز للغزالي: 1 ـ 85 .
المذهب الحنبلي: الأجل يأخذ قسطاً من الثمن. فتاوى ابن تيمية: 29 ـ 499 .
وسئل الشيخ ابن باز عن حكم الزيادة في الثمن مقابل الأجل فقال: إن هذه المعاملة لا بأس بها، لأن بيع النقد غير التأجيل ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة وهو كالإجماع منهم على جوازها، وقد شذ بعض أهل العلم فمنع الزيادة لأجل الأجل وظن ذلك من الربا وهو قول لا وجه له وليس من الربا في شيء، لأن التاجر حين باع السلعة إلى أجل إنما وافق على التأجيل من أجل انتفاعه بالزيادة والمشتري إنما رضي بالزيادة من أجل المهلة وعجزه عن تسليم الثمن نقداً، فكلاهما منتفع بهذه المعاملة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز ذلك وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أن يجهز جيشاً فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل، ثم هذه المعاملة تدخل في عموم قول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ {البقرة:282} وهذه المعاملة من المداينات الجائزة الداخلة في الآية المذكورة وهي من جنس معاملة بيع السلم... اهـ.
وأما ما ذكرته من التحايل المحرم في الشرع: فهذا صحيح في عمومه، غير أنه لا ينطبق على ما نحن فيه، إذ ليس في الشرع ما يقتضي تحريم بيع السلعة إلى أجل بثمن أكثر من ثمنها نقدا، بل قواعد الشرع المحققة للمصالح تقتضي ذلك، عكس ما في نكاح المحلل، إذ قد تواردت نصوص السنة بتحريمه، وما ذكرته من بيعتين في بيعة على مقتضى تفسير الراوي يناقش بعدم تسليم أن سماك ـ رحمه الله ـ أراد المنع من المسألة محل البحث، إذ يحتمل أنه أراد المنع من أن يتفرق المتعاقدان قبل الجزم بأحد الثمنين، وهذا متفق على منعه، ومادام الاحتمال وارداً، فإن الاستشهاد بكلامه على المنع من هذه المسألة غير مسلم، وما ذكرته من فوات القرض بهذ البيع إلا أن هذا أيضا ليس مقتضيا للتحريم، إذ القرض إنما شرع استحبابا لا وجوبا على وجه الإرفاق، فلا يكون فواته علة للتحريم.
والله أعلم.