عنوان الفتوى : لذة المعصية تعقبها حسرة وندامة

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

ما رأيك فيما يدعيه بعض من يتعاطي المسكرات والمخدرات أنه يحس بالسعادة عند استعماله لهذه المسكرات والمخدرات؟

مدة قراءة الإجابة : 6 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: 

فلا شك في أن العاصي قد يجد لذة بفعل المعصية، ولكن هذه اللذة وتلك السعادة التي يشعر بها سرعان ما تزول وتبقى تبعة الذنب وحسرته، فالعاقل اللبيب يفكر في مرارة العاقبة والذل والهم والألم الشديد الدائم الذي تورثه المعصية، فإن هذه الحسرة الطويلة لا تقارن بها لذة عاجلة تنقضي سريعا، فهذه اللذة الحاصلة بممارسة المعصية أشبه شيء بطعام لذيذ الطعم لكنه مسموم، فأي عاقل يقدم على تناوله لأجل لذته وقد عرف ما يعقبه من الهلاك، وكان الإمام أحمد رحمه الله ينشد:

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها     من الحرام ويبقى الإثم والعارُ

تبقى عواقب سوء في مغبتها     لا خير في لذة من بعدها النارُ

هذا فضلا عما تعقبه المعاصي من حلول النقم وزوال النعم، وأدنى أثر من الآثار الضارة المترتبة على المعاصي لا تقارن به هذه اللذة العاجلة.

يقول ابن القيم رحمه الله: والمقصود أن هذه الأسباب التي فيها لذةٌ مّا هي شر وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة، وهي بمنزلة طعام لذيذ شهي لكنه مسموم إذا تناوله الآكل لذّ لآكله وطاب له مساغه وبعد قليل يفعل به ما يفعل، فهكذا المعاصي والذنوب ولا بد حتى لو لم يخبر الشارع بذلك لكان الواقع والتجربة الخاصة والعامة من أكبر شهوده، وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته، فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب كما قيل:

إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم

فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس، ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له. انتهى.

ويوجه ابن القيم هذا النداء للعصاة المعرضين عما فيه سعادتهم المؤثرين عليه تلك اللذة العاجلة التي لا حقيقة لها فيقول عليه الرحمة: فيا معرضاً عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم، ويا بائعاً سعادته العظمى بالعذاب الأَليم، ويا مسخطاً مَن حياته وراحته وفوزه فى رضاه وطالباً رضى مَن سعادته فى إرضاء سواه، إِنما هي لذة فانية وشهوة منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها، فرح ساعة لا شهر وغم سنة بل دهر، طعام لذيذ مسموم أَوله لذة وآخره هلاك، فالعامل عليها والساعى فى تحصيلها كدودة القز يسد على نفسه المذاهب بما نسج عليها من المعاطب، فيندم حين لا تنفع الندامة، ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة، فطوبى لمن أقبل على الله بكليته، وعكف عليه بإرادته ومحبته، فإن الله يقبل عليه بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته، وإن الله سبحانه إذا أقبل على عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاته وتنورت ظلماته، وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال. انتهى.

هذا بعض ما تعقبه المعاصي من الشرور والآلام، وقد أفاض ابن القيم في ذكر آثار المعاصي السيئة في الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي فشفى وكفى رحمه الله. زد على ذلك ما فات العاصي من اللذة العظيمة، لذة الأنس بربه وذوق حلاوة طاعته والقرب منه، ولذة قهر عدوه والاستيلاء عليه بالغلبة والانتصار على نفسه الأمارة بالسوء، وتلك اللذة العظيمة لا نسبة بين لذة نيل المعصية وبينها، فلا يضيع هذه اللذات الدائمة ويفوت هذا السرور الحق وتلك السعادة التي لا يقدر قدرها مؤثرا عليها شهوة فانية زائلة إلا أحمق مغبون مبخوس الحظ من العقل والدين.

قال ابن القيم رحمه الله: فإن من طلب لذة العيش وطيبه بما حرمه الله عليه عاقبه بنقيض قصده، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سببا إلى خير قط، ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة والسرور وانشراح الصدر وطيب العيش لرأى أن الذي فاته من اللذة أضعاف أضعاف ما حصل له، دع ربح العاقبة والفوز بثواب الله وكرامته. انتهى.

فلينظر العاقل اللبيب أين يضع قدمه ولمن يبيع نفسه، فكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

والله أعلم.