عنوان الفتوى : خطورة ألفاظ السخرية بالدين والتنقص منه
ما رأيكم في الكتب التالية؟ وهل هي على مذهب أهل السنة والجماعة ؟ وهل كل ما فيها صحيح أم فيها غلو؟ وعلى سبيل المثال لا الحصر لو قال أحدهم لصاحبه لماذا لا تقرأ القرآن فقال شبعت كفر وغيرها كثير، وهو لا يخفى عليكم خاصة لمن اطلع على هذه الكتب وهي : (الإعلام بقواطع الإسلام لابن حجر الهيثمي –رسالة في ألفاظ الكفر لتاج الدين أبي المعالي وكذلك للحلبي –ألفاظ الكفر لبدر الرشيد )وماهو مناط التكفير هل هو اللفظ أم ما وقع في القلب من التنقص والتهكم والسخرية واللفظ تبع ؟ وهل تكون الردة بهذه البساطة ؟ولايخفى عليكم أن كثيراً من الناس وعامتهم عندهم تحرَُز من اللواط والزنا والعقوق وشرب الخمور بل ماهو أدنى من ذلك لما فيها من الوازع الطبعي والوحشة الفطرية منها ولكن هذه الألفاظ (الدالة على السخرية دون الدالة على السب فإن التكفير فيها واضح إذ لا تصدر إلا من مُبغض ) كثير من الناس لا يتورعون منها بل رأيت بعض طلبة العلم من يقع فيها، ولأن الناظر لأحوال المسلمين وأحاديثهم لحكم بردة المجتمعات. ومن المعلوم أن الذي يتأمل في مراتب الإثم في الشرع يستنتج أن المعصية كلما قوي دافعها وضعف مانعها صغر إثمها والعكس، وأن الله عز وجل قد جعل وازعا طبعياً ووحشة من الذنوب بقدر عظم إثمها، فالوازع عن اللواط ليس كالوازع عن الغيبة، والوازع في القتل ليس كالوازع في القذف وهكذا دواليك. فما بال الكفر في هذه الألفاظ بهذه السهولة أم أن الذي أوقعهم في الكفر هو ما انعقد في قلوبهم، وتعلمون أن الإنسان إذا كان في حالة مزاح فإنه لا يقصد كثيراً من تصرفاته ولا يقصد حقيقتها مثل ما يجري على لسانه مما لوآخذناه عليها مع عدم اعتبار أنه يمزح لكفر غالباً. والكلام الذي يصدر من المازح والذي لايقصد حقيقته. هل يؤاخذ به الإنسان فيما بينه وبين ربه؟ أرجو التفصيل حتى لا أسأل في هذا الباب مرة أخرى علماً أني قرأت في موقعكم جميع الفتاوى في هذا الشأن وفتاوى الوسواس .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم يتسن لنا الاطلاع على هذه الكتب حتى يمكننا الكلام عنها.
ومن الخطأ البين قول القائل إنه شبع من القرآن، فالقرآن لا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد، ولا يسأم منه قارئوه مهما كرروا تلاوته.
فلو أقبل الإنسان على القرآن وتعلمه، وفهم مراد الله لما شبع منه، فقد قال عثمان بن عفان: لو خلصت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم.
وأما الردة فلا تقع إلا بانشراح الصدر للكفر، ويدل لذلك قول الله تعالى: مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. {النحل:106}.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: لا بد في العقود وغيرها من قصد التكلم وإرادته، فلو فرض أن الكلمة صدرت من نائم، أو ذاهل، أو قصد كلمة فجرى على لسانه بأخرى، أو سبق بها لسانه من غير قصد لها، لم يترتب على مثل هذا حكم في نفس الأمر قط. انتهـى.
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان: قاعدة الشريعة أن العوارض النفسية لها تأثير في القول إهدارا واعتبارا وإعمالا وإلغاء، وهذا كعارض النسيان والخطأ والإكراه والسكر والجنون والخوف والحزن والغفلة والذهول، ولهذا يحتمل من الواحد من هؤلاء من القول ما لا يحتمل من غيره، ويعذر بما لا يعذر به غيره، لعدم تجرد القصد والإرادة ووجود الحامل على القول وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الغضب مانعا من تكفير من قال له ولأصحابه: هل أنتم إلا عبيد لأبي، وجعل الله سبحانه الغضب مانعا من إجابة الداعي على نفسه وأهله، وجعل سبحانه الإكراه مانعا من كفر المتكلم بكلمة الكفر، وجعل الخطأ والنسيان مانعا من المؤاخذة بالقول والفعل. انتهـى.
وإذا صدر من الإنسان سخرية بالدين فإنه يكفر إن انتفت موانع التكفير، سواء كان الشخص جاداً أو هازلاً، لقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 66].
قال ابن العربي رحمه الله : لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جداً أو هزلاً، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو العلم والحق، والهزل أخو الباطل والجهل، فإذا حصل الاستهزاء بالله أو بالرسول صلى الله عليه وسلم أو بالدين من شخص عاقل غير مكره فإنه يكفر بذلك ويعتبر ذلك ردة عن الإسلام...اهـ
وراجع الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 12487 / 21800 / 23340.
وما ذكرت من عدم تورع كثير من الناس أو تساهلهم في ذكر مثل هذه الألفاظ الكفرية لا يمنع من القول بكفر قائلها استهزاء على وجه العموم، وأما تكفير المعين فخطب جسيم وأمر عظيم يجب الاحتياط فيه، والتأكد من توفر الشروط وانتفاء الموانع، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 721.
وأما كون المعصية كلما قوي دافعها وضعف مانعها كان إثمها أقل مقارنة بمن ضعف عنده الدافع وقوي المانع، فهذا صحيح كما دل عليه الحديث الذي رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر.
قال القاضي عياض كما نقل عنه النووي في شرحه على صحيح مسلم: سببه أن كل واحد منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه وعدم ضرورته إليها وضعف دواعيها عنده؛ وإن كان لا يعذر أحد بذنب، لكن لما لم يكن إلى هذه المعاصي ضرورة مزعجة ولا دواعي معتادة أشبه إقدامهم عليها المعاندة والاستخفاف بحق الله تعالى وقصد معصية لا لحاجة غيرها، فإن الشيخ لكمال عقله وتمام معرفته بطول ما مر عليه من الزمان وضعف أسباب الجماع والشهوة للنساء واختلال دواعيه لذلك عنده ما يريحه من دواعي الحلال في هذا، ويخلي سره منه، فكيف بالزنا الحرام! وإنما دواعي ذلك الشباب والحرارة الغريزية وقلة المعرفة وغلبة الشهوة لضعف العقل وصغر السن...... اهـ.
ولكن هذا لا ينافي ما نحن بصدده، وبيان ذلك أن عظمة الرب تعالى ومكانة رسوله ومنزلة دين الإسلام وقدسية القرآن أمر لا يخفى على مسلم، فإذا سب المسلم شيئا من ذلك دل على استخفافه به وقلة مبالاته بأمره، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين: إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب.
قال الحافظ في الفتح: لا يتأملها بخاطره، ولا يتفكر في عاقبتها، ولا يظن أنها تؤثر شيئاً، وهو من نحو قوله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].
والله أعلم.