عنوان الفتوى : القول الصحيح في كون الحسنات تمحو السيئات
نظرت في معنى قوله تعالى: إن الحسنات يذهبن السيئات ـ ففهمت أن الحسنات التي يجنيها العبد بأعماله الصالحة تمحق له السيئات وتحرقها كما تحرق النار الحطب، فهل الحسنات التي يجنيها العبد من العمل الصالح تمحق كل السيئات؟ أم تمحق البعض ويبقى البعض منها عالقا مستعصيا عليها لا تقدر على محوه إلا أن تكون الحسنة أقوى بكثير من السيئة حتى تقدر على حرقها وتصفو صحيفة العبد يوم القيامة بالحسنات وكأن لا سيئة عليه؟ وهل العكس صحيح أيضا؟ بمعنى: هل السيئات إذا عمل بها العبد محت له الحسنات التي سبقتها؟ وهل السيئة الواحدة تمحو الحسنة الواحدة؟ أم هل السيئة تمحو عددا من الحسنات بقدر جرم وبشاعة السيئة المعمول بها؟ خصوصا وأنني نظرت عقب هذه الآية التي تدبرت معانيها في آية أخرى وهي قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ـ فوجدت باجتهاد مني في تدبر الآية الأخيرة أن نقض الغزل معناه نقض الأعمال بركوب ما يفسدها من الكبائر والمعاصي، والغزل هنا كناية عن نسيج الأعمال بالحسنات التي أثمرتها الأعمال فإذا لحقتها سيئة، أو ذنب واحد يكون ذلك كافيا لحرق الحسنات ونقض الأعمال؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأما عن كون الحسنات تمحو السيئات، فالقرآن قد أخبر بذلك كما قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ {هود:114}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأتبع السيئة الحسنة تمحها. رواه الترمذي وحسنه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم عن الصلوات: أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا. رواه مسلم.
إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على أن الحسنة تمحو السيئة، لكن الجمهور على أن هذا في الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، أما الكبائر فلا بد لها من توبة، كما أن الذنوب المتعلقة بحقوق العباد لا بد فيها من استحلال أصحابها، فالكبائر لا تكفرها الأعمال الصالحة، ولا بد لها من تخصيص التوبة بها، لأن الإطلاق في الحديث المذكور مقيد بأحاديث أخرى منها: قوله صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله.
ونقل النووي عن القاضي عياض: هذا المذكور في الحديث من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وهو مذهب أهل السنة، وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة، أو رحمة الله وفضله.
وقال في دليل الفالحين: ثم هذا في الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى، أما الكبائر فلا يكفرها على الصحيح إلا التوبة بشروطها، وأما التبعات فلا يكفرها إلا إرضاء أصحابها. انتهى.
وقال العيني في عمدة القارى: قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ـ يعني الصلوات الخمس إذا اجتنبت الكبائر هذا قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد هي قول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وقال ابن عبد البر: قال بعض المنتسبين إلى العلم من أهل عصرنا: إن الكبائر والصغائر تكفرها الصلاة والطهارة واستدل بظاهر هذا الحديث، وبحديث الصنابحي: إذا توضأ خرجت الخطايا من فيه.. الحديث، وقال أبو عمر: هذا جهل وموافقة للمرجئة، وكيف يجوز أن تحمل هذه الأخبار على عمومها وهو يسمع قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ـ في آي كثير، فلو كانت الطهارة وأداء الصلوات وأعمال البر مكفرة لما احتاج إلى التوبة، وكذلك الكلام في الصوم والصدقة والأمر والنهي، فإن المعنى أنها تكفر إذا اجتنبت الكبائر. انتهى.
وفي تحفة الأحوذي للمباركفوري: وأتبع ـ أمر من باب الأفعال وهو متعد إلى مفعولين: السيئة ـ الصادرة منك صغيرة وكذا كبيرة على ما شهد به عموم الخبر وجرى عليه بعضهم، لكن خصه الجمهور بالصغائر. انتهى.
ولم يرد أن السيئة تمحو الحسنة، إلا ما ورد في بعض الأعمال التي تحبط عمل الإنسان كالموت على الشرك؛ لقول الله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {البقرة: 217}.
وأما غير الشرك من السيئات فإنه لا يمحو الحسنات بالإطلاق، ولكنه يدافع الحسنات والعبرة بالغالب، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله: عن رجل مسلم يعمل عملاً يستوجب أن يبنى له قصر في الجنة ويغرس له غراس باسمه، ثم يعمل ذنوبًا يستوجب بها النار، فإذا دخل النار كيف يكون اسمه أنه في الجنة وهو في النار؟ فأجاب: وإن تاب عن ذنوبه توبة نصوحاً فإن الله يغفر له ولا يحرمه ما كان وعده، بل يعطيه ذلك، وإن لم يتب وزنت حسناته وسيئاته، فإن رجحت حسناته على سيئاته كان من أهل الثواب، وإن رجحت سيئاته على حسناته كان من أهل العذاب، وما أعد له من الثواب يحبط حينئذ بالسيئات التي زادت على حسناته، كما أنه إذا عمل سيئات استحق بها النار ثم عمل بعدها حسنات تذهب السيئات. اهـ.
هذا مذهب الجمهور، وبعض أهل العلم يقولون: إن السيئات تحبط الحسنات، كما أن الحسنات يذهبن السيئات، كما ذكر ذلك ابن القيم ـ رحمه الله.
وقال القرطبي: ولا تبطلوا أعمالكم: أي حسناتكم بالمعاصي، قاله الحسن، وقال الزهري: بالكبائر، ابن جريح: بالرياء والسمعة... إلى أن قال: وفيه إشارة إلى أن الكبائر تحبط الطاعات، والمعاصي تخرج عن الإيمان. انتهى.
وقد استدل هؤلاء بكون بعض السيئات وردت نصوص تفيد أنها تحبط العمل، وراجع الأجوبة التالية: 41314 ،36613، 37185
وأما قول الله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ـ فلا دليل فيها على ما ذكرت، لأن السياق وارد في نقض الأيمان كما في قول الله تعالى: ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، قال ابن جرير الطبري في تفسيره: يقول تعالى ذكره ناهياً عباده عن نقض الأيمان بعد توكيدها، وآمراً بوفاء العهود، وممثلاً ناقض ذلك بناقضة غزلها من بعد إبرامه، وناكثته من بعد إحكامه: ولا تكونوا أيها الناس في نقضكم أيمانكم بعد توكيدها وإعطائكم الله بالوفاء بذلك العهود والمواثيق كالتي نقضت غزلها من بعد قوة يعني من بعد إبرام، وقيل: إن التي كانت تفعل ذلك امرأة حمقاء معروفة بمكة.
والله أعلم.