عنوان الفتوى : ترك ما يعتقد الشخص رجحانه تطييبا للخواطر

مدة قراءة السؤال : 5 دقائق

فرغم حبنا للسنة واتباعنا للسلف الصالح، وكرهنا للبدع وتشددنا ضدها، وتحذيرنا منها، فقد نقوم ببعض الأعمال التي لا نرى ثبوتها؛ وإنما نفعلها لاعتبارات وتأولات وأمور تحيط بهذا العمل، مثلا: نحن نعلم أن الدعاء الجماعي للميت بعد الدفن بدعة، رغم اختلاف العلماء في بدعيته وعدمها، لتوسع بعضهم في فهم قوله: استغفروا لأخيكم. وأنه عام لم يخصص بكيفية، وقد قرأنا فتوى لابن باز بجواز الدعاء الجماعي، ولكن رغم هذا فإننا نذهب إلى ترجيح الترك وعدم الفعل وعدم شرعية هذا الدعاء الجماعي، ونرى الترك أولى بالاتباع، ولكن نضطر أحيانا إذا ما أحْرِجنا من أهل الميت، وهم في حالة الحزن والبكاء على المقبرة، ونفوسهم مكلومة، فيطلبون منا الدعاء لميتهم، فلا نستطيع أن نعترض عليهم نظرا لعاطفية الموقف، فندعو لهم وهم يُؤَمِّنون، ويلاحظ التالي: _ اعتقادنا بأولوية ترك هذا الفعل وبدعيته، وأنه ليس من السنة. _ أننا جُرِرْنا له تقديرا للظرف العاطفي الذي يصعب معه في هذه الحالة النهي عنه. _ أننا لم نَرَ هذا الفعل من البدع قطعية البدعية، لوجود خلاف بين العلماء، وتماشينا فيها مع الموسعين في هذا الأمر من العلماء نظرا لدخول الدعاء للميت ولو كان جماعيا تحت الأدلة العامة، ومراعاة للحالة الظرفية الآنِيَّة المحرجة لنا، وليس على الدوام. _ أننا لا نكرر هذا الفعل وإنما جاء عرضا مرة واحدة أو مرات متباعدة جدا، قد تكون في السنة مرة أو لا تكون، رغم كثرة الأموات.. _ وقلنا لمن يعترض علينا إننا قد لا نملك الشجاعة والقوة النفسية التي تجعلنا نجابه الناس في هذه الحالة الآنية نظرا لما جبلت عليه نفوسنا من خصائص نفسية تجفل عن مواجهة الناس في مثل هذه الأحوال والظروف الإنسانية، وأنتم أيها المنكرون علينا، قد تستطيعون الإنكار وبقوة؛ نظرا لخصائصكم النفسية التي تجعلكم لا تراعون ظرفا ولا حالة، عاطفية كانت أو غيرها، وليس عندكم مانع في تحمل الإحراج وكلام الناس، فعليكم أن تقدروا لنا ضعفنا النفسي هذا، وتتميزوا بشجاعتكم، ونحن ندعو لكم بالتوفيق، ولكنهم لا يقتنعون بذلك، ويرموننا بالابتداع، ويسموننا المبتدعة. _ قلنا لهم: إننا رغم قناعتنا بترك هذا العمل والذي نفعله نادرا، لتلك الظروف ومراعاة جهل الناس وعدم استيعابهم، لكننا قد نؤجر على تطيب قلوب الناس، ومراعاة حالتهم النفسية الحزينة، ولا نؤجر على البدعة، إن كانت حقا بدعة. لما سبق بيانه. نكرر أيها العلماء: إننا من أشد الناس على البدع مهما كانت نسبتها، ونحذر منها باستمرار، صغيرة كانت أو كبيرة، اعتقادية أو عبادية عملية، ومنها الدعاء الجماعي للميت على المقبرة، فقد حذرنا منه مرارا وتكرارا، ولكن نُنزل أعمالنا هذه كلها بناء على موازنات واعتبارات في بعض الأحيان، نرجوكم أيها العلماء أن تبينوا هذا الأمر لنا، لأن بعض أدعياء السلفية اللاواعية، وهم شباب لا علم عندهم، ولا فهم بضوابط البدع، ولا مراعاة لأي اعتبار، يشغبون علينا كثيرا ويعدوننا من أصحاب البدع والدعاة إليها، ويحذرون منا، بمجرد فعل هذه البدعة ولو نادرا، والتي نتأول لها كل هذه التأولات... وقيسوا على هذا ما يفعله بعض المصلين من رفع أيديهم للدعاء يوم الجمعة، رغم إنكارنا هذا وعده بدعة، وترجيحنا لبدعية الأمر، ولكن قد يفعله شخص معين لاعتبار من الاعتبارات، فيشنع عليه أولئك تشنيعا كبيرا ويعدونه من أمور المفاصلة، ويقومون بتشويه سمعته وصورته أمام قرنائهم من الشباب الصغار، وهم كثر، ويتبعون أساليب غير تربوية ولا ذوقية في التنفير حتى من بعض العلماء الكرام أصحاب التوجه السلفي السني الاتباعي، ويعتمد هؤلاء الشباب على بعض الفتاوى من بعض العلماء التي لا يفهم أولئك الشباب ما يحيط بهذه الفتاوى ولا حيثياتها، ويتخذونها حجة في كل هذه المخالفات الذوقية اللاتربوية... فنرجو من أصحاب الفضيلة كلمة الإنصاف والعدل في مثل هذا المواقف، ونحن أحبابنا نحب الحق ونحب الإنصاف ونخضع للدليل رغما عن أنوفنا...، فهل يحق أن نوصف بالمبتدعة، وهل يحق لأولئك الشباب الشغب علينا وتحذير الناس منا، وكأننا من أصحاب الضلالات الكبرى في الأمة، بل وصل الأمر ببعض أولئك الصغار من المقاطعة والهجر وعدم السلام ونشر هذا السمت بين بعضهم البعض، وللأسف ليس لهم علماء كبار أصحاب فهم وعمق علمي، ومقاصدي يردهم للصواب، ويحذرهم من مغبة هذا الأمر. ويزعمون أنهم أصحاب الحق، وأنهم هم الغرباء في هذا العصر، بينما تفتح لهم الأبواب في بلداننا، ويتسلمون كثيرا من الأجهزة وتفتح لهم المنابر وتمنع عن غيرهم من أصحاب السلفية الواعية، ومع ذلك يدعون أنهم أصحاب غربة. راجين البيان الشافي المدَلَّل عليه، ونأسف للإطالة التي اقتضتها طبيعة المشكلة.

مدة قراءة الإجابة : 6 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فالدعاء عبادة، والعبادات مبناها على التوقيف، فلا يعبد الله إلا بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، والدعاء والتأمين بشكل جماعي بعد دفن الميت بدعة محدثة، لأنه لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا من هدي أصحابه رضي الله عنهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه.  فعلى المسلم الابتعاد عن مثل ذلك، والتقيد بالمأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيه غنية عما سواه، وسلامة من البدع والمحدثات، كما سبق بيانه في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 16651، 45913، 36932.

وقال الشيخ ابن عثيمين في (فتاوى نور على الدرب): لا يجتمع الجميع على دعاءٍ واحد؛ لأن ذلك من البدع، حيث إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يرشد إلى ذلك ولم يفعله بنفسه، بل كان يقف ويقول: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت. ولم يكن يدعو وهم يؤمنون ولا أرشد إلى هذا .. اهـ.

ولا بد هنا من التنبه إلى أن هذا الترجيح للبدعية لا يرفع الخلاف، فقد صرح بعض أهل العلم بكون ذلك لا حرج فيه، كما جاء في فتاوى (اللجنة الدائمة للإفتاء): أما الدعاء له بعد الدفن من الأفراد أو الجماعة فهو مشروع اهـ.

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: لا حرج في أن يدعو واحد، ويؤمن السامعون أو يدعو كل واحد بنفسه للميت اهـ.

وقال النووي في (منهاج الطالبين): يسن أن يقف جماعة بعد دفنه عند قبره ساعة يسألون له التثبت اهـ.

ولا يصح مع هذا الخلاف أن نقطع بالبدعية وإن رجحناها، ولا سيما أن السائل الكريم قد ذكر أنهم لا يكررون هذا الفعل، وإنما يجيء عرضا مرة واحدة أو مرات متباعدة جدا، مع علمهم بخلاف العلماء في هذا، مع ما ذكر من بقية الملابسات.

وهذا الذي ذكر السائل من ترك ما يعتقدون رجحانه تطييبا لخواطر أهل الميت ودفعا للحرج عن أنفسهم، فيه شبه بدرجةٍ ما، من أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر أن يُعمر أخته عائشة رضي الله عنهم من التنعيم، كما في الصحيحين. فإنه لم يكن من هدي السلف الجمع بين إحرامين بنسكين بسفر واحد؛ وقد سبق التنبيه في الفتوى رقم: 19943على أن ذلك كان تطييبا لخاطرها.

 وعلى هذا نص بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، قال صديق حسن خان في كتابه (حسن الأسوة بما ثبت من الله ورسوله في النسوة): قال شيخ الإسلام وتلميذه الإمام ابن القيم: لا دليل على إحرام العمرة من الحل، وإنما جوز النبي صلى الله عليه وسلم عمرة عائشة مع أخيها من التنعيم تطييبا لخاطرها اهـ.

وقال ابن حجر في (الفتح): إنما أعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة، وقد وقع في رواية لمسلم: وكان النبي صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه اهـ.  يعني إذا لم يكن فيه مخالفة شرعية، فإن كانت فيه كان أبعد الناس عنه.

وقريب من ذلك أيضا أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له فلبئس ابن العشيرة أو بئس رجل العشيرة. فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة: يا رسول الله قلت له الذي قلت ثم ألنت له القول. قال: يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس اتقاء فحشه. متفق عليه. قال النووي: إِنَّمَا أَلَانَ لَهُ الْقَوْل تَأَلُّفًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ عَلَى الْإِسْلَام اهـ.

ولا يخفى أن هذا بخلاف المسائل التي تظهر بدعيتها بجلاء أو يحصل على ذلك إجماع من أهل العلم، أو يواظب عليها أصحابها حتى كأنها سنة، ففي مثل هذه الأحوال لا تنبغي موافقة أهلها ولو على سبيل المجاملة، كما سبق التنبيه عليه في الفتوى رقم: 59029.

وأما ما ذكرته ـ أيها السائل ـ عن حال هؤلاء الناس الذين يصمونكم بالبدعة، ويشغبون عليكم ويحذرون منكم، بل وصل الأمر إلى حد المقاطعة والهجر، فهذا هو الأجدر بوصف البدعة. ونوصيكم بإزاء هذا بأمرين:

ـ الأول: أن تجتهدوا في تعليم الناس السنن ونشر العلم بينهم، وتأخذوا بزمام المبادرة إلى ذلك، فإن هذا سيكفيكم مئونة فعل ما ترون رجحان مخالفته للسنة.

ـ الثاني: أن تصبروا على مخالفيكم وتتأنوا بهم وتحلموا عنهم، ولا تقابلوا السيئة بمثلها، وإن جادلتموهم فجادلوهم بالتي هي أحسن، فإن وصل الأمر إلى حد الخصومة واللدد، فدعوا المراء واشتغلوا بما ينفعكم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا. رواه أبو داود، وحسنه الألباني.

والله أعلم.