عنوان الفتوى : التمسك بالإسلام ولغته وثقافته ونبذ التعصب
ما موقف الإسلام مما تتعرض له بعض الشعوب من محو وطمس لهويتها وقتل لغاتها التي ميزها الله بها وتحريف تاريخ أجدادها؟ وما موقف الإسلام من نظام لا يحكم بما أنزل رب الكون-والعياذ بالله-.نظام تعمد قتل لسان شعب بريء لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؟ أليست اللغات آيات من آيات العليم الحكيم؟ لمادا قتلها عمدا بغير حق؟ ولا أخفي عليكم أني أمازيغي مسلم وأغار على ثقافتي وعلى هويتي الأمازيغية، كما أغار كثيرا على ديني الحنيف الذي أكرمني الله به وجميع المسلمين، وأحافظ على صلاتي في المسجد، وأعتقد أن هذا أمر طبيعي وفطري, وكل واحد منا يغار بل يجب عليه أن يغار على دينه وأصله. كما أعتقد أن ديننا الكامل والمتسامح لا يفضل لغة على أخرى ولا لونا على آخر ولا جنسا على آخر، فالكل متساو عند الرحمن, وكلنا عباد الله سبحانه وتعالى، وقد خلقنا مختلفين وجعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف، وجعل الفرق بيننا في التقوى كما جاء في كتاب الله، كما أن اختلاف الألسنة والألوان آية من آيات الله، والأحاديث والآيات كثيرة في هذا الاتجاه. ولكم مني جزيل الشكر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد سبق لنا تعريف الظلم وبيان عقوبته في الفتوى رقم: 11885، كما سبق أيضا بيان أن الحكم بغير ما أنزل الله يتردد بين أن يكون كفرا أصغر أو كفرا أكبر بحسب حال الحاكم ـ في عدة فتاوى، منها الفتاوى ذات الأرقام التالية: 35130، 1808، 32864.
وكذلك سبق أن تناولنا قضية الأمازيغيين والظلم الواقع عليهم، في الفتوى رقم: 8244.
وأما قضية اللغة والثقافة والتراث، فلا يظهر فيها الإشكال إلا مع ضعف الانتماء للإسلام بمنهجه الكامل، الذي يملأ على المسلم حياته ظاهرا وباطنا، عقيدة وشريعة، ولاء وبراء .... فدين الله تعالى ينبغي أن يكون عندنا بكل مقوماته ومقتضياته هو الأساس الذي نقدم به ونؤخر، نحب به ونبغض، نقبل به ونرفض، وعندئذ تتحقق الألفة بين المسلمين كما تحققت بينهم في صدر الإسلام، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {الأنفال: 62-63} وقال سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {ل عمران: 103}.
ولا ريب أن اللغة العربية من أهم عوامل الوحدة بين المسلمين، ويكفي في ذلك أن نتذكر كيف تعامل المسلمون الجدد في عصر الفتوحات الإسلامية مع اللغة العربية، وكيف كان دخولهم في الإسلام قرينا لإقبالهم عليها، تعلما وتعليما، وتحدثا وكتابة، ولا غرابة في ذلك إذ أصبحت هي لغة دينهم الذي لا يمكن فهمه ولا تطبيقه إلا بهذه اللغة التي اصطفاها الله للرسالة الخاتمة، فالمسلم يحتاج إليها في فهم القرآن والسنة، وأداء العبادات كالصلاة والأذان وغير ذلك. فهي اللغة التي اختارها الله لأعظم كتبه وأفضل رسله، وقد قال الله تعالى في كتابه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ {النحل:103}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله ولأهل الدار وللرجل مع صاحبه ولأهل السوق أو للأمراء أو لأهل الديوان أو لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروه، ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر ولغة أهلهما رومية، وأرض العراق وخراسان ولغة أهلهما فارسية، وأهل المغرب ولغة أهلها بربرية، عودوا أهل هذه البلاد العربية حتى غلبت على أهل هذه الأمصار مسلمهم وكافرهم، وهكذا كانت خراسان قديما ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة واعتادوا الخطاب بالفارسية حتى غلبت عليهم وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم ولا ريب أن هذا مكروه. وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية حتى يتلقنها الصغار في الدور والمكاتب فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه يصعب عليه. واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق. وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ثم منها ما هو واجب على الأعيان، كمعرفة معنى الشهادتين وما لا يتم العبادة الواجبة إلا بمعرفته ومنها ما هو واجب على الكفاية، وهو ما زاد على ذلك وهذا معنى ما رواه ابن أبي شيبة أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد، فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي.
وفي حديث آخر عن عمر أنه قال: تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم.
وهذا الذي أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية وفقه الشريعة يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه فقه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله وفقه السنة هو الطريق إلى فقه أعماله. انتهى باختصار يسير من كتاب اقتضاء الصراط المستقيم ص 207.
فالاعتزاز بالإسلام وتاريخه ولغته وثقافته مطلب مهم لبقاء هذا الدين ووحدة أتباعه، ولا يعني هذا أنه يحرم على المسلم أن يحب وطنه وقومه، ويتعرف على تاريخهم، ولكنه يعني أن ذلك كله ينبغي أن يصهر في قالب الإسلام بحيث لا يتعارض معه، ثم لا حرج على المسلم في أن يتحدث باللغة الأمازيغية أو غيرها من اللغات إذا دعت الحاجة إلى ذلك، أما إذا لم تكن هناك حاجة، كأن يكون المسلم يعيش بين عرب وهو قادر على الحديث بالعربية، فيكره له كراهة شديدة. وقد سبق ذكر هذا في الفتوى رقم: 33344.
فقول السائل الكريم: أعتقد أن ديننا الكامل والمتسامح لا يفضل لغة على أخرى، ولا لونا على آخر ولا جنسا على آخر. لا يصح إطلاقه في مسألة اللغة كما تقدم، ويمكن أن تراجع في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 28432، 25876، 27842.
وأما كون الإسلام لا يفضل لونا على لون، ولا جنسا على جنس، فهذا حق صرف، فَعنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.رواه الترمذي، وصححه الألباني.
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم أيضا فِي أوسط أيام التشريق فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى.رواه أحمد وأبو نعيم والبيهقي، وصححه الألباني.
ويجدر بنا أن ننتبه إلى أنه يجب الحذر من أي دعوة إلى العصبية المذمومة، سواء كانت دعوة إلى قومية أو قبلية أو غيرها من دعاوى الجاهلية، فالتعصب للعرق أو للجنس أو للوطن أو لأي شيء من العصبية المذمومة هو من دعوى الجاهلية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: من ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثا جهنم،فقال رجل: يا رسول الله وإن صلى وصام؟ فقال: وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب. وصححه الألباني.
وفي الصحيحين أن غلاما من المهاجرين وغلاما من الأنصار اقتتلا، فنادى المهاجر: يا للمهاجرين. ونادى الأنصاري: يا للأنصار. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا ؟!! دعوى أهل الجاهلية !! وفي رواية: دعوها فإنها منتنة. فرغم أن كلا من مسمى المهاجرين ومسمى الأنصار مسمى شرعي فإن النبي صلى الله عليه وسلم عد ذلك دعوى الجاهلية؛ لأنه دعوى إلى التعاضد والتناصر باعتبار هذا الانتماء لا باعتبار الحق والباطل.
أما إذا كان الانتساب للقبيلة أو الجماعة أو الوطن لمجرد التعارف والتعاون، لا التفاخر والتشاجر، فلا مانع من ذلك. كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 27966.
والله أعلم.