عنوان الفتوى : الضوابط المبيحة لشراء مسكن بقرض ربوي
فضيلة الشيخ عندي مشكلة تتعلق بالوالدين; فوالدي الذي أكرهه إلى الآن بسبب جرح وإهانة مشاعري مع السب وقول الكلام الفاجر، فلقد صبرت وكافحت في الحياة لأ تخرج من الدراسة، والآن أعمل في الشركة لكسب قوت رزقي، لكن المشكلة عند الالتحاق بالعمل تضخمت الأمور فازداد الشيء عن الحد وأصبح والدي هداه الله في تضخيم الأمور معي إلى أن وصل به بطردي من المنزل بدون سبب بادعائه أني كبرت ويجب علي أن أتحمل المسؤولية كما أنه يكرر لي ذلك الآلاف وملايين أقول الحق وهددني أنا وأمي حتى أصبح الجيران يتضايقون من الشجار الدائم غير المحدود بيننا، فضيلة الشيخ أمي الآن تدفعني إلى أن أجد مسكنا حتى لو كان بالربا وأنا أخاف الله رب العالمين فلقد شرحت لها أن ذلك حرام لكنها أصرت على ذلك مدعية أنها ستتحمل الذنب عوضا عني; لا أنكر أنني بدأت بالإجراءات للقرض من البنك لكني إلى الآن أنا متردد مخافة من رب العالمين، سؤالي الثاني أعمل في الشركة وتمرر لي أجرتي عبر حساب في البنك ولقد استغليت الفرصة لتحويش المصاريف في حسابي فهل هذا يعتبر حراما أم حلالا؟ جزاكم الله ألف خير.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن ما يفعله معك والدك -هداه الله- غير جائز شرعا بل هو حرام ومنكر وتضييع لوصية الله سبحانه القائل: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ {النساء:11}, قال السعدي رحمه الله: أي: أولادكم -يا معشر الوالِدِين- عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم، لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية، فتعلمونهم وتؤدبونهم وتكفونهم عن المفاسد، وتأمرونهم بطاعة الله وملازمة التقوى على الدوام، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ. فالأولاد عند والديهم موصى بهم، فإما أن يقوموا بتلك الوصية، وإما أن يضيعوها فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب. انتهى.
ولكن مع ذلك كله فيجب عليك أن تصبر عليه وأن تقابل إساءته بالإحسان والتغاضي, فحقه عليك عظيم وبره واجب على كل حال... أما ما تطالبك به أمك من اقتراض بالربا فهذا حرام لأن الله قد حرم الربا بالنصوص القاطعة، وشدد على مرتكبه العقوبة لينفر الناس من الوقوع فيه، فقال في العصاة الذين لم ينتهوا عنه بعد تحريمه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ {البقرة:279}، ولكن مع هذا فقد أباح الله تعالى عند الاضطرار أن يفعل المرء بعض المحرمات سدا لضرورته، فالقاعدة أن الضرورات تبيح المحظورات، ودليل ذلك قوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ {الأنعام:119}, وقد جاء في كتاب نظرية الضرورة الشرعية: والضرورة هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعضو -أي عضو من أعضاء النفس- أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها ويتعين أو يباح عندئذ ارتكاب الحرام أو ترك الواجب أو تأخيره عن وقته دفعاً للضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع. انتهى.
ومعلوم أن الحصول على مسكن من الضرورات التي لا يمكن للمرء أن يستغني عنها، وبناء على ذلك فيجوز لك الاقتراض بالربا إذا توفرت هذه الشروط:
1- ألا تجد سكنا تمليكا أو مستأجرا, فإن كنت تستطيع الاستئجار فلا يجوز لك القرض الربوي.
2- ألا تجد من يقرضك قرضا حسنا بدون فائدة.
3- أن تبني مسكنا على قدر حاجتك ولا تتوسع في ذلك لأن الضرورة تقدر بقدرها, أما المبالغة في رفع البنيان وتحسينه وتزيينه فهذا ليس من الضرورات في شيء بل ولا من الحاجات, ومن رأى حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان يسكنها النبي وأهله علم أن الضرورة المبيحة للاقتراض بالربا من أجل الحصول على المسكن حالة لا تكاد تتحقق الآن إلا في ندرة شديدة، فإن توفرت هذه الشروط فيمكنك الاقتراض وإلا فلا.
أما ما تسأل عنه بخصوص استغلالك البنك لإدخار وتوفير بعض الأموال من راتبك فنقول: إذا كان هذا البنك يتعامل بالربا فلا يجوز لك ترك مالك فيه بأي حال حتى ولو بغير فائدة لأن هذا من باب التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عن ذلك بقوله: ولا تعاونوا عَلَى الإِثمِ وَالْعُدْوَان {المائدة:2}، وفي النهاية ننبهك على أن قول أمك لك: اقترض وأنا أتحمل عنك الإثم حرام لا يجوز لأنه قد تقرر في شريعة الله أنه لا تكسب كل نفس إلا عليها وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى, وقد ذم الله هذا المسلك وعابه وأكذب أصحابه في قوله سبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ* وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ {العنكبوت:12-13}، فأعلم أمك -بلطف ولين- بحكم ما قالته وبوجوب الاستغفار منه.. وللمزيد من الفائدة تراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 61214، 6501، 106553.
والله أعلم.