حديث الهجرة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أيها الأحبة الكرام: هذه الكلمة، تنعقد في الجامع الكبير بـينبع في هذه الليلة -ليلة الثلاثاء- الثالث والعشرين من شهر الله المحرم من سنة 1414هـ وهي بعنوان حديث الهجرة.

أيها الإخوة: جئت إليكم تحفزني الأشواق إلى اللقاء بكم واللقاء بأهل هذا البلد الكريم شيوخاً، وشباباً، والتمتع برؤيتهم، ومجالستهم، ومؤانستهم، والحديث إليهم، لم آتكم متحدثاً أيها الأحبة، ولا لأقول لكم كلاماً تسمعونه لأول مرة، فإن ما عندي بضاعة مزجاة، ولكنني أتيت معبراً عن أطيب المشاعر تجاهكم.

إنها ليلة من الأنس فاضت     بمعاني الإخاء بين القلوب

والتقت أعين على غير ميعاد     كلقيا الحبيب وجه الحبيب

فلكم أجمل التحية مني     وسلام لكل عبد منيب

ينبع المجد من عيون تروي     ظمأ الأرض بالندى والطيوب

إن حديثي إليكم ينتظم عدة موضوعات.

ثانياً: الحدث الكبير: إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40].

هذا الموكب المتواضع، الذي لا يزيد على ثلاثة أفراد، أحدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والثاني صاحبه في الغار، الذي خلد الله ذكره، ورفع قدره، فأشار إليه في القرآن إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ [التوبة:40].

والثالث: دليلهم عبد الله بن أريقط، هذا الموكب المتواضع، قد وقف التاريخ كله مشدوهاً، متجهاً، قبالة هذا الموكب، يرقبه، وينظره، ويسجل أحداثه لحظة فلحظة، وساعة فساعة، إنه موكب كبير مهيب، لقد نسي الناس كل الأحداث الكبرى، والمعاصرة لذلك الحدث، فنسوا المعارك الطاحنة، ونسوا الدول الكبيرة، ونسوا التغيرات الجذرية التي طرأت على أمم الأرض، وحضارتها، ليرقبوا ويدوّنوا ويسجّلوا في ذاكرتهم هذا الحدث، وهذا الخبر، خبر ذلك الشريد الطريد الذي غادر مكة فغير التاريخ بإذن الله العزيز الحكيم.

يا طريداً ملأ الدنيا اسمه               وغدا لحناً على كل الشفاه

وغدت سيرته أنشودة               يتلقاها رواة عن رواه

ليت شعري هل درى من طاردوا          عابدو اللات وأتباع مناه

هل درت من طاردته أنها أمة               معبودها شاهت وشاه

طاردت في الغار من بوأها               سؤدداً لا يبلغ النجم مداه

طاردت في البيد من شاد لها          دينه في الأرض جاهاً أي جاه

سؤدد عالي الذرا ما ساده               قيصر يوماً ولا كسرى بناه

إن حديث القرآن عن الهجرة، جاء على لب القصة وأصلها، واستوعب أحداثها بهذه الكلمات اليسيرة، وهذه الآية التي ذكرت خبره صلى الله عليه وسلم منذ أن آذن الله تعالى بنصره، فأخرجه الذين كفروا، نعم أخرجوه لينصره الله عز وجل إلى أن أوى إلى الذين آووه ونصروه، فقالوا: تعال يا رسول الله إلى حيث العزة والمنعة.

رواية الإمام البخاري لحادث الهجرة

وكل روايات السيرة النبوية، وأحداثها، وقصصها، لا تعدو أن تكون تفصيلاً لما أجمل في القرآن الكريم، ولهذا فلا حرج علي وأنا أحدثكم اليوم خبر ذلك الموكب الكريم العظيم، لنقف ملياً عند دروسه، وعبره، وأحداثه، فلنستمع إلى رواية واحدة فقط -رواية الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه لهذا الحدث: {عن عائشة رضي الله عنها قالت أم المؤمنين: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة، وعشياً فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد، فلقيه ابن الدغنة، وهو سيد القارة، فقال له: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في أرض الله، وأعبد ربي عز وجل، قال له ابن الدغنة: يا أبا بكر إن مثلك لا يَخرُج ولا يُخرَج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق -رجل بهذه الصفات لا يخرج من بلده، ولا ينبغي أن يخرج، وأمة تلفظ أمثال هؤلاء الكبراء، الفضلاء، أهل التقوى، والعلم، والمجد، والإيثار، أمة قد تودِّع منها، ولهذا أدرك هذا الجاهلي بحسه أن مثل ذلك غلط، لا يجوز أن يكون، فمثلك يا أبا بكر لا يَخرُج ولا يُخرَج- ارجع واعبد ربك ببلدك، وأنا لك جار، أحميك ممن أراد بك سوءاً، فرجع أبو بكر رضي الله عنه وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف في أشراف قريش وفي نواديهم يقول لهم: إن أبا بكر لا يخرج! أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! أنا له جار، فلم تكذب قريش بجواره، وقالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره -فليصل في بيته- ويقرأ ما شاء من القرآن، ولكن لا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخاف أن يفتن نساءنا وأبناءنا}.

لقد رجعت قريش خطوة واحدة إلى الوراء، وقالوا: نقبل الآن مضطرين أن يسلم أبو بكر، وأن يظل مقيماً في قريش، ولكننا لا نريده أن يدعو إلى دينه، ولا أن يستعلن به، والخوف ما هو؟ الفتنة (نخشى أن يفتن نساءنا، وأبناءنا) فقال ذلك ابن الدغنة لـأبي بكر رضى الله عنه {فلبث أبو بكر مستخفياً يعبد ربه عز وجل في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير بيته، ثم بدا لـأبي بكر فابتنى مسجداً في فناء الدار بالساحة المحيطة بمنـزله، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن ويجهر به، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً بكاءً لا يملك عينه إذا قرأ القرآن} كأنما كانت قريش تقرأ الذي سيقع ويحدث فعلاً، كان الناس ينقذفون إلى أبي بكر، لأن لهذا القرآن سلطاناً على القلوب، ولأن لدعوة الحق سلطاناً على النفوس، والفطرة تستجيب لها، وتتجاوب معها، فحصل ما خافوا وخشوا، ولذلك أفزعهم هذا: {فذهبوا إلى ابن الدغنة، وقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد تجاوز ذلك، وابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا على نسائنا وأبنائنا فانهه عن ذلك، فإن أحب أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك، فاسأله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لـأبي بكر الاستعلان، قالت عائشة رضي الله عنها: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: لقد علمت الذي عاقدت لك عليه -أنت تعرف يا أبا بكر ما هو العقد والعهد الذي بيني وبينك- فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليَّ ذمتي، فقال له: أبو بكر -رضى الله عنه-: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار ربي عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ كان مقيماً بـمكة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام يوماً لأصحابه: إني رأيت دار هجرتكم -وقد يكون رآها في المنام، عليه الصلاة والسلام، أو في غير ذلك -هي أرض ذات نخل بين لا بتين } أي: حرتين وهي الحجارة السود التي تحيط بـالمدينة فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة الصحابة الذين كانوا هاجروا إلى الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- للرحيل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {على رسلك -انتظر- فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فحبس أبو بكر نفسه على ذلك، حتى يصحب النبي صلى الله عليه وسلم وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر -وهو الخبط- وهو علف معروف للمواشي، أربعة أشهر وهو يعلفها}.

قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: {فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لـأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتيهم فيها، -إذاً في الأمر جديد- فقال أبو بكر: فداك أبي وأمي يا رسول الله! ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ -أي: ما جاء بك إلا أمر- قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر: أخرج مَن عندك -مَن عنده من زوجته وبناته وأولاده- فقال له: إنما هم أهلك يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، قال: فإني قد أذن لي بالهجرة، قال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله -أتأذن لي أن أصحبك، وأرافقك في هذا المسير قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم}.

وهنا يقول ابن إسحاق: قالت عائشة رضي الله عنها: {فوالله ما علمت أن أحداً كان يبكي من غلبة الفرح إلا يومئذٍ} فإن أبا بكر رضي الله عنه بكى من غلبة الفرح عليه بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرح لأنه سوف يصحبه في رحلة المخاطر حيث العالم كله يحاربهم، ويرميهم عن قوس واحدة، وحيث تضع قريش جائزة ضخمة لمن يأتي برءوسهم، أو يأتي بهم أحياءً أو أمواتاً.

{الصحبة يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! هذه إحدى راحلتي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. آخذها بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن جهاز، وصنعنا لهم سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت بـذات النطاقين، ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكانوا فيه ثلاثة أيام يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف -أي: ذكي حاذق فطن- فيدلج من عندهما بالليل في السحر آخر الليل، فيصبح مع قريش بـمكة، كما لو كان قد بات بـمكة ليلته كلها، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا رجع وأخبرهما به، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر غنمهما، ثم يريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل -وهو اللبن- ويخبرهما عبد الله بن أبي بكر بالخبر، وتمشي الغنم على جرته فتمحوها، ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، رجلاً من بني الديل وهو عبد الله بن أريقط وكان هادياً، خريتاً -أي: بصيراً بالطريق- وقد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وكان على دين كفار قريش، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قد أمناه، ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث، فلما أصبحوا الليلة الثالثة، انطلق معهما عامر هو والدليل فأخذ بهم طريق الساحل} حتى وصلوا إلى المدينة.

وكل روايات السيرة النبوية، وأحداثها، وقصصها، لا تعدو أن تكون تفصيلاً لما أجمل في القرآن الكريم، ولهذا فلا حرج علي وأنا أحدثكم اليوم خبر ذلك الموكب الكريم العظيم، لنقف ملياً عند دروسه، وعبره، وأحداثه، فلنستمع إلى رواية واحدة فقط -رواية الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه لهذا الحدث: {عن عائشة رضي الله عنها قالت أم المؤمنين: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة، وعشياً فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد، فلقيه ابن الدغنة، وهو سيد القارة، فقال له: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في أرض الله، وأعبد ربي عز وجل، قال له ابن الدغنة: يا أبا بكر إن مثلك لا يَخرُج ولا يُخرَج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق -رجل بهذه الصفات لا يخرج من بلده، ولا ينبغي أن يخرج، وأمة تلفظ أمثال هؤلاء الكبراء، الفضلاء، أهل التقوى، والعلم، والمجد، والإيثار، أمة قد تودِّع منها، ولهذا أدرك هذا الجاهلي بحسه أن مثل ذلك غلط، لا يجوز أن يكون، فمثلك يا أبا بكر لا يَخرُج ولا يُخرَج- ارجع واعبد ربك ببلدك، وأنا لك جار، أحميك ممن أراد بك سوءاً، فرجع أبو بكر رضي الله عنه وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف في أشراف قريش وفي نواديهم يقول لهم: إن أبا بكر لا يخرج! أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! أنا له جار، فلم تكذب قريش بجواره، وقالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره -فليصل في بيته- ويقرأ ما شاء من القرآن، ولكن لا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخاف أن يفتن نساءنا وأبناءنا}.

لقد رجعت قريش خطوة واحدة إلى الوراء، وقالوا: نقبل الآن مضطرين أن يسلم أبو بكر، وأن يظل مقيماً في قريش، ولكننا لا نريده أن يدعو إلى دينه، ولا أن يستعلن به، والخوف ما هو؟ الفتنة (نخشى أن يفتن نساءنا، وأبناءنا) فقال ذلك ابن الدغنة لـأبي بكر رضى الله عنه {فلبث أبو بكر مستخفياً يعبد ربه عز وجل في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير بيته، ثم بدا لـأبي بكر فابتنى مسجداً في فناء الدار بالساحة المحيطة بمنـزله، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن ويجهر به، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً بكاءً لا يملك عينه إذا قرأ القرآن} كأنما كانت قريش تقرأ الذي سيقع ويحدث فعلاً، كان الناس ينقذفون إلى أبي بكر، لأن لهذا القرآن سلطاناً على القلوب، ولأن لدعوة الحق سلطاناً على النفوس، والفطرة تستجيب لها، وتتجاوب معها، فحصل ما خافوا وخشوا، ولذلك أفزعهم هذا: {فذهبوا إلى ابن الدغنة، وقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد تجاوز ذلك، وابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا على نسائنا وأبنائنا فانهه عن ذلك، فإن أحب أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك، فاسأله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لـأبي بكر الاستعلان، قالت عائشة رضي الله عنها: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: لقد علمت الذي عاقدت لك عليه -أنت تعرف يا أبا بكر ما هو العقد والعهد الذي بيني وبينك- فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليَّ ذمتي، فقال له: أبو بكر -رضى الله عنه-: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار ربي عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ كان مقيماً بـمكة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام يوماً لأصحابه: إني رأيت دار هجرتكم -وقد يكون رآها في المنام، عليه الصلاة والسلام، أو في غير ذلك -هي أرض ذات نخل بين لا بتين } أي: حرتين وهي الحجارة السود التي تحيط بـالمدينة فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة الصحابة الذين كانوا هاجروا إلى الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- للرحيل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {على رسلك -انتظر- فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فحبس أبو بكر نفسه على ذلك، حتى يصحب النبي صلى الله عليه وسلم وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر -وهو الخبط- وهو علف معروف للمواشي، أربعة أشهر وهو يعلفها}.

قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: {فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لـأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتيهم فيها، -إذاً في الأمر جديد- فقال أبو بكر: فداك أبي وأمي يا رسول الله! ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ -أي: ما جاء بك إلا أمر- قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر: أخرج مَن عندك -مَن عنده من زوجته وبناته وأولاده- فقال له: إنما هم أهلك يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، قال: فإني قد أذن لي بالهجرة، قال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله -أتأذن لي أن أصحبك، وأرافقك في هذا المسير قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم}.

وهنا يقول ابن إسحاق: قالت عائشة رضي الله عنها: {فوالله ما علمت أن أحداً كان يبكي من غلبة الفرح إلا يومئذٍ} فإن أبا بكر رضي الله عنه بكى من غلبة الفرح عليه بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرح لأنه سوف يصحبه في رحلة المخاطر حيث العالم كله يحاربهم، ويرميهم عن قوس واحدة، وحيث تضع قريش جائزة ضخمة لمن يأتي برءوسهم، أو يأتي بهم أحياءً أو أمواتاً.

{الصحبة يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! هذه إحدى راحلتي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. آخذها بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن جهاز، وصنعنا لهم سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت بـذات النطاقين، ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكانوا فيه ثلاثة أيام يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف -أي: ذكي حاذق فطن- فيدلج من عندهما بالليل في السحر آخر الليل، فيصبح مع قريش بـمكة، كما لو كان قد بات بـمكة ليلته كلها، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا رجع وأخبرهما به، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر غنمهما، ثم يريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل -وهو اللبن- ويخبرهما عبد الله بن أبي بكر بالخبر، وتمشي الغنم على جرته فتمحوها، ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، رجلاً من بني الديل وهو عبد الله بن أريقط وكان هادياً، خريتاً -أي: بصيراً بالطريق- وقد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وكان على دين كفار قريش، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قد أمناه، ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث، فلما أصبحوا الليلة الثالثة، انطلق معهما عامر هو والدليل فأخذ بهم طريق الساحل} حتى وصلوا إلى المدينة.

لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة البلد التي نشأ فيها، وأحبها، وعرف فضلها، ولذلك خرج عليه الصلاة والسلام وقلبه يلتفت إلى تلك البقاع الطيبة الطاهرة، فلما غادرها وقف بـالحزورة، وهو مكان قريب من البيت العتيق، ثم التفت إلى مكة، وقال: {والله إنك لخير بلاد الله، وأحب البلاد إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} والحديث رواه الترمذي والحاكم وغيرهما عن عبد الله بن عدي بن الحمراء، وقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث صحيح.

يخرج النبي صلى الله عليه وسلم فيطيب الرب عز وجل قلبه، ويدله على أنه خرج من مكة اليوم شريداً طريداً، وسوف يعود إليها غداً فاتحاً منصوراً مظفراً: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85] قال المفسرون: في هذه الآية بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم أنه سوف يعود إلى مكة قاهراً لأعدائه، منتصراً عليهم، وهذا قول الأكثرين كما قال القرطبي: وهو مذهب جابر، وابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وغيرهم من المفسرين إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85] أي: مرجعك إلى مكة مرة أخرى، كما خرجت منها، وقيل المعنى: لرادك إلى الجنة، وقيل المعنى: لمتوفيك بعدما تستوفي عمرك في هذه الدنيا.

خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة مكرهاً، بسبب الحصار على دعوته، وبسبب المضايقة لأصحابه، وعاد إليها بعد ثمان سنوات فحسب، عاد إليها في كتيبة خضراء من المهاجرين والأنصار، لا يرى منهم إلا حدق العيون، يُفَدُّون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم، وآبائهم، وأمهاتهم:

كذبتم وبيت الله نُبزى محمداً     ولما نقاتل دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع دونه     ونذهل عن أبنائنا والحلائل

نعم جاء نصر الله والفتح، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، كما وعد ربه عز وجل... وفي هذا وقفة:

صمود الإسلام أمام المحن

إن دعوة الإسلام دعوة تاريخية، عمرها طويل، ولم يكن انتصارها ذلك الانتصار الموقوت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بل انتصار الأبد وانتصار الدهر، وعلى رغم مضي ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة على دعوة الإسلام، على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنها تظل طيلة هذه السنين قائمة، قوية، تصارع العوادي، وتقاوم الأحداث.

وهاهو الإسلام اليوم في قلب أوروبا، يقض مضاجع الغربيين، فيتواطئون ضد حفنة من أبناء الإسلام في أرض البوسنة، ويسلمونهم إلى عدوهم بلا سلاح، على رغم أن وسائل الإعلام الغربية كلها: مسموعها، ومرئيها، تعرض صباح مساء، لتلك الجرائم البشعة، وهذه المآسي المفجعة، وهذه الوجوه التي قد أمضتها الجراح والآلام، مآسي الكبار، مآسي العجزة، والشيوخ، والنساء، والأطفال، مآسي الجوع، والفقر، والمرض، ومع ذلك كله يتواطأ هؤلاء ضد حفنة من أبناء الإسلام، وأوليائه، لماذ1؟!

إنهم لا يتآمرون ويتحالفون إلا على الأقوياء، أما الضعاف فيمكن هزيمتهم بأقل من ذلك، نعم يكفي قوة للإسلام أن بلداً نائياً كذلك البلد، لم يكن جمهور الناس يعرفون أن فيها مسلمين أصلاً، ولا يدرون أن فيها مساجد تاريخية أعمارها أحياناً تزيد على ستمائة أو سبعمائة سنة، وأن فيها ملايين من أهل لا إله إلا الله، وإن كان حيل بينهم وبين معرفة حقيقتها في كثير من الوقت.

يكفي في قوة الإسلام أن قوماً كهؤلاء عزلاً من كل سلاح، يظلون على ما يزيد على عشرين شهراً يقاومون رابع جيش في العالم، مدججاً بأقوى الأسلحة، وهم يواجهون الرصاص بصدور عارية، ويصبرون على رغم اللأواء التي لم يكن أحد يتوقع أن يصبروا عليها شهراً، أو بضعة أسابيع.

الإسلام في الجمهوريات السوفيتية

وها هو الإسلام في جمهوريات آسيا الوسطى اليوم ينبعث من وسط الركام، بعد أن ظن الظانون أنه قد انطمس وانتهى، وإذا المسلمون في طاجكستان، أو أوزبكستان، أو سمرقند، أو بخارا، أو وادي أفرغانة، وفي تلك المدن التي عرفها التاريخ، وخرجت أكابر العلماء، في الحديث والتفسير، والفقه، واللغة، والبلاغة، وغيرها، إذا بتلك البلاد التي تحن من جديد إلى دينها، وترجع إلى أصولها، وإذا بالمآذن ترتفع في سمائها، وإذا بصوت التكبير يعلو في أجوائها، وإذا بالحجرات السرية تستطيع بضعفها أن تقاوم كيد الشيوعية الذي استمر أكثر من سبعين سنة.

نعم. لقد حفظت تلك الحجرات للشباب إيمانهم، وعقيدتهم، بل ولغتهم، والبارحة كان معي أحد الشباب من مدينة سمرقند، فإذا به يتكلم العربية بطلاقة، وهو حديث عهد بهذه البلاد، فسألته كيف عرفت اللغة العربية؟ قال: تعرفتها وتعلمتها من شيخي الذي كان يدرسني في الحجرات، وكم لبثت في الحجرات؟ قال: أكثر من ثلاث سنوات.

نعم. لقد درس العقيدة الصحيحة، من كتب السلف، ودرس الفقه، ودرس اللغة العربية، ودرس أصول الإسلام، في الحجرات، التي ربما يظل الطالب فيها ثلاث سنوات، دون انقطاع وسط ركام من المخاوف، من أجهزة المخابرات الـ k.g.b التي تملك أكثر من ثلاثة ملايين عنصر من أولئك الرجال، الذين دربوا على أنه لا كرامة لأحد، وأنهم مستعدون أن يبطشوا بأقرب قريب، ومع ذلك ظل الإسلام يتأبى على محاولات الصهر والإزالة والسحق، فإذا أتيحت له أية فرصة ظهر من جديد أقوى ما كان.

عمر الدعوات الباطلة

إن أعمار الحركات الأيدلوجية البشرية الأرضية، أو الدعوات العلمانية، التي يختلقها الناس، مهما طالت فهي قصيرة، فـالشيوعية -مثلاً- لم تزد في عمرها على سبعين سنة، ولم يشفع لها أن تكون تملك ما يزيد على ثلاثمائة ألف رأس نووي، أو ثلاثة ملايين عنصر أمني، أو أكثر من هذا العدد من رجال الجيش، أو تملك الأجهزة المتطورة في مجال التسليح وغيره، لم يشفع لها ذلك كله، لأنها، كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار.

أما الرأسمالية وريثة الشيوعية، والتي أخذت تركتها من بعدها، والتي تهيمن على العالم الغربي، فهي تعاني اليوم من الأزمات والأعراض نفسها، أزمات الاقتصاد التي سقطت بسببها الشيوعية، تنتقل اليوم إلى الغرب، في أمريكا، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، والصين، واليابان، وغيرها، فهي تعاني من أعراض الكساد، والتضخم، والبطالة، وغير ذلك من الأمراض التي تفتك بها، وتوشك أن تكشف عوارها.

فكل الدعوات البشرية العلمانية، والشيوعية، والرأسمالية، والقومية، والاشتراكية، كلها دعوات بشرية لا تملك أنبياء، ولا تملك أولياء، ولا تملك عمراً، تقاتل عشر سنوات، أو عشرين، أو أقل من مائة سنة، ولكنها بعد ذلك تنتهي، وتنمحي، وتنقل إلى مزبلة التاريخ.

عمر الإسلام

أما هذا الدين فقد مضى عليه اليوم ألف وأربعمائة سنة، وعدد المتحمسين لهذا الدين في ازدياد، انظر إلى عدد رواد المساجد، تجد أن العدد يزداد يوماً بعد يوم، بل انظر إلى عدد الذين يدخلون في الدين، تجد قبائل بأكملها من الوثنيين، أو النصارى، في أفريقيا، وإندونيسيا، أو غيرها من بلاد الله تدخل في دين الله عز وجل ليس فقط أولئك الذين لا يملكون العلم هم الذين يدخلون في الدين، بل حتى في أرقى مراكز العلم، في أوروبا، وفي أمريكا، أطباء، وعلماء، وخبراء، وساسة، على أعلى المستويات، يعلنون دخولهم في الدين.

وسفير ألمانيا في بلاد المغرب، خير مثال على ذلك (هوفمان) الذي أخرج كتابه الجديد الشهير: الإسلام هو البديل، والذي تكلم فيه عن انهيار الحضارة الغربية، وقدم فيها النموذج الإسلامي، كبديل عن تلك الحضارة الزائلة الآيلة للانهيار.

ومثله عدد من سفراء الدول الغربية، وعدد من رجالتها، وساستها، وعلمائها، وخبرائها، يعلنون دخولهم في هذا الدين، إذ أن هذا الدين هو دين الله عز وجل وهذا سر المعجزة، فهو يصلح للأعرابي في صحرائه، كما يصلح للطبيب في مختبره أو عيادته، كما يصلح للسياسي في أروقته، كما يصلح للرجل في معمله، كما يصلح للمرأة في عقر دارها، إنه الدين الذي يلائم عقول الجميع ونظراتهم، ويلبي كل مطالبهم الفطرية الجبلية.

إن أولئك الفتية الذين تخرجوا على يد النبي صلى الله عليه وسلم، وخرجوا من صحرائهم لأول مرة، لا يزالون معلماً تتخرج على ضوئه الأجيال بعد الأجيال، لقد جعل منهم الوحي رجالاً خير من عرف الناس، ومشى الدين فيهم مشي العافية في المريض المضنى المقعد، وفي لمحة بصر تحولوا من رعاة الشاء والغنم، إلى قادة العصور وسادة الأمم، تحولوا إلى فرسان النهار رهبان الليل، تسمع بالليل بكاءهم بالقرآن كدوي النحل، وتسمع بالنهار صليل سيوفهم، كما قال الشاعر:

مشى الوحي فيهم مشية البرء في الضنى     فأي فتى من سحره غير طافح

فطاروا إلى الدنيا بدين محمد     وقد فتحوا الدنيا كلمحة لامح

كأن الرياح الذاريات مطيهم     يلفون وجه الأرض لف الوشائح

تجوز بهم رمضاء كل تنوفة     سوابح خيل تهتدي بسوابح

ففي كل بر منهم زحفُ زاحفِ     وفي كل يمٍّ منهم سبحُ سابح

كأن دوي النحل مثل دويهم     إذا ارتفعت أصواتهم بالفواتح

يجول بهم إسلامهم كل جولة     ويلقي بهم إيمانهم في الطوائح

فما الموت في الإيمان مرٌ مذاقه ولا     الحتف في الإسلام صعب الجوائح

فقادوا على أرماحهم كل مصعب     وراضوا على أسيافهم كل جامح

فلا قيصر يزهو على الشام تاجه     ولا تاج كسرى كالنجوم اللوامح

تناثرت التيجان تحت خيولهم     وأهوى على أقدامهم كل طامع

فأين عيون الحق تشهد أمة     تئن أنين الطير من كل ذابح

تعالت فطاحت فاستكانت فأصبحت     لإذلالها يلهو بها كل مازح

فلا ملكها في الأرض مشتبك العرى     ولا عيشها في الناس عيش الصحائح

على مثلها من ذلة بعد عزة     تفيض جفون بالدموع السوافح

فهل صيحة في العرب تبعث ملكهم     ألا ربما هبوا لصيحة صائح

إن هذه المسافة التاريخية الهائلة التي قطعها الإسلام وهو يكتسب في كل يوم مواقع جديدة، وانتصارات جديدة، على رغم الضعف الذي ألم بأهله، وحملته، إن ذلك كفيل بأن يطمئن القلوب، ويهدئ النفوس، ويقطع للناس جميعاً أن المستقبل لهذا الدين اليوم، كما كان له المستقبل بالأمس، وأن كلمة الله تعالى ماضية على الناس في هذا الزمان، كما هي ماضية في كل زمان، وأن الله تعالى قال في محكم التنـزيل: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55].

قصة سراقة بن مالك في الهجرة ودلالتها

إن مما يجدر ذكره ما رواه سفيان عن أبي موسى عن الحسن، وهو حديث مرسل، وقد ذكره الحافظ ابن عبد البر، وابن حجر وغيرهما من أهل السير: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لحقه سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، يبحث عن أعطية قريش وهديتها لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فساخت قوائم فرسه في الأرض، فبعد ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد طلب كتاب الأمان: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟! فقال سراقة: كسرى بن هرمز؟! قال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم كسرى بن هرمز -وحدث هذا فعلاً- فجاءت التيجان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أين سراقة؟ فجيء به، فأخذ التاج بيده، وألبسه سراقة، وقال: الحمد لله الذي سلبها كسرى بن هرمز، وألبسها أعرابياً من بني مدلج} إنها أحلام الأمس، ولكنها حقائق اليوم.. وقد جاءت القصة في الأصل في صحيح البخاري: {أن سراقة طلب من النبي صلى الله عليه وسلم كتاب أمان فكتبه له}.

إنها الثقة بالله عز وجل ووعده بمستقبل هذا الدين في غمرة الأحداث، وفي أشد الأوقات، وأعظم الأزمات، فقد كان الناس يعتقدون أنه ربما يقبض على هذا النبي الكريم في أي مكان، وينتهي تاريخ الدين، ولكن الأمر عند الله تعالى كان على غير ذلك.

بشائر النصر تبرق يوم الأحزاب

ومثل هذا تماماً ما حدث يوم الأحزاب، حين جاءت الأحزاب من كل مكان، وتحالفت كل القوى العظمى في ذلك الوقت على المسلمين. والمسلمون كانوا قلة في المدينة، وحوصروا حصاراً اقتصادياً وعسكرياً، وظن الناس بالله الظنون، وارتاب المنافقون، حتى قال قائلهم: الواحد منا لا يستطيع أن يذهب في قضاء حاجته، ومحمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر.

وهنا تأتي البشارة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم الصخرة، وبرقت قال: أضيئت لي قصور بصرى، وقصور صنعاء، فأخبر أصحابه أن آية النصر تتجلى في هذا الموقف الذي تحالف الناس فيه ضد الدعوة، إنهم لم يتحالفوا ضدها إلا لأنها تملك القوة، وتملك التهديد، وتملك المستقبل، ثم جاء الوعد من الرب عز وجل: وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22].

إن الحاجة ماسة في أوقات الضعف -ضعف المسلمين- وتكالب أعدائهم عليهم، ووجود ألوان مما يظنه الناس هزائم تعانيها الأمة الإسلامية في أكثر من موقع، إنهم أحوج ما يكونون إلى تأكيد ثقتهم بوعد ربهم، ويكفي أن تتلى عليهم آيات الله عز وجل: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49] وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40-41] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].

إن دعوة الإسلام دعوة تاريخية، عمرها طويل، ولم يكن انتصارها ذلك الانتصار الموقوت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بل انتصار الأبد وانتصار الدهر، وعلى رغم مضي ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة على دعوة الإسلام، على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنها تظل طيلة هذه السنين قائمة، قوية، تصارع العوادي، وتقاوم الأحداث.

وهاهو الإسلام اليوم في قلب أوروبا، يقض مضاجع الغربيين، فيتواطئون ضد حفنة من أبناء الإسلام في أرض البوسنة، ويسلمونهم إلى عدوهم بلا سلاح، على رغم أن وسائل الإعلام الغربية كلها: مسموعها، ومرئيها، تعرض صباح مساء، لتلك الجرائم البشعة، وهذه المآسي المفجعة، وهذه الوجوه التي قد أمضتها الجراح والآلام، مآسي الكبار، مآسي العجزة، والشيوخ، والنساء، والأطفال، مآسي الجوع، والفقر، والمرض، ومع ذلك كله يتواطأ هؤلاء ضد حفنة من أبناء الإسلام، وأوليائه، لماذ1؟!

إنهم لا يتآمرون ويتحالفون إلا على الأقوياء، أما الضعاف فيمكن هزيمتهم بأقل من ذلك، نعم يكفي قوة للإسلام أن بلداً نائياً كذلك البلد، لم يكن جمهور الناس يعرفون أن فيها مسلمين أصلاً، ولا يدرون أن فيها مساجد تاريخية أعمارها أحياناً تزيد على ستمائة أو سبعمائة سنة، وأن فيها ملايين من أهل لا إله إلا الله، وإن كان حيل بينهم وبين معرفة حقيقتها في كثير من الوقت.

يكفي في قوة الإسلام أن قوماً كهؤلاء عزلاً من كل سلاح، يظلون على ما يزيد على عشرين شهراً يقاومون رابع جيش في العالم، مدججاً بأقوى الأسلحة، وهم يواجهون الرصاص بصدور عارية، ويصبرون على رغم اللأواء التي لم يكن أحد يتوقع أن يصبروا عليها شهراً، أو بضعة أسابيع.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5003 استماع
تلك الرسل 4144 استماع
الصومال الجريح 4139 استماع
مصير المترفين 4075 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4041 استماع
وقفات مع سورة ق 3968 استماع
مقياس الربح والخسارة 3921 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3860 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3821 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3817 استماع