شرح سنن أبي داود [164]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (أن نبي الله كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم قالا: حدثنا أبان عن يحيى عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، كان يصلي ثماني ركعات، ويوتر بركعة، ثم يصلي) قال مسلم : بعد الوتر، ثم اتفقا (ركعتين وهو قاعد، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ويصلي بين أذان الفجر والإقامة ركعتين) ].

أورد أبو داود رحمه الله حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمانياً، ثم يأتي بركعة يوتر بها، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، يعني: يجلس، ثم إذا أراد أن يركع قام، معناه: أنه يقرأ وهو جالس، ثم يقوم ويقرأ بعد ذلك، ثم يركع ويصلي ركعتين بعد طلوع الفجر، فيكون مجموعه ثلاث عشرة ركعة، معناه أنها تسع، ثم بعدها ركعتان وهو جالس، ثم يضاف إلى ذلك ركعتان بعد طلوع الفجر الثاني اللتين هما ركعتا الفجر، فهذه صفة من الصفات التي جاءت عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

وأكثر ما جاء عنها أنه كان يصلي إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً، ثم أربعاً، ثم ثلاثاً، وأحياناً يصلي ثنتين ثنتين، ويوتر بواحدة، وجاء عنه الزيادة على إحدى عشرة ركعة، فتكون إما ركعتا الفجر قد حسبت كما جاء في هذا الحديث، وكما مر في حديث قبل ذلك، وإما ركعتان خفيفتان تبدأ بهما الصلاة، فتكون هما المكملة للعدد ثلاث عشرة أو الركعتان اللتان بعد صلاة الوتر، وهذا لا يكون باستمرار وإنما يكون في بعض الأحيان.

الحاصل أن صلاته صلى الله عليه وسلم جاءت على أوجه متعددة، ولكن مجموع ما صلاه عليه الصلاة والسلام لا ينقص عن سبع في أي ليلة من الليالي ولا يزيد على ثلاث عشرة، وقد عرفنا أن هذا لا يدل على التقييد بهذا، بل الأمر في ذلك واسع، فلو أراد إنسان أن يزيد على إحدى عشرة فإنه لا بأس بذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح أتى بركعة توتر له ما قد صلى).

فهذا يبين لنا أن الأمر واسع، ولكن الأخذ أو الإتيان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه هو الأولى، ولكن الإنسان إذا وجد إماماً يصلي بأكثر من ثلاث عشرة، فلا يتأخر عنه في شيء من الصلاة، وإنما ينبغي له أن يصلي معه جميع الصلوات التي يصليها حتى ينصرف الناس، وحتى تنتهي صلاة التراويح أو صلاة قيام رمضان، ولا يقول الإنسان: أنا أصلي إحدى عشرة ركعة ولا أزيد؛ لأنه ما جاء شيء يدل على عدم الزيادة، ووجوب الالتزام بهذا العدد، بل الأمر في ذلك واسع.

وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى) يدل على ذلك، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة)، فالزيادة على ذلك لا بأس بها، ولا مانع منها، وهي زيادة خير، والزيادة في الصلاة فيها أجر وثواب، ولا سيما وأن الصلاة في هذا المسجد المبارك بألف صلاة، أي صلاة فيه بألف صلاة، فلا يليق بالإنسان الناصح لنفسه أن يفوت على نفسه شيئاً من هذا الخير، وألا يصلي مع الجماعة أو لا يكمل الصلاة مع الجماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد على إحدى عشرة ركعة، لكنه ما منع الزيادة على إحدى عشرة ركعة، ولا جاء عنه ما يدل على المنع، بل جاء شيء يدل على الزيادة.

قوله: [ (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة) ].

هذا إجمالها أولاً، ثم يأتي تفصيلها.

قوله: [ (كان يصلي ثماني ركعات، ويوتر بركعة، ثم يصلي) قال مسلم : (بعد الوتر) ثم اتفقا (ركعتين وهو قاعد) ].

يعني: مسلم الذي هو أحد الشيخين.

قوله: [ فإذا أراد أن يركع قام فركع ويصلي بين أذان الفجر والإقامة ركعتين ].

ذكرتها إجمالاً وذكرتها تفصيلاً.

ومعناه: أنها حسبت سنة الفجر من قيام الليل، مع أن صلاة الفجر كما هو معلوم هي في النهار وليست في الليل؛ لأن اليوم يبدأ يبدأ بطلوع الفجر، فهي صلاة الفجر من النهار، وإن كانت في غلس إلا أنها في النهار؛ لأن النهار يبدأ بطلوع الفجر، كما أن صلاة المغرب بالليل وليست بالنهار؛ لأنها تكون بعد غروب الشمس، والليل إنما يبدأ بغروب الشمس، وينتهي الليل بطلوع الفجر.

وقد سبق أن عرفنا أن الإمام أبا داود رحمه الله -وهذا من فقهه وهو قليل في كتابه- يذكر شيئاً من الفقه وقد مر بنا أنه قال: إذا كان الإنسان عليه جنابة ثم اغتسل للجنابة بعد طلوع الفجر فإنه يغنيه عن غسل الجمعة؛ لأنه حصل بالنهار، يعني: حصل في نهار الجمعة.

تراجم رجال إسناد حديث (أن نبي الله كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة...)

قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل ].

موسى بن إسماعيل التبوذكي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ومسلم بن إبراهيم ].

مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ قالا: حدثنا أبان ].

أبان بن يزيد العطار ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ عن يحيى عن أبي سلمة ].

وهو: يحيى بن أبي كثير اليمامي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عائشة ].

عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق ، وهي من أوعية السنة وحفظتها، ومن السبعة الأشخاص الذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث (ما كان رسول الله يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا القعنبي عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه أخبره أنه سأل عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ؟ فقالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، قالت عائشة رضي الله عنها فقلت: يا رسول الله! أتنام قبل أن توتر ؟ قال: يا عائشة ! إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) ].

أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها وفيها: بيان صفة من صفات أو كيفية من كيفيات صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، وأنه لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة).

ثم بينت ذلك بقوله: (يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً)، معناه: تصير أربع وأربع وثلاث، المجموع إحدى عشرة ركعة، فقالت عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! أتنام قبل أن توتر؟ قال: إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام.

تراجم رجال إسناد حديث (ما كان رسول الله يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة...)

قوله: [ حدثنا القعنبي ].

عبد الله بن مسلمة بن قعنب ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب إلا ابن ماجة .

[ عن مالك ].

مالك بن أنس ، إمام دار الهجرة، الإمام المشهور، حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ].

سعيد بن أبي سعيد المقبري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي سلمة عن عائشة ].

أبو سلمة وعائشة قد مر ذكرهما.

السؤال: قولها: (يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن, ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن) ألا يدل هذا على أنه ليس المراد السرد أربعاً وإنما تشابهن بالحسن والطول ؟

الجواب: يمكن وهو محتمل أنه كان لا يسردهن، ولكنه جاء السرد وعدم الفصل في أحاديث واضحة يعني: لا يجلس إلا في آخرها.

لكن بالنسبة لهذه محتمل أن يكون يأتي بها ثنتين ثنتين، فقد تكون متساوية، وقد تكون متفاوته، وقد تكون أربعاً متصلة، وأربعاً متصلة، وقد تكون ثنتين ثنتين، ثم ثنتين ثنتين، يعني: يكون هذا في بيان الحسن والطول، فالاحتمال موجود في هذا وفي هذا، لكن الوصل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث أنه لا يجلس إلا في آخرها.

السؤال: إمام عادته في صلاة التراويح يصلي ركعتين ويسلم فسها وقام إلى الثالثة، هل له أن يتم أربعاً أو يرجع؟

الجواب: لا، له أن يرجع، أقول: إذا كان قد قام وبدأ بالركعة الثالثة فله أن يواصل ويصلي أربعاً، وينبغي له أن يسجد للسهو؛ لأن الذي حصل منه سهو لكونه قام إلى الثالثة، وما تعمد لذلك، أما إذا كان متعمداً لذلك فإنه يجوز ولكنه لا يسجد للسهو.

شرح حديث عائشة الطويل في بيان مراحل قيام الليل

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا حفص بن عمر حدثنا همام حدثنا قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام قال: (طلقت امرأتي، فأتيت المدينة لأبيع عقاراً كان لي بها، فأشتري به السلاح وأغزو، فلقيت نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد أراد نفر منا ستة أن يفعلوا ذلك فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فأتيت ابن عباس رضي الله عنهما فسألته عن وتر النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أدلك على أعلم الناس بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأت عائشة رضي الله عنها، فأتيتها، فاستتبعت حكيم بن أفلح فأبى، فناشدته فانطلق معي، فاستأذنا على عائشة رضي الله عنها، فقالت: من هذا؟ قال: حكيم بن أفلح ، قالت: ومن معك؟ قال: سعد بن هشام ، قالت: هشام بن عامر الذي قتل يوم أحد؟ قال: قلت: نعم، قالت: نعم المرء كان عامر ، قال: قلت: يا أم المؤمنين! حدثيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، قال: قلت: حدثيني عن قيام الليل؟ قالت: ألست تقرأ: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]؟ قال: قلت: بلى، قالت: فإن أول هذه السورة نزلت، فقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت أقدامهم، وحبس خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً، ثم نزل آخرها فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة.

قال: قلت: حدثيني عن وتر النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان يوتر بثمان ركعات لا يجلس إلا في الثامنة، ثم يقوم فيصلي ركعة أخرى لا يجلس إلا في الثامنة والتاسعة، ولا يسلم إلا في التاسعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني! فلما أسن وأخذ اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فتلك هي تسع ركعات يا بني! ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة يتمها إلى الصباح، ولم يقرأ القرآن في ليلة قط، ولم يصم شهراً يتمه غير رمضان، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها، وكان إذا غلبته عيناه من الليل بنوم صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، قال: فأتيت ابن عباس فحدثته فقال: هذا والله هو الحديث، ولو كنت أكلمها لأتيتها حتى أشافهها به مشافهة قال: قلت لو علمت أنك لا تكلمها ما حدثتك) ].

أخرج أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها هذا الطويل الذي مشتمل على ما يتعلق بصلاة الليل وعلى الوتر وعلى مسائل عديدة اشتمل عليها هذا الحديث.

والحديث فيه أن سعد بن هشام طلق زوجته، يعني: يريد أن يتفرغ للجهاد، ويتخلى عن زوجته؛ ليكون ما عنده إلا الجهاد، فقدم المدينة ليبيع عقاراً له ويستفيد من ذلك العقار في جهاده، فلقي نفراً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا له: لا تفعل، فإن نفراً منا أرادوا ما أردت وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فهو عليه الصلاة والسلام مبق على أهله، ويصلي وينام، ويصوم ويفطر، ويتزوج النساء، ولا يتخلى عن ذلك من أجل التفرغ للعبادة والجهاد في سبيل الله، وإنما يمكن أن يجمع بين هذا وهذا، فلما أخبروه بذلك أراد أن يسأل عن مسائل من العلم وعن شيء من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى ابن عباس ليسأله عن وتر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل أدلك على من هو أعلم بذلك؟ اذهب إلى عائشة ، فذهب إلى حكيم بن أفلح وطلب منه أن يصحبه، فأبى، فألح عليه فمشى معه إلى عائشة ، ولما استأذنوا أخبر حكيم عن نفسه، قالت: ومن معك؟ قال: سعد بن هشام ، قالت: هشام بن عامر ؟ قال: نعم، ثم إنه سألها عدة أسئلة أولها.

قوله: [ (قال: قلت يا أم المؤمنين! حدثيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما تقرأ القرآن؟ كان خلقه القرآن) ].

يعني: أن كل ما في القرآن من أخلاق وآداب وأعمال هو خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يمتثل بكل ما جاء في القرآن، وكل ما جاء في كتاب الله عز وجل يطبقه وينفذه، فهذا هو خلق رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولهذا بينت عائشة في هذا الحديث أن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، يتخلق بأخلاقه، ويتأدب بآدابه، ويعمل بما فيه، فيمتثل كل ما أمر به، وينتهي عن كل ما نهي عنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

فهذا خلقه الذي أثنى الله عز وجل عليه فيه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فهذا الخلق العظيم الذي تخلق به الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرت عائشة بأنه تطبيقه للقرآن وتنفيذه له، وتأدبه بآداب القرآن، وعمله بما جاء في القرآن.

قوله: [ (قال: قلت: حدثيني عن قيام الليل؟ قالت: ألست تقرأ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]؟ قال: بلى، قالت: فإن أول هذه السورة نزلت، فقام أصحاب رسول الله حتى انتفخت أقدامهم، وحبس خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً، ثم نزل آخرها فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة) ].

وقوله: (حبس آخرها في السماء) يعني: أنها لم تنزل من الله عز وجل إلا بعد سنة، والمقصود بالسماء: العلو، يعني: ما جاءت من الله من السماء إلا بعد مضي سنة، والله عز وجل في السماء كما قال: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، يعني: في العلو فوق المخلوقات، وكلما علا فهو سماء، ولا يكون السماء مقيداً بالسماوات المبنية، بل ما بعد السماوات المبنية، وما بعد العرش، وما فوق العرش كله يقال له: سماء، وليس فوق العرش إلا الله سبحانه وتعالى، والله تعالى في السماء فوق العرش، ولا يكون في داخل السماوات؛ لأن الله أجل وأعظم وأكبر من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، ولكنه فوق عرشه في السماء يعني: في العلو.

ولهذا الجارية التي سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أين الله؟ قالت: في السماء)، يعني: في العلو، الله سبحانه وتعالى في العلو فوق العرش.

قوله: [ (قال: قلت: حدثيني عن وتر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كانت يوتر بثمان ركعات لا يجلس إلا في الثامنة، ثم يقوم فيصلي ركعة أخرى، لا يجلس إلا في الثامنة والتاسعة، ولا يسلم إلا في التاسعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني! فلما أسن وأخذ اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فتلك تسع ركعات يا بني!) ].

ثم سألها -أي: سعد بن هشام - عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بشيء من بعض أحواله عليه الصلاة والسلام؛ لأن أحواله عديدة، وقد أخبرت في أحاديث عديدة بإحدى عشر وبثلاث عشرة وبتسع، فأخبرته هنا بأنه كان يصلي ثمانية لا يجلس إلا في آخرها، وإذا جلس في آخرها لا يسلم، ولكنه يقوم للتاسعة، ثم يجلس بعدها ويتشهد ثم يسلم، يعني: يصلي ثمان ركعات، ولا يسلم إلا بعد التاسعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فتكون بذلك كملت الإحدى عشر، ولما أسن وتقدمت به السن وكبر صلى الله عليه وسلم كان يصلي سبعاً وستاً، وستة، يعني: يصلي ستاً يجلس بعد السادسة، ثم يقوم للسابعة، ويجلس بعدها ويسلم.

وهذا هو أقل ما حفظ عنه صلى الله عليه وسلم الذي هو سبع، وكان ذلك في آخر أمره كما أشارت إلى ذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها بهذا الحديث.

قوله: [ (ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة يتمها إلى الصباح) ].

يعني: معناه يصلي الليل كله ما فعل ذلك ولا ليلة واحدة، كونه يصلي الليل من أوله إلى آخره ما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل جاء عنه لما ذكر له الذين أرادوا أن يتعبدوا، وأن يعتزلوا النساء، وأن يصوموا ولا يفطروا وكذا، قال: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، أما أني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

فهو لم يصل ليلة حتى الصباح، يعني: ما صلى الليل كله من أوله إلى آخره، ولا قرأ القرآن.

قوله: [ (ولم يقرأ القرآن في ليلة قط) ].

يعني: ما واصل القراءة في الليل حتى يتم القرآن سواء كان ذلك في صلاة أو في غير صلاة، ما حصل أنه أتم القرآن في ليلة قط.

قوله: [ (ولم يصم شهراً يتمه غير رمضان) ]

ولم يصم شهراً يتمه غير رمضان، ولكن أكثر ما كان يصوم في شعبان، ولكنه لم يصم شهراً كاملاً إلا رمضان صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

قوله: [ (وكان إذا صلى صلاة داوم عليه) ].

ومن ذلك ركعتا الظهر اللتان قضاهما بعد العصر، ثم داوم عليهما، وهذا من شواهد هذا الكلام الذي قالته عائشة ، يعني: تلك الصلاة التي كان يصلي وداوم عليها صلى الله عليه وسلم.

قوله: [ (وكان إذا غلبته عيناه من الليل بنوم صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة) ].

وكان إذا غلبته عيناه في نوم من الليل أو حصل له مرض كما جاء في بعض الأحاديث صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة؛ لأن الضحى يصلي ثنتي عشرة ركعة، يعني: الإحدى عشر ويضيف إليها ركعة حتى تكون شفعاً، ولا تكون وتراً في النهار، مقدار الذي يصلى يؤتى به، ولكنه يؤتى به مع إضافة ركعة يشفع بها العدد الذي هو إحدى عشر؛ لأن الوتر لا يكون في النهار وإنما يكون في الليل، ولكنه يمكن أن يقضى ويتدارك، وأن الإنسان يحافظ عليه، وإذا فاته يقضيه، ولكنه إذا قضاه لا يقضيه على هيئته تماماً، فيوتر بالنهار بل يضيف إلى ذلك ركعة.

قوله: [ (قال: فأتيت ابن عباس فحدثته، وقال: هذا والله هو الحديث، ولو كنت أكلمها لأتيتها حتى أشافهها به مشافهة، قال: قلت: لو علمت أنك لا تكلمها ما حدثتك) ].

وكان طلب منه أن يأتي إليه ويخبره بما تحدثه به عائشة رضي الله عنها، فجاء وأخبره بالحديث وأعجبه ذلك، قال: هذا والله هو الحديث، ثم قال: لو كنت أكلمها لأخذت ذلك منها مشافهة، ومعنى هذا أنه تحمله وأخذه عن هذا التابعي، قال: ولو كنت أكلمها لذهبت إليها وشافهتها، ولا أدري عن سبب هذا الكلام الذي أشار إليه، أو الذي جاء ذكره في هذا الحديث.

هل قيام الليل واجب على النبي صلى الله عليه وسلم؟ يعني: هل النسخ باق على النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أم أنه باق في حقه صلى الله عليه وسلم على الوجوب؟

الجواب: هذا الحديث يفيد بأنه نسخ الوجوب عن الجميع؛ لأنها قالت: (فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة).

تراجم رجال إسناد حديث عائشة الطويل في بيان مراحل قيام الليل

قوله: [ حدثنا حفص بن عمر ].

حفص بن عمر ، ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي .

[ حدثنا همام ].

همام بن يحيى ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا قتادة ].

قتادة بن دعامة السدوسي البصري ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن زرارة بن أوفى ].

زرارة بن أوفى ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سعد بن هشام ].

سعد بن هشام ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عائشة ].

عائشة قد مر ذكرها.

حديث عائشة الطويل في بيان مراحل قيام الليل من طريق ثانية

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد عن سعيد عن قتادة بإسناده نحوه قال: (يصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيجلس فيذكر الله عز وجل، ثم يدعو، ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم، ثم يصلي ركعة، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني! فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم أوتر بسبع وصلى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم بمعناه إلى: مشافهةً) ].

أورد أبو داود حديث سعد بن هشام من طريق أخرى، وفيه بيان الكيفية تختلف عن الكيفية السابقة، والكيفية السابقة أنه يصلي ثمانياً ثم يجلس ويدعو ويقوم للتاسعة، ولا يسلم إلا بعد التاسعة، وهذا فيه أنه سلم بعد الثامنة، وفيه أنه صلى ركعتين ثم سلم ثم صلى ركعة، فصارت ثمانية مع بعض بسلام واحد وركعة بسلام واحد.

وهذه هيئة أخرى وكيفية أخرى من كيفيات الصلاة، صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

قوله: [ (يصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة فيجلس فيذكر الله عز وجل، ثم يدعو ثم يسلم تسليماً يسمعنا) ].

يعني: يذكر الله في التشهد، يتشهد ويدعو.

قوله: [ (ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم) ].

فجعل الركعتين اللتين كانتا بعد الوتر أنه أتى بهما قبل الوتر.

وهذه الكيفية مخالفة لما سبق، لكن الطرق كلها صحيحة، وصلاة الليل كما هو معلوم أكثر طرقها صحيحة، ولكن كونها قصة واحدة ورواية واحدة يمكن أن يكون بعضها فيه شيء، لاسيما والمعروف منه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي ركعتين وهو جالس بعد السلام من الوتر.

وهذه يمكن أن تكون شاذة، ولكن إسنادها صحيح وإذا جاءت كيفيات أخرى غير هذه الكيفية في غير هذا الحديث فلا تكون شاذة، يعني: يكون لها شواهد ولها شيء، وإنما الإشكال كونه يحكى عن قصة واحدة وعن حديث واحد هذا هو الذي فيه الإشكال.

قوله: [ ثم يصلي ركعة فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني! فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم أوتر بسبع، وصلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ].

فلما أسن وأخذه اللحم صلى وأوتر بسبع وصلى ركعتين وهو جالس بعد.

قوله: [ بمعناه إلى: مشافهة ].

يعني: معنى الحديث إلى آخره، أظن في بعض النسخ قالوا: إليّ، أظن في

وقولها: (يا بني) معناه: الكبير يقول لمن هو دونه: يا بني! وهي أيضاً أم المؤمنين، يقولون لها: يا أماه! وهي تقول: يا بني! والكبير يقول للصغير: يا بني! مثل ما جاء في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأنس : يا بني!).

وكذلك الصغير يقول للكبير: يا عم! كما جاء في بعض الأحاديث، كذلك في قصة الصحابيين من الأنصار اللذين كانا في غزوة بدر، وكان أحدهما عن يمين عبد الرحمن بن عوف والثاني عن يساره، فالتفت إليه واحد منهما وقال: يا عم! أتعرف أبا جهل ؟ إلى آخره، فالصغير يقول للكبير: يا عم! والكبير يقول للصغير: يا بني!

قوله: [ إلى: مشابهة ] يعني: إلى آخره، أي: هذا الحديث الطويل بمعناه؛ لأنه أتى ببعضه والذي أراد أن يأتي به وهو المتعلق بالوتر والترجمة هو الباقي أحال عليه بالمعنى إلى آخره.

تراجم رجال إسناد حديث عائشة الطويل في بيان مراحل قيام الليل من طريق ثانية

قوله: [ حدثنا محمد بن بشار ].

محمد بن بشار هو الملقب بندار البصري ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل وشيخ لأصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا يحيى بن سعيد ].

يحيى بن سعيد القطان ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سعيد عن قتادة بإسناده نحوه ].

سعيد هو: ابن أبي عروبة ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

و قتادة مر ذكره.

حديث عائشة الطويل في بيان مراحل قيام الليل من طريق ثالثة وتراجم رجاله

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشر حدثنا سعيد بهذا الحديث قال: يسلم تسليماً يسمعنا، كما قال يحيى بن سعيد ].

أورد طريقاً أخرى وقال فيها: (يسلم تسليماً يسمعنا)، يعني: أنه يسمعهم تسليمه، ومعناه: أنه يجهر بالتسليم.

قوله: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ].

ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .

[ حدثنا محمد بن بشر ].

محمد بن بشر ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا سعيد بهذا الحديث ].

سعيد قد مر ذكره.

حديث عائشة الطويل في بيان مراحل قيام الليل من طريق رابعة وتراجم رجاله

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد بهذا الحديث، قال ابن بشار : بنحو حديث يحيى بن سعيد إلا أنه قال: ويسلم تسليمة يسمعنا ].

وهو مثل ما قال له، قال: تسليمة يسمعنا، وهذا لا ينفي أن يكون هناك غير التسليم وهنا تسليمتان، وإنما معناه يحمل على أنهم يسمعون تسليمة واحدة.

قوله: [ حدثنا محمد بن بشار حدثنا

استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2890 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2842 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2731 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2702 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2693 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2686 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2679 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2654 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2650 استماع