صناعة السعادة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يكفره.

ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى أصحابه وأزواجه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الأحبة! صناعة السعادة معنىً كبير، ولا أكتمكم أني جمعت فيه الكثير الكثير حتى تحيرت فيما أختار لكم، فوجدتني بعد تلخيص التلخيص مقتصراً على ثلاثين فقرة أو ثلاثين عنواناً، وإذا كان الوقت المخصص لها ساعةً فحسب، فمعنى ذلك: أن كل عنوان يجب ألا يتجاوز دقيقتين فقط، فأسأل الله لي ولكم العون والفهم والسداد.

السعادة لا يمكن الوصول إليها بكنوز الفضة والذهب؛ لأنها أغلى من كنوز الدنيا كلها.

السعادة كاللؤلؤ في أعماق البحار, بحاجة إلى غواصٍ ماهر يتقن صنعة الاكتشاف.

السعادة هي مواقفك، وكلماتك، وتطلعاتك، ونظراتك إلى الحياة بواقعية وأمل وتفاؤل وإشراق.. ابحث في داخلك، ففي أعماقك كنز ثمين حين تكتشفه تعرف معنى الحياة:

دواؤك منك ولا تبصـر     وداؤك فيك وما تشعر

وتزعم أنك جرم صغير     وفيك انطوى العالم الأكبر

بسمة طفل طهور.. لهج لسان صادق.. عفو قلب متسامح.. هدية بلا منٍّ ولا أذى.. خفقة حب حنون.. هدف نبيل.. كرب ينكشف.. نعمة تتحقق.. ساعة جهد وعمل وعرق تعقبها راحة ونجاح وسرور.

إنها معنىً لا يعرف بالعين، ولا يقاس بالكم، ولا تحتويه الخزائن، ولا يشترى بالدولار أو بالدينار أو بالجنيه أو بالروبل.

إنها صفاء نفس، وطمأنينة قلب، وانشراح صدر، وراحة ضمير، من الداخل تأتي وليست تستورد من الخارج.. لفظ حلو يبعث على الروح والهمة والنشاط، كلمة سحرية لها رنين رقيق.. ضمير نقي.. نفس هادئة.. قلب شريف.. ميراث رضواني قد يجدها الفقير ويحرم منها الغني.. حقيقة من الحقائق لا يتوصل إليها عن طريق الخيال.

لكن يا ترى ماذا تعني السعادة في نظرهم؟!

في استفتاء أجري على حوالي ستة عشر ألف إنسان، سئلوا فيه: ما هي السعادة؟

كانت إجاباتهم كالتالي:

أولاً: السعادة هي الحب (35%) تقريباً.

ثانياً: السعادة هي الرضا (28%).

ثالثاً: السعادة هي الصحة (17%).

رابعاً: السعادة هي الزواج (7%).

خامساً: السعادة هي المال (5.5%).

سادساً: السعادة هي الأطفال، حوالي (4%).

ولقد ذكر الأستاذ العقَّاد قصة لزميل له رسام حاول أن يتخيل السعادة أي شيء تكون، فتصورها في صورة فتاة مراهقة تركض ذات اليمين وذات الشمال، في قوة ودعة واندفاع، وشعرها يتطاير يمنة ويسرة.

يقول: فاستدركت عليه وقلت له: إنني أتخيل السعادة وهي تجاوزت هذا العمر، فهي ليست في فترة الغرارة والجهالة والصبا والاندفاع، وإنما هي في فترة التجربة والقوة والخبرة، وأيضاً ليست السعادة شيئاً كهذا، إن هذا يمكن أن يعبر عنه بالفرح أو بالقوة أو بالاندفاع أو بالمراهقة، أما السعادة فإنها شيء فيه معنى الرضا والاكتفاء، فلا بد أن تكون ملامحها راضية هادئة حزينة مؤمنة، ولا بد من ألم تلطفه الذكرى، ولذة يطهرها الحنو، ونشاط يلوح عليه التعب والإعياء.

السعادة -أيها الحبيب- ذوق ووجد وإحساس، ليست معنىً علمياً نظرياً، ولا شيئاً يرسم بالحدود والتعريفات كما ترسم المسائل العلمية. قد تطرق السعادة باب الإنسان فيعرض عنها وهو أحوج ما يكون إليها، ومن ذلك مثلاً: سعادة الطفولة والصبا، فإن الكثيرين يستمتعون بالسعادة ولا يعرفون اسمها.

إن كانت السعادة بالمال مثلاً فالجبال والمناجم أقوى وأكثر منا سعادة.

وإن كانت بالجمال والزينة والنُضرة فالورود والشقائق أجمل وأتم زينة.

وإن كانت بالبطش والقوة والطغيان وجهارة الصوت، أو قوة الشباب والجنس، أو كثرة الأكل أو فورة الغضب فالوحوش أقوى وأتم سعادة منا.

أما إن كانت السعادة في الأخلاق العالية، والروح المهذبة، والقول الرشيد، والصنعة الرفيعة، فإن الإنسان هو الأجدر بها.

ثانياً: السعادة والعبادة.

- أولاً: الفرائض.

(وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه) .. مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].

- ثانياً: النوافل.

(وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه).

- ثالثاً: الذكر.

ذِكْرُ الله عز وجل: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، يقول ابن القيم رحمه الله: حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة، فصلى الفجر ثم جلس يذكر الله إلى قريب من منتصف النهار، ثم التفت إليَّ وقال لي: (هذه غدوتي لو لم أتغدها لم تحملني قواي).

- رابعاً: قراءة القرآن.

وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً [الإسراء:82].

- خامساً: البر بأنواعه.

إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13]، يقول ابن تيمية رحمه الله ما محصلُّه: أن هذه الآية عامة في الدنيا والآخرة، فللأبرار نعيم في الآخرة يذوقون أوله ومباديه في الدنيا، وللفجار عذاب وجحيم في الآخرة يذوقون مباديه في الدنيا.

- سادساً: الصلاة.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال !) .. ويقول عليه الصلاة والسلام: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) فإذا أقبل على صلاته فلا شيء يشغله من أمر الدنيا.

- سابعاً: معرفة الله عز وجل.

حتى قال ابن تيمية رحمه الله: (إنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طرباً، حتى إنني أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فإنهم لفي عيش طيب).

إن الإنسان لم يكتب له في هذه الدنيا أن يرى ربه، ولكنه يرى آثار صنعته فيؤمن به؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك

إلهي رأيتك، إلهي سمعت

تعاليت لم يبد شيء لعيني     تباركت لم يمض صوت بأذني

ولكنّ طيفاً بقلبي يطـل     ومن طيفه كل نور يهل

(ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً).

أمريكي كان مديراً لشركة كبيرة، وقد تحصَّل له المال والجاه، ومع ذلك كله كان لا ينام الليل من الهم والقلق والحزن والتوتر، وكان عنده من العاملين شاب عربي مسلم، موظف بسيط عادي في نفس هذه الشركة، وكلما رآه المدير تعجب، فإن السعادة تفيض من جوانحه وأطرافه وقسمات وجهه، فهو دائماً وأبداً ضحوك بسَّام متهلل مهما ادلهمت عليه الخطوب، فسأله وقال له: ما الذي يجعلك هكذا؟

قال: لأنني مؤمن مسلم أقرأ كتاب الله عز وجل، وأعمل بأمره، فإن حييت فأنا في طاعته، وإن مت فإلى رحمته وجنته ورضوانه بحوله وقوته.

فقال له: خذ بيدي إلى الطريق.

وذهب به إلى مركز إسلامي، فأمروه أن ينطق الشهادتين، ولقنَّوه إياها، وبعدما عرفوه مبادئ الإسلام، وآمن بها، انطلق في نوبةٍ عارمةٍ من البكاء فسألوه عن السبب، قال: لقد أحسست اليوم بسعادة تغمر قلبي، وتتسلل إلى فؤادي، لم أشعر بها من قبل.

ثالثاً: السعادة والإيمان.

لقد سجَّل الله عز وجل أن: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] فالسعادة الحقيقية في القلوب، ولا يملأ القلوب ويجمع شعثها إلا محبة الله عز وجل، والإيمان به، ولهذا قال سبحانه: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] فالهداية سعادة في القلب في الدنيا ورضاً في الآخرة.

هذا الأستاذ بودلي يحكي تجربته العجيبة:

عاش بين الأعراب في الصحراء الغربية في بلاد المغرب العربي، وارتدى زيَّهم، وأكل طعامهم، وأخذ عاداتهم، وامتلك مثلهم قطيعاً من الغنم، وكتب كتاباً بعنوان: الرسول ، يبدي فيه إعجابه الشديد بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، يقول:

تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق، وهم يؤمنون بالقضاء والقدر، فيعيشون في أمان، لكنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي أمام الكارثة، يقول: هبت ذات يوم عاصفة رملية شديدة؛ شتتت هؤلاء الناس، وقتلت من مواشيهم ما قتلت، وما هدأت هذه العاصفة إلا وبعضهم يضحك إلى بعض، وهم يعددون الإيجابيات ويقولون: الحمد لله لقد بقي من غنمنا أكثر من (40%).

يقول مرة أخرى: كنا نقطع الصحراء على سيارةٍ فانفجر الإطار، وأصابتني نوبة من الغضب، وقلت للسائق: كيف تفعل هذا -وقد نسيت الإطار الاحتياطي- وتتركنا في هذه الصحراء ؟

قال: فالتفتوا إليَّ وقالوا لي: إن الغضب لا يصنع شيئاً، عليك بالهدوء.

ومشت السيارة على ثلاث إطارات، وبعد قليل توقفت لنكتشف أن البنزين قد انتهى أيضاً، يقول: فانطلقوا يمشون بهدوء وراحة على أقدامهم في هذه الصحراء دون غضب ولا انفعال، لقد أقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء أن المتفائلين ومرضى النفوس والسكيرين ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة والعجلة أساساً لها.

إن الحياة إذا خلت من الإيمان بالله عز وجل فهي صحراء قاتلة، وانتحار عاجل:

إذا الإيمان ضاع فلا أمان     ولا دنيا لمن لم يبك دينا

ومن رضي الحياة بغير دينٍ     فقد جعل الفناء لها قرينا

رابعاً: السعادة والرضا.

أعلى درجات الصبر هو الرضا، ولا يبلغه إلا من آتاه الله إيماناً وصبراً جميلاً، فتراه راضياً بما حلَّ به؛ سواء كان الذي حلَّ به فقراً، أو مصيبةً، أو علةً، أو غير ذلك، فهو يدري أن ذلك بقضاء الله عز وجل:

أيُّ يوميَّ من الموت أفر     يوم لا قدر أم يوم قدر

يوم لا قدر لا أرهبه     ومن المقدور لا ينجو الحذر

يحدثنا التاريخ مثلاً: [أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كفَّ بصره، وكان مجاب الدعوة، فربما جاءه الناس فدعا لهم فاستجاب الله دعاءه، فقال له قائل: لم لا تدعو لنفسك يا سعد ؟!

قال: يا بني! قضاء الله عندي أحسن من بصري]

إن الساخطين والشاكين لا يذوقون للسرور طعماً، فحياتهم كلها ظلام وسواد، أما المؤمن الحق فهو راضٍ عن نفسه، راضٍ عن ربه، موقنٌ أن تدبير الله عز وجل أفضل من تدبيره نفسه، ينادي ربه ويقول: بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26].

خامساً: السعادة والعمل.

اسعد في عملك بتحقيق المراقبة الذاتية، فالعمل فرصة لذلك.. العمل فرصة لأن تكسب علاقات طيبة مع الآخرين، وتبني جسور الأخوَّة مع إخوانك المؤمنين، وتتواصل معهم من خلال التعامل اليومي.. اقتنع بالعمل، وتفهم تفاصيله، واندمج فيه، وحقق النتائج والنجاح حتى تشعر بذاتك وسعادتك.

انظر إلى الحياة نظرةً متفائلة وإيجابية، وإياك وكثرة الشكوى والتبرم والقلق.

استثمر النجاح ولو كان نجاحاً قليلاً، واستفد منه في طلب المزيد.

من الجيد أن تحتفظ بالحماس، حتى لو كانت الأمور تسير على غير ما يرام.

لا تدع الملل والسأم يفسدان حياتك، وأعط نفسك إجازة استرخاء بين الفينة والأخرى: جدد نشاطك يومياً مع زملائك واخلق معهم جواً من الود والتفاؤل والمرح والعمل الجاد.

الكثيرون منا يطفئون عود الثقاب قبل أن يتأكدوا من اشتعال الشمعة، فلا هو أشعل الشمعة، ولا هو استفاد من عود الثقاب مع أنه قد بذل جهداً.

أراد رجلٌ أن يغير العالم، فمكث عشرين سنة وهو يحلم بهذا التغيير، ولكنه لم يأت، فقال: إذاً فلأغير دولتي، فمكث عشر سنوات ولكن الوضع كما هو.. إن لم يكن أسوأ، فقال: إذاً فلأغير المدينة وخصصَّ له خمس سنوات ولكن دون جدوى، ففكر أن يغير الحي وخصص له عاماً كاملاً ولم يتغير شيء، وأخيراً قال: الدائرة الأضيق أغير بيتي وخلال ستة أشهر لم يتغير من البيت شيء، فقال: الآن وجدتها، فلأبدأ بتغيير نفسي.

نعم! قد تكون المشكلة في المرآة وقد تكون المشكلة في الصورة، فعلينا أن نبدأ بتغيير أنفسنا حتى تكون أحكامنا على الأشياء صحيحة، وحتى نكون قادرين على إدارة عملية التغيير.

سادساً: السعادة والتعامل.

الإحسان إلى الناس من أعظم أبواب السعادة:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم     فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

وفي الأثر: [إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم] ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجالساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويُؤلفون).

وقد روي عن بعض السلف أنه كان يقول: (إنه لتكون بيني وبين الرجل الخصومة، فيلقاني فيلقي عليَّ السلام فيلين له قلبي).

(وقد كانت الجارية تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتأخذ بيده، وتذهب به إلى أي سكك المدينة شاءت).

إن الانشغال بعمل مفيد، أو عمل نافع، أو محاولة الإبداع فيما يحسن الإنسان وفيما ينفع به الناس من أبواب السعادة.

إن تخفيف النكبات على الآخرين -(الساعي على الأرملة والمسكين أنا وهو في الجنة كهاتين)- وطلاقة البشر -الوجه- والعفوية، والتماس الأعذار، وعدم البحث عن سلبيات الآخرين، أو اتهام النفس قبل الغير -خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]-.

أعط من حرمك، واعف عمن ظلمك، وابذل نداك، وكف أذاك، وتعاهد من وصلته بمعروفٍ جديد، تجد السعادة في عالمك.

من هو أسعد البشر؟!

إنه ذلك الذي يقدر مواهب الآخرين، ويشاركهم في غبطتهم كما لو كانت غبطته هو، يقول الأستاذ مصطفى أمين : أشعر بسعادة غامرة عندما أستطيع أن أرسم ابتسامة على شفاهٍ حزينة، أو أمسح دمعة من عين باكية، أو أن أمد يدي إلى إنسان سيئ الحظ وقع على الأرض فأساعده على الوقوف.

إن السعادة الكبرى هي في العطاء وليست في الأخذ:

تراه إذا ما جئته متهللاً     كأنك تعطيه الذي أنت آخذه

أولئك الذين يكرهون الآخرين ويحزنون لنجاحهم هم في الحقيقة يطردون السعادة من قلوبهم بإرادتهم.

سابعاً: السعادة والقناعة.

الإنسان مطبوع على حب الدنيا وما فيها.. السعيد ليس من ينال كل ما يرغب، وإنما السعيد من يقنع بما أعطاه الله عز وجل، قال سعد بن أبي وقاص لولده: [يا بني! إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإن لم تكن قناعة فإنه ليس يغنيك مال مهما كثر].

وفي الترمذي يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا).

حاتم الأصم ترك أولاده وبناته دون نفقة وذهب، فسقوا رجلاً، وتبين بالصدفة أنه أمير، فأعطاهم وأغناهم، فقالت البنت لأمها وهي تبكي: انظري يا أماه! هذا مخلوق نظر إلينا فاستغنينا فكيف لو نظر الخالق جلَّ وعزَّ إلينا؟!!

عمر بن عبد العزيز رحمه الله قبل الخلافة أمر أن يشترى له مطرف خزّ -حرير- فاشتري له بألف دينار، ووضع يده عليه وقال: ما أخشنه. فلما ولي الخلافة أمر أن يشترى له ثوب بثمانية دراهم، فلما جيء به إليه وضع يده عليه وقال: ما أرقه! ما ألينه! ما أنعمه!

رب صاحب قصر يتمنى السعادة، وربَّ فقير يعيش في كوخ وهو يتظلل ويظلل أهله بالسعادة.

من أراد السعادة فلا يسأل عنها المال، ولا الذهب والفضة، ولا القصور والبساتين أو الرياحين، بل عليه أن يسأل عنها نفسه التي بين جنبيه؛ فإن القناعة هي ينبوع السعادة وهناءته:

أطعت مطامعي فاستعبدتني     ولو أني قنعت لكنت حرا

ثامناً: السعادة والصحة.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) ويقول المثل: (الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى) يقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247].

استخدم صحتك البدنية فيما يسعدك ويسعد الآخرين، تعاوناً على البر والتقوى، وتآمراً بالمعروف، وتناهياً عن المنكر، فـ (إن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) .. (ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

حافظ على صحتك باعتدال، ولا تكن أسير الأوهام والمخاوف.

من الصحة أن تعتني بنظافة بدنك؛ كنظافة الوجه والفم والشعر والجسم ظاهراً وباطناً، والعناية بطيب الرائحة؛ فإنه لم يكن أحدٌ أطيب رائحة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كأنه أخرج من جؤنة عطَّارٍ.

وكذلك جمال الثياب: (فإن الله تعالى جميل يحب الجمال) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك العناية بطيب المطعم والمشرب وجودة الطعام، وأن يكون من حلال، وتناوله بهدوء وراحة وسعة بال.

تاسعاً: العادة والسعادة.

هناك عادات عشر لا بد أن يتعلمها الإنسان:

العادة الأولى: أن يسعى للتميز والتفوق والنجاح.

إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء:90] .. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة:10] .. ( أقربكم مني مجالساً يوم القيامة ).

العادة الثانية: تحديد الأهداف.

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه [الزلزلة:7-8].

العادة الثالثة: ترتيب الأولويات.

إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103]، وفي وصية أبي بكر رضي الله عنه يقول: [إن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، ولله عمل بالنهار لا يقبله بالليل].

العادة الرابعة: التخطيط وبُعد النظر.

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60].

العادة الخامسة: التركيز.

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2] .. (إن العبد لينصرف من صلاته وما كتب له إلا نصفها، ثلثها، ربعها، خمسها، سدسها، عشرها).

السادسة: إدارة الوقت.

وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3] .. [يا بن آدم! إنما أنت سويعات فإذا ذهب بعضك ذهب كلك].

السابعة: جهاد النفس.

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] الناجح: هو من يكون راعياً بإرادته وليس كلباً منساقاً لها.

الثامنة: براعة الاتصال.

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159].

التاسعة: التفكير الإيجابي.

وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] .. (إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة واستطاع أن يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر).

العاشرة: التوازن.

وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67] .. (إن لبدنك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فآتي كل ذي حق حقه).

عاشراً: السعادة والزواج.

المرأة التي لم تدغدغ أنامل الحب عواطفها هي تربة لم يشقها المحراث، إن لم ينبت فيها الزرع والثمر رعت فيها الحشرات والهوام.

إن الزواج من هدي الأنبياء والمرسلين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

الزواج استجابة لنداء الخالق عز وجل: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32]، وقوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: [من دعاك إلى غير الزواج فقد دعاك إلى غير الإسلام] ويقول: [لا يترك الزواج إلا عاجز، أو فاجر] .

الزواج هو الطريق الشرعي لقضاء الوطر: إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:6].

الزواج من أعظم نعم الله تعالى على العباد؛ فهو طريق العفة، وسبيل السعادة: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].

إنه طريق سهل ميسر لاكتساب الأجر والمثوبة: (وفي بضع أحدكم صدقة) .. (أفضل الدينار هو الدينار الذي أنفقته على أهلك) .. (وإنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله عز وجل إلا أجرت عليها، حتى اللقمة تضعها في فيَّ امرأتك).

الزواج السعيد هو القائم على أسس شرعية.

الزواج قوة للأمة، وتجديد لشبابها، وتكثير لها: (تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).

وصايا للزوج: اتق الله.. كن حسن الخلق.. كن صبوراً.. كن غيوراًَ.. أنفق على زوجتك، لا تفشِ سراً.. فقه نفسك وزوجتك (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر).

وقد أسفرت دراسة أجراها أحد الأطباء النفسانيين عن أن النساء أقدر من الرجال على استيعاب السعادة، وعلى استيعاب النحاسة والشقاوة والتعاسة في الوقت ذاته، فإذا توفر للمرأة -مثلاً- قدر مناسب من مقومات الحياة: بيت طيب يؤويها، وزوج صالح، وأطفال، وأيضاً لم تكن المرأة أصيبت بالسمنة، فإنها حينئذٍ تكون أسعد من الرجل، بينما على النقيض من ذلك إذا حرمت المرأة من هذه التطلعات فإنها تتجشم من البؤس والشقاوة أضعاف ما يتجشمه الرجل وهي أعجز منه عن المقاومة.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 4989 استماع
حديث الهجرة 4948 استماع
الصومال الجريح 4132 استماع
تلك الرسل 4130 استماع
مصير المترفين 4064 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4033 استماع
وقفات مع سورة ق 3961 استماع
مقياس الربح والخسارة 3913 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3850 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3812 استماع