أرشيف المقالات

وجهة النظر الجديدة في الحياة

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للكاتب الصيني الكبير وان يون شينغ (حديث ألقاه في جمعية الثقافة المركزية بتشنغ كنغ) بقلم الأستاذ نور ناهين (تتمة ما نشر في العدد الماضي) ومع ذلك فإن في تاريخ الصين ما ينزع إلى الأمور الشخصية مثل الذي ذكرت، فمثلاً في عهد أسرة (تنغ) قد استولت على أفرادها النواحي الحزبية، واستعلن النزاع بين (نيو) و (لي)، حيث عقدوا عهداً سرياً على أن يخصوا الإمبراطور، وهذا أمر داخلي، وأما الأمر الخارجي فإنهم اتصلوا بالأجانب وشايعوهم، ثم اشترك أنصارهم (نان شاو) و (هون تسن) في النزاع واحداً بعد الآخر، حتى غرقت الدولة كلها في بحر المصائب والبلايا.
وهذا مثل آخر، أحدث في عهد أسرة (سونغ) من النزاع الحزبي بين (وان غان شي) و (يان يو) حيث نفثوا سم خصامهم حتى انتشر وأهلك دولة (سونغ).
وأشد ما يحزن ما عم في آخر عهد أسرة (مين) من بلاء (حزب) (دان لين) الذي أثر على مدة حكم الملك أسوأ التأثير.
أما ما حدث بعد إعلان الجمهورية الصينية من النزاع الحزبي والخصام، فخير لنا ألا نذكره مؤقتاً، لنتركه إلى التاريخ. إن مجتمع الصين كله ككتاب تاريخي شامل لما يترتب على الاهتمام بالأمور الشخصية.
فكم من الناس من قديم وحديث نجحوا نجاحاً باهراً في الاعتماد على المتعة الشخصية! وكم من الأشخاص، قد تحاربوا وتنافسوا بسبب الأمور الشخصية أيضاً، ذلك لأن الصينيين لا يهمهم إلا ما يعامل به بعضهم بعضاً ويهملون ما ينبغي عليهم أن يتعاملوا به كأفراد للطبيعة. فيجب علينا بعد هذا الصينيين، في هذا العصر أن نقصد إلى هدف في الحياة، ولابد أن نهدم ما يحيط بالناس من حدود، ونبتعد عن نطاق المتاع الشخصي، لنتغلب على الطبيعة مع بعض، ثم نجدد نظم المجتمع ونصلح شئون الدولة. يجب علينا أن نجل المستر (لنكولن) زعيم أمريكا المشهور، وتحترم رأيه العظيم ك الاحترام إذ إنه يريد ألا يسترق الناس أحد من الناس، ولا يرضي أن يهدد بني البشر أمثالهم، ولم يتردد في إشعال الحرب لإعتاق الرقيق.
وكان يبذل جهده لتحرير الرقيق من جهة، ويحث الناس على الهجرة من جهة أخرى، حيث دعاهم بأن يتقدموا نحو غرب أمريكا متحدين، ليفتحوا كنوز طبيعتها البكر، وهكذا مهد الطريق إلى رقى أمريكا بيديه. إن إسلوب (لنكولن) العظيم، هو هدم الحدود بين البشر لقهر الطبيعة، أو بتعبير آخر أن يتعدى الناس الحدود الضيقة الشخصية في معاملة بعضهم لبعض، ثم حثهم على الكفاح والجهاد لاقتطاف الثمرات الطبيعية للحياة، وهو أسلوب أشبه ما يمكن بأسلوب المخترعين والمكتشفين، بل إنهم من منع واحد. وبمناسبة ذكر الكفاح والحياة المثالية الطبيعية، أذكر ما أملاه على ركوب البحر من أفكار، ذلك أنن كنت غارقاً في أعمال إدارة جريدتي، في ربيع سنة 15 للجمهورية الصينية، إذ كنت في منصب رئيس التحرير والمدير العام، وكان هدف الإدارة من نواحي العمل والنظم والمقالات كخيط مستقيم، إذ نبهت أبناء وطني للثورة على الضباط الشريرين الذين يضرون الوطن ويزعجون الشعوب.
ثم تركت إدارة جريدتي مضطراً، وفررت راكباً من (تيني جيي) إلى شنغ هاي، حين وصل (تشويي يو) و (لأي جنمغ لين) إلى (تين جين) مع قواتهما.
ولما خرجت الباخرة من ميناء (تان قو)، لم أر في الدنيا إلا الماء العميق والسماء المرتفعة والتقاءهما عند الأفق، وسارت الباخرة في البحر الواسع رويداً رويداً كمغرفة القرع، وحينئذ شعرت فجأة بسعة الدنيا وصغر البشر، وفكرت في الذين لا يزالون يتنافسون ويتنازعون ويتحاربون في (تين جين)، مثلهم كمثل عرمة الديدان، لو أن تلك الجملة من الناس ألقيت في البحر، لم يبد شيء إلا الزبد والرغوة فحسب.
وعندئذ اعتقدت كل الاعتقاد أن مستقبل الإنسان لن يكون فسيحاً متسعاً، إلا بعد أن يبتعد الناس عن نطاق المتاع الشخصي الضيق، ويبذلوا أقصى جهدهم في سلوك طريق الطبيعة العظيمة الأبدية. ما أشد ما يعلق مستقبل الإنسان بآثار الحرب الحاضرة! فإن من حسن الحظ أن قام الأمريكيون يساعدون إنجلترا بقانون الإعارة والتأجير، ثم يساعدون روسيا والصين أيضاً حتى حولوا موقف دول الحلفاء من الهزيمة إلى النصر، وكان سبباً في هزيمة المحور، وأصبح العالم كله يحلم بمستقبل منير. وربما رأى بعض الحاذقين أن الأمريكيين من أشد الناس حمقاً، لأنهم يسلمون ما أنتجوا من السلاح والغذاء إلى حلفائهم بدون أي شرط، وهم قد دفعوا الضرائب الثقيلة، وسكبوا عرقاً ودماء.
ولكن الأمريكيين أنفسهم ما زالوا يخترعون هكذا، ويعطون هكذا، بل إنهم يستمرون في الاختراع والإعطاء، وبذلك أصبحت أمريكا زعيمة دول الحلفاء، وصار الرئيس روزفلت أول السياسيين في العالم، وصار أهل أمريكا أكثر الناس سعادة.
وإن مثل أمريكا الآن مثل الشمس تبعث الحرارة والنور باستمرار، فحصلت عظمتها وجلالها من بذل الحرارة والنور، وهي نفسها لا تعني بتنعمها قط. وإذا لاحظنا مسألة الأمريكان الاقتصادية بعد الحرب الحاضرة، وقد نفذت اليوم فعلاً ما عرضته على آذان المستمعين الآن من نظرية الشمس والحياة، ظهرت لأعيننا مشكلة النزاع العلني بين فريقين: أولهما الذين يقترحون أن يبقى الإنتاج الجليل كما كان بعد الحرب الحاضرة، كي تتجدد مسألة البطالة، وهم لا يلاحظون حينئذ دفع الضرائب الثقيلة وتحمل الديون.
وثانيهما: الذين يقترحون اختصار ميزانية الوطن بعد الحرب الحاضرة والنقص من مدى الإنتاج تجنباً للتضخم المالي. وإني لموافق على رأي من التوسع في الإنتاج، فأرجو من أمريكا أن لا تنفذ قرار الذي يشير بإنقاص الإنتاج بعد الحرب الحاضرة، بل يجب عليها أن تستمر في الاختراع والإنتاج، لتتمتع الجماهير بالنتائج ويرتفع المستوى المعيشي، ثم تبيع ما يبقى من الإنتاج بعد الاستعمال، ولو بقى شيء من الإنتاج بعد البيع، فما عليها إلا أن تقدمه للناس هدية.
إذ إن ثمة بعد الحرب كثيراً من البلدان تنتظر نهضة، وكثير من الأمم تحتاج إلى المساعدة والإنقاذ.
ولما كانت لأمريكا هذه القوة على الاختراع وتلك القدرة على الإنتاج، فكيف يجوز أن لا ترفع قواتها إلى أقصى الحد، كي توفر النعمة لجمهورها خاصة وللعالم كله عامة؟ إن السياسيين الأوربيين إذا تحدثوا عن سياستهم الداخلية، طالبوا دائماً برفع المستوى المعيشي، أما السياسيون الصينيون فقد تعودوا أن يبثوا في الناس حب الاقتصاد والزهد، وذلك يوضح مذهب الفريقين المختلفين وفلسفتهما، ويمثل نوعين من السياسة متميزين. أما كيف يرفع مستوى المعيشة فذلك بالبحث في خامات الطبيعة وقوانينها والأخذ عنها بالاختراع والعمل على زيادة الإنتاج.
وأما كيف يكون الزهد والاقتصاد فذلك بالقصد في الطعام والكساء، وجمع النقود مليماً بعد مليم، وتكديس المئونة قيراطاً بعد قيراط، حتى أصبح الشحاذون هم أصحاب الثراء، وفوق ذلك فإن أكبر ضرر ينتج عدم الإنتاج والابتكار، والزهد والشح هو فتح باب الخداع والرشوة، ولهذا كان ضعف الصين وفقرها. لقد كان صاحب كتاب (الدول الثلاثة) أعظم الناس عقلاً وأكثرهم تجريباً؛ إذ قال في أول كتابه القيم: (لابد أن تتطور حالة الدنيا بحيث يتحد الناس بعد مدة الفراق من جهة، ويفترقون بعد مدة الاتحاد من جهة أخرى). ولو أننا رجعنا إلى الخلف خطوة، نبحث في تاريخ الصين عن أسباب السلام والصلح من جهة، وعن أسباب التمرد والعصيان من جهة أخرى، لوجدنا أن السبب الوحيد هو وقوف سياستنا في حدود نطاق المتاع الشخصي الضيق، وحدود الاقتصاد في إنتاج الزراعة البسيطة، وعدم استغلال الطبيعة لتحسين حال المجتمع وخصوصاً العجز عن رفع مستوى المعيشة. لقد كانت مصر من بناة الحضارة بين أبناء آدم، بل كانت الأولى في العالم من قديم الحضارة وبعد التمدن؛ إلا أن أهلها ما زالوا يعيشون على ماء النيل فقط، فإذا لم يرتفع فيضان النيل إلى درجة موفورة، نقص حصاد الزرع، ومات الناس جوعاً.
وإذا لم تكف المؤونة بأن كان إنتاج الزراعة ومحصولها محدوداً مع زيادة السكان، حدثت المصائب دائماً، فلذلك ظلت مصر ضعيفة. وإلى هنا كشفت المشكلة أمام أعيننا علانية، فلابد أن ننزع ما بين البشر من حدود، ونبعد عن نطاق المتاع الشخصي، ثم نتجه إلى السماء بقصدنا المعين، ونستغل الطبيعة بقوتنا المتحدة وعند ذلك تحسن حالة المجتمع وتصلح شئون الوطن، ونرى أنفسنا متقدمين نحو الأمام مشغولين بالاختراع.
تلك هي وجهة نظري الجديدة في الحياة، وهي نفسها نظرية الشمس والحياة. نور ناهين

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣