أرشيف المقالات

وجهة النظر الجديدة في الحياة

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 للكاتب الصيني الكبير واب يون شينغ (حديث ألقاه في جمعية الثقافة المركزية بتشنغ كنغ) بقلم الأستاذ نور ناهين إني لم ألق محاضرة في مكان عام، في تشنغ كنغ، منذ بضع سنين لسببين: أولهما أنه لم يكن عندي كلام أحب أن أقوله فأحاضر فيه، لذلك أمسكت عن الكلام، لأستر فضيحتي عن أعين الناس.
والآخر أنه لو كان عندي شيء من الرأي، لاستطعت أن أنشره في الجرائد والمجلات، وما كنت أود أن أحتل مكانا يحتاج إليه العلماء والأدباء للتعبير عن رأيهم.

أما اليوم فقد اضطررت أن أقبل ذلك المركز حين دعتني لجنة الثقافة المركزية، وقد اخترت موضوع المحاضرة (وجهة النظر الجديدة في الحياة) لعلي أسترعي انتباه السامعين. وأبدأكم بأن من الحق ألا أتهور في هذه المحاضرة، فإني لم أتعمق بحث الموضوع، وكل ما جمعت فيه ليس إلا رأيا لا يكاد يجتمع على نفسه ولا نظام له يمسكه؛ لكن يخيل إليّ أني مادمت بشراً يحيا بين أرجاء العالم، وما دام لي شيء بسيط من الفكر، فمن حقي أن يكون لي وجهة نظر في الحياة فيما عدا الضروريات من أكل ونوم وعمل، سواء أكان وجه النظر في الحياة لا تزال تتغير دائما بتغير الأوقات من حيث التقدم والتأخر.
إذ من المستحيل أن تظل واحدة مدة الحياة، لذلك طالما تغيرت وجهة نظري في الحياة وتطورت، وأنا أرجو دائما أن يكون تطورها علامة التقدم. وقع الشك في قلبي من مسألتين، حين قارنت نظم المجتمع ومستقبل الوطن بما أعرف من خلقي الشخصي ومعاملتي للناس. الأولى أنه قد مضى علينا آلاف ومئات السنين ونحن نبحث عن العفة والفضيلة والخلق الحسن، وندرس عوائد الإنسانية والرأفة والرحمة، منذ عهد كونفشيوس؛ ولكننا مع ما بذلنا من جهد في البحث والدرس، فقد بعدت سيرة الأمة عن القصد كل البعد، حتى خرجنا عن كوننا أصحاب عفة وفضيلة ورحمة.
إذن لاشك في أنه لا يكفينا بحث الخلق الحس ودراسة الفضيلة فقط في هذا العصر. والأخرى أننا تعودنا كلما تحدثنا في تاريخ الشعوب أن نقول إن لنا تاريخاً مجيداً وحضارة تليدة منذ خمسة آلاف سنة.
نعم، ولاشك في أن لنا تاريخا حافلا طويلا وحضارة مجيدة، وهو تاريخنا وحضارتنا حقا.
ولكن لماذا تأخرنا الآن؟ لاشك أنه لا ينفعنا مجد أجدادنا منفردا. بسبب هاتين المسألتين وشكي فيهما، تذكرت ما قال الفيلسوف (نيتشة).
(من الضروري تقدير قيمة كل شيء من جديد). لقد أفزعتني مصيبة الوطن وأزمة الأمة التي أصابتنا منذ حادث 18 سبتمبر جد الافزاع، وحملتني على أن أفكر فيما يستحق التهذيب من خلقي حسب قواعد المروءة خاصة، ثم فيما يجب عليّ لخدمة الوطن حسب القوانين عامة.
وأخيراً رأيت أن أعرض على الناس اقتراحي فيما أسميه (خطوات المرء الثلاث)، وهو يشير بأن لا نعمل شيئاً، إلا (أ) لفائدتنا بدون خسارة الناس، و (ب) لفائدتنا وفائدة الناس، و (ج) لفائدة الناس وإن لم نستفد. نعم، إن الإنسان كان حيوانا أنانيا، إذ كان يفتح فمه لشرب اللبن منذ أن ولد، ثم يخاصم أمه على شيء من الأكل والشرب في عهد الطفولة.
ولكن مهما يكن الأمر، فالواجب على من بلغ سن الرشد الذي هو وقت حاجة المجتمع إلى عناية الفرد أن لا يعمل شيئا إلا حيث يستفيد بدون أن يضر الناس ثم إن استفاد وأفاد فذلك خير، أما إن أمكنه أن يضحي بنفسه وفائدتها في سبيل فائدة المجتمع فذلك ممن بلغوا الذروة في الفضل والتضحية. إنا إذا ترسمنا خطوات هذا الطريق في سبيل مصلحة الوطن والعالم، ضمنا ألا يعمل إنسان إلا لفائدته بدون ضرر الوطن والعالم، أو لفائدته وفائدة الوطن والدنيا جميعا، أو يضحي بنفسه في سبيل الوطن والعالم، وذلك منتهى الإيثار. على أساس هذه القاعدة، كنت ألقيت خطابا في جامعة (تسين هوا) بمدينة بنغ بين، ثم كتبت ست مقالات تحت عنوان (إلى شبان الشمال) حين وصلت إلى شنغ هاي، بنيتها على هذه الأساس أيضا.
أما من ناحيتي، فكنت ولا أزال أتمسك بهذه المبادئ، لتهذيب خلقي الشخصي خاصة ولأحسن معاملتي مع الناس عامة. وفي الربيع الماضي الذي كان آخر مرحلة من مراحل حرب الدفاع المقدس، حين بدا لنا بارق النصر، استأنفت الجهاد في إيقاظ أبناء وطني، ليعملوا جهدهم في إشعال الروح القومية ونبذ الكراهية والتلاوم والمحاباة.
وذلك لما لاحظت في قلوب الناس من دلائل الأغلال واليأس من الحياة، قاصداً بذلك الإيقاظ انتشال الناس من المنحدر الذي كادوا ينحدرون إليه، ودفعهم إلى تيار جديد عاصف.
ولكنني الآن قد شعرت إزاء أمنيتي تلك أن كل ما عنيت ليس كافيا. ولماذا شعرت بعدم كفايته؟ ذلك لأن كل ما بقى فيما أشرت إليه من المسألتين المذكورتين لابد أن يعاد تقدير قيمته ثانية. إني متأكد كل التأكيد أننا لا نقدر أن نتفوق على الهنود في بحث علوم الفلسفة.
ذلك لأن فلاسفة الهنود قد بلغوا ببحوثهم أبعد حدود الخيال الجميل، حتى كأنهم كشفوا مرج عبقر حيث يسكن الجن، وكل هذا بدأبهم على البحث ومزاولة الزهد والطمع في نعيم الجنة، حتى أنكروا الحياة وعدوها من البلايا والمصائب، ولكنهم أصبحوا من أضعف الأمم في العالم ولا يزال وطنهم مستعمرا. وإني لأعتقد كل الاعتقاد، وقد زعمنا أن لنا تاريخا في الحضارة منذ خمسة آلاف عام، أننا لن نقدر أن نتفوق على المصريين من حيث ذلك التاريخ، لأن أسلافهم قد بنوا الهرم الأقدم قبل خمسة آلاف عام، وألفوا التقويم السنوي لمعرفة أيام السنة، قبل ستة آلاف سنة، وكل هذا ظاهر بين، فمن الحقيقة أن المصريين كانوا من الذين بنوا الحضارة، ولكنهم الآن لا يزالون من أضعف الأمم، ولابد أن يبذلوا أقصى جهدهم للنهضة على الرغم من أن بريطانيا سمحت بالاستقلال. أما علوم الأخلاق وفلسفة الحياة، فقد كان أهل الصين فيها مسهرة متفوقين على غيرهم، ولكن شعب الصين ما يزال الآن متأخراً أيضا. وكم شعرت دائما حين بدت لي علائم الضعف، بأن ثمة شيئا من الخلل يعبث بحضارتنا، ولابد أن نبحث عن منشئه الأصلي خلف دائرة البهرج الظاهر في حضارتنا. بحث صديقي (لين تاو تزي) فلسفة نيتشة ونقدها، ثم بين بحثه في مقاله (نظري إلى نيتشة)، ولخص مذهب الفيلسوف في كلمتين، وهما: (إن الابتكار يكتشف ليعطي للناس، ولكن ذلك الإعطاء ليس شفقة بهم).
أي أن القصد من الاختراع هو انتفاع العالم، ولم يكن المخترع رحيما بالعالم فاخترع، إنه يجهد فكره ليستفيد ويتمتع، ثم حين يكتفي بالمتعة، يعرضه على الناس، إنما كان يخترع لنفسه، وما كان يفعل كما فعل (يسوع وبوذا) رحمة للناس وإشفاقا عليهم. إن النشاط لب الحضارة وروحها حقا، إذ أنه لا تبقى حضارة إلا بالاختراع، ولا يعيش ابن آدم ولا ينمو إلا والاختراع يقدمه من جهاته جميعا. ومن يوم أن عرفت (أن الابتكار لنفع الناس، ولكن انتفاع الناس ليس ناتجاً عن رحمة المخترع بهم)، اتسع نطاق فكري أو امتدت مسافته، فتمكنت من معرفة بعض أساليب الحياة.
خذوا منها مثلا، فالشمس لو أضاءت ونشرت أشعتها وحرارتها، فسرت الحياة في الكائنات ونما النبات وشب الحيوان، ثم توجهنا إلى الشمس وسألناها: (أيتها الشمس! هل أنت أشرقت ونشرت الحرارة من أجل الدنيا وما فيها؟) فقد تجيبنا الشمس مرتبكة حائرة: (لا أدري، لا أدري!) وإذا نحن كررنا السؤال وأبينا إلا أن نعرف السبب في ضيائها، فربما أجابتنا مضطرة (إني أنشر الحرارة لأني أريد الحرارة ولابد لي منها!) تلك إحدى نظريات الحياة وأساليبها عرضتها عليكم أيها الكرام، وهي قانون من قوانين الحياة التي تندفع إلى الأمام بدون تردد، لذلك أعتقد أن الاختراع سيستمر كما فهمت من نظرية الشمس والحياة.
وهذه النظرية وإن كانت من أنواع الفلسفة، إلا أنها ليست مما يتفق مع مذهب (نيتشة) بل من فلسفة أعلى من فلسفة نيتشة. لست أريد الغموض والخفاء بالبحث في الفلسفة والنطق بها في حديثي عن نظرية الشمس، كلا، فانه لا غموض في الأمر ولا خفاء؛ لأن ما قصدت من ذلك هو أن تكون وجهة نظرنا في الحياة متجاوزة نطاق المتاع الشخصي إلى قوانين السماء، المراد بالسماء ما وراء الطبيعة، بل حقيقة الطبيعة، وبكلام أكثر صراحة ينبغي أن تكون وجهة نظرنا في الحياة متعدية تلك الحدود التي يعامل بها بعض الناس بعضا، مسيطرة على الطبائع والكفايات، مستعملة إياها في الابتكار للحياة، وهي مادامت قد استخدمتها على ذلك الأساس فهي عين الفضيلة ولب السعادة للإنسان، وليست تلك الأمور في حاجة إلى مراعاة وغاية، بل هي داخلة في نطاق منافع الحياة عن طريق الابتكار. إن شدة العناية بالمتاع الشخصي والتجاوز عن مسايرة قانون الطبيعة هو الذي كلف حضارة الصين الخسارة والضرر.
ولاشك أن أكثر العلوم العالية الصينية، كان من فلسفة الحياة وأكثر علمائنا قد بحث علاقات الناس ببعض بحثاً عميقاً ظاهر العمق.
خذ مثلا: ما يقال من أن كونفشيوس تشرف بزيارة الكاهن (لووتز) طالباً أدباً؛ وكان كونفشيوس لايزال شابا ناضج العقل ذا عزم وطموح، فقال له (لووتز) بوقار الكهنة: (أترك ما في نفسك من العناد والكبر، ثم امح من نفسك ذلك الشره الذي غلب عليك.) يعني ألا تكون مضطرم الفكر متبرم القسمات؛ وألا تبقى في قلبك شيئا من حب الشهرة والطموح.
ثم قال: (إن التاجر الغني هو الذي يخزن سلعه في أعماق متجره، حتى كأن دكانه خال من البضائع؛ وإن الإنسان الكامل من يكون في عنقه الموفورة كالأحمق). فأولى هاتين الكلمتين تعلم الإنسان أن يكون تاجراً خائنا، يدخر بضائعه لينتهز فرصة للربح الفاحش، وثانيتهما تعلم الناس أن يتحامقوا عمداً.
إلا أن كونفشيوس احترم (لووتز) ورأيه كل الاحترام، فانصرف وقال لتلاميذه: (إني تشرفت اليوم بمقابلة السيد الكاهن (لووتز)، وما هو إلا تِنِّين!) وأعظم الظن أن كونفشيوس قد أخذ يكره تلميذه (تزلو) الشديد الجسور بعد أن أدبه، وكان دائما يشتمه قائلا: (يا للمزاج الهمجي! يا للطبع البربري!) ثم أخذ تلميذه الأستاذ (تزلوا) يتاجر نعد ذلك، فكسب كسبا جزيلا.
فلا جدال أن فلسفة (لووتز) فلسفة ماكرة.
وأما فلسفة (جواتز)، فقد كانت فلسفة الجبن والضعف، لأنها ستار يحتمي به صاحبه من ضرر الملوك الجبابرة من جهة، وطريق يدرج فيه من جهة أخرى. ولا جدال في أن الإمبراطورين (ياو) و (شون) كانا من المثل العليا للعفة وحسن الخلق، فلذلك دأب الصينيون على ذكر اسميهما في معرض أمثال العفة وحسن الخلق.
ولقد كان (شون) يعتبر الدنيا كحذاء عتيق لما كان أمبراطوراً، وكان يبكي بكاء مراً، ويستغفر الله من قسوة أبيه (قوسى)، حتى هم أن يفر من الدنيا.
وفوق ذلك كان دائما يهتم بشأن أخيه (شينغ) التعس الشرير لقلبه الحنون، فكان يسر لسرور أخيه، ويحزن لحزنه أيضا: وإذا كانت شئون النبي أو الإمبراطور لم تخرج عن حيز المتاع الشخصي هكذا، فما شأن من قلت منزلتهم عن النبي والإمبراطور؟ قال لي الأستاذ (فوماوجيغ) إنه حاول أن يكتب مقالا، يتحدث فيه عن شئون موظفي الصين.
وقال: إن الصينيين تعودوا أن يقرنوا ذكر الوزراء بذكر السرايا والمحظيات، بل إنهم يعدونهم طبقة واحدة من الناس، حتى أصبحت السرايا والمحظيات يتخذن أسلوب الوزراء والموظفين في الحديث، وينظرن إلى الحياة نظرتهم تماما، حيث يتملقون أسيادهم رجاء رضاهم وسرورهم ومحبتهم لهم.
ويعودون على زملائهم بالكراهة والخصام والحسد، ثم يظلمون من هم أقل منهم بسطوتهم النافذة كل الظلم. قلت له: ما أصدق ما قلت، إلا أنني أخشى ألا تسمح سلطة الرقابة الجديدة بنشر مقالك هذا، ولست ضامنا لك قط ذلك. البقية في العدد القادم نور ناهين

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣