أرشيف المقالات

الناحية العلمية من أعجاز القرآن

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 للأستاذ محمد أحمد الغمراوي القرآن الكريم حجة الله البالغة على عباده؛ وموضع الحجة القاهرة فيه إعجازه الخلق.
وينبغي إلا يكون إدراك إعجازه موقوفاً على فصحاء العرب ومن لف لفهم، فإن الإنسانية كلها مخاطبة به، مطالبة بالتسليم له أنه كلام الله ليس لآدمي فيه كلمة ولا حرف.
والإنسانية أعجميها أكثر من عربيها، ومع ذلك فلا بد من أن يتضح إعجاز القرآن لكل إنسان، ولو كان أعجمي اللسان، لتلزمه حجة الله إن هو أبى الإسلام. هذا النوع من النظر والتفكير يؤدي إلى نتيجة لازمة: أن لإعجاز القرآن نواحي غير الناحية البلاغية، وغير ناحية التنبؤات التي كانت في ضمير الغيب حين نزل القرآن، ثم حققها الله فعلاً فيما استقبل الناس من زمان. الواقع أن موضوع إعجاز القرآن لا يزال بكراً برغم كل ما كتب فيه.
لكني لست أريد أن أتناوله في هذا المقال إلا من تلك الناحية التي لا يتوقف تقديرها والتسليم بها على معرفة لغة لا تتيسر معرفتها لكل أحد.
هذه الناحية العلمية من الإعجاز. وإذا فهمنا الناحية العلمية على أوسع معانيها فإنها تشمل كل ماعدا الناحية البلاغية من النواحي: تشمل الناحية النفسية وكيف اقتاد القرآن النفس ويقودها طبق قوانين فطرتها؛ وتشمل الناحية التشريعية وكيف نزلت أحكام القرآن طبق قوانين الفطرة للأفراد والجماعات؛ وتشمل الناحية التاريخية التي لم يكن يعلمها البشر عند نزول ما اتصل بها من آيات القرآن ثم كشف عنها التنقيب الأثري بعد؛ ثم تشمل الناحية الكونية ناحية ما فطر الله عليه غير الإنسان من الكائنات في الأرض، وما فطر عليه الأرض وغير الأرض في الكون. هذه النواحي هي التي ينبغي أن يشمر المسلمون للكشف عنها وإظهارها للناس في هذا العصر الحديث.
ولن يستطيعوا ذلك على وجهه حتى يطلبوا العلوم كلها ليستعينوا بكل علم على تفهم ما اتصل به من آيات القرآن، ويستعينوا بها على استظهار أسرار آيات القرآن التي اتصلت بالعلوم جميعاً.
ولا غرابه في أن يتصل القرآن بالعلوم جميعاً، فما العلوم إلا نتاج تطلب الإنسانية أسرار الفطرة، والقرآن ما هو إلا كتاب الله فاطر الفطرة، فلا غرو أن يتطابق القرآن والفطرة، وتتجاوب كلماتها وكلماته، وإن كانت كلماتها وقائع وسنناً، وكلماته عبارات وإشارات تتضح وتنبهم طبق ما تقتضيه حكمة الله في مخاطبة خلقه، ليأخذ منها كل عصر على قدر ما أوتي من العلم والفهم، وكذلك دواليك على مر العصور. هذا التدرج في إدراك تمام التطابق بين القرآن والفطرة أمر لا مفر منه في الواقع، ثم هو مطابق لحكمة الله سبحانه في جعله الإسلام آخر الأديان، وجعله القرآن معجزة الدهر، أي معجزة خالدة متجددة: يتبين للناس منها على مر الدهور وجه لم يكن تبين، وناحية لم يكن أحد يعرفها أو يحلم بها من قبل، فيكون هذا التجدد في الأعجاز العلمي هو تجديداً للرسالة الإسلامية، كأنما رسول الإسلام قائم في كل عصر يدعو الناس إلى دين الله ويريهم دليلاً على صدقه آية جديدة من آيات تطابق ما بين الفطرة وبين القرآن. هذا النوع من الإعجاز يعجز الإلحاد أن يجد موضعاً للتشكيك فيه إلا أن يتبرأ من العقل.
فإن الحقيقة العلمية التي لم تعرفها الإنسانية إلا في القرن التاسع عشر أو العشرين مثلاً، والتي ذكرها القرآن، لا بد أن تقوم عند كل ذي عقل دليلاً محسوساً على أن خالق الحقيقة هو منزل القرآن. وقبل أن نورد بعض الأمثلة التوضيحية يجب أن ننبه إلى أمرين مهمين: الأول أنه لا ينبغي في فهم الآيات الكونية من القرآن الكريم أن نعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا قامت القرائن الواضحة تمنع من حقيقة اللفظ وتحمل على مجازه.
إن مخالفة هذه القاعدة الأصلية البسيطة قد أدى إلى كثير من الخطأ في التفسير.
وسنرى أن من أعجب عجائب القرآن أن المطابقة بين آياته وآيات الفطرة تكون أتم وأيسر كلما أخذنا بتلك القاعدة في فهم كونيات القرآن.
هذا أمر. أما الأمر الثاني فهو أنه ينبغي ألا نفسر كونيات القرآن إلا باليقين الثابت من العلم، لا بالنظريات ولا بالفروض.
إن الحقائق هي سبيل التفسير الحق: هي كلمات الله الكونية ينبغي أن يفسر بها نظائرها من كلمات الله القرآنية؛ أما الحدسيات والظنيات فهي عرضة للتصحيح والتعديل إن لم يكن للإبطال في أي وقت. فسبيلها أن تعرض هي على القرآن بالقاعدة السابقة لتبين مبلغ قربها منه أو بعدها عنه، وعلى مقدار ما يكون بينها وبينه من اقتراب، يكون مقدار حظها من الصواب. فلنأخذ الآن في تبين طرف من أعجاز القرآن العلمي عن طريق ضرب بعض الأمثال.
وستكون الأمثال فردية لأن الناحية العلمية العامة من الأعجاز قد سبق بيانها في بعض أعداد الرسالة، إذ أثبتنا التطابق التام بين العلم الطبيعي الحديث والقرآن من ناحية الموضوع ومن ناحية الطريقة، وبينا أن العلم بموضوعه مأمور به في القرآن على التحديد، وأن العلم بطريقته يقره ويؤيده القرآن. لنبدأ من الأمثلة بأول آية - بعد البسملة - في أول سورة من القرآن.
ولنبدأ بالآية الكريمة فاتحة أم الكتاب.
(الحمد لله رب العالمين) ولندع إعجاز شطرها الأول، ولنأخذ في إعجاز شطرها الثاني، ولنقصر من ذلك على ما يتمثل من الكلمة الأخيرة من: كلمة (العالمين). لاشك أنها كلمة فاجأت العرب من الناحيتين على الأقل: ناحية الجمع، وناحية تذكير الجمع،.
فالعرب لم يكونوا يعرفون إلا عالماً واحداً هو الذي كانوا يعيشون فيه.
والناس إلى اليوم لا يتحدثون إلا عن عالم واحد هو هذا الذي نبصر ونحس ونعيش فيه.
فقصر الحمد على رب العوالم شيء.
فجأ الناس إذ ذاك ولم يألفه كل الناس إلى اليوم. والتمس الناس تلك العوالم المتعددة فقالوا هي عوالم الإنس والجن والملائكة، وقالوا هي عوالم الحيوان والنبت والجماد، ولكن ليس كل ذلك بموف بمعنى ذلك اللفظ، لفظ (العالمين) إنه جمع معرف لا جمع منكسر، وأنت إذا قلت العالم لم تفهم إلا عالماً واحدا هو هذا الشامل لكل ما ترى من أرض وسماء.
وإذا أخذنا بحرفية اللفظة في الفهم طبق قاعدتنا الأولى، كان عالمنا هذا فرداً من أفراد، وعالماً من عوالم مثله.
فأين هذا المعنى في أي كتاب بأي لسان قبل القرآن؟ ثم جاء علم الفلك الحديث بمراقبه ومراصده، وتحليلاته الرياضية وغير الرياضية، فبين أن المجموعة الشمسية التي نحن فيها ومنها ليست في هذا العالم المجري شيئاً مذكوراً؛ وبين أن هناك عوالم مجرية أخرى مترامية المطارح تعد لا بالمئات ولا بالألوف ولكن بالملايين؟. لكن العلم لم يهتد إلى الآن في العوالم المجرية الأخرى إلى أرض كأرضنا، وإن اهتدى إلى أن في كل عالم مجرى آلافاً مؤلفة وملايين من الشموس.
وستجد أكثر الناس يقنع من التطابق القرآني العلمي في هذا اللفظ الكريم بهذا القدر؛ لكن حرفية المعنى القرآني لا تقنع بهذا وتؤدي إلى أكثر من هذا.
إن عالمنا، وهو العالم الذي نعرف عنه أكثر كثيراً مما نعرف الآن عن أخواته، فيه أرض تدور حول شمس، بكل ما في الأرض وما في الشمس من أسرار.
فحرفية اللفظ القرآني وحقيقة الجمع القرآني يقتضيان أن تكون هناك عوالم أخرى فيها أرض تدور حول شمس.
أي أنه لا بد حسب حرفية القرآن أن يكون في ملايين العوالم المجرية الأخرى عوالم ولو قليلة يتحقق فيها ما هو متحقق لنا في هذا العالم الذي جمعه الله سبحانه في أول آية من كتابه جمع تذكير، ليكون في ذلك إشارة وتنبيه للناس إلى ما في الكلمة الكريمة من أسرار ليطلبوهافلا يصرفوا أنفسهم عنها بتعليلهم صيغة الجمع بمراعاة الفاصلة، أو التغليب، أو ما أشبه ذلك من تعليل. فما مبلغ ما وصل إليه العلم الحديث في شأن هذا السر العظيم الذي أشار إليه الخالق سبحانه بكلمة (رب العالمين)، سر وجود الحياة في أرض غير أرضنا في عالم كعالمنا؟ كل ما وصل إليه من هذا أن وجود الحياة على غير كوكبنا هذا أمر ممكن، بل أمر راجح.
ومن يرد الاستزادة من وجهة العلماء في هذا الأمر، فليقرأ فصل: (الحياة في العوالم الأخرى) من كتاب: (عوالم لا نهاية لها) للفلكي الملكي الإنجليزي هـ.
سبنسر جونز. وإذا لم يكن لدى العلم إلا ترجيح ما فهمنا من اللفظ الكريم، فهل في كتاب الله ما يؤيد هذا الفهم وهذا التخريج؟ هل في القرآن ما يفصل هذا السر المجمل في لفظ (العالمين)؟ فإن أوثق ما يفسر به القرآن هو القرآن. (البقية في العدد القادم) محمد أحمد الغمراوي في شهيد ميسلون: وقع اضطراب في ترتيب هذه القصيدة نصوبه فيما يلي: جاء بعد البيت الثامن الذي أوله: في موكب الفادين (لا الغادين) قوله: لو قسمتهم بعدوهم وسلاحه.

والصواب: أن موضع هذا البيت هو بعد البيت الثاني عشر الذي أوله: الرابضين على الحصون.

شارك الخبر

المرئيات-١