أرشيف المقالات

قصاصات الورق

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 خمسة عشر عاماً بعد فرساي للأستاذ محمد عبد الله عنان مازالت الحرب الكبرى توصف بأنها أشنع وأروع مآسي التاريخ، ومازالت مصائبها وعبرها وآثارها المخربة ماثلة في أمم وشعوب كثيرة؛ وكنا إلى أعوام قلائل فقط نسمع أقطاب السياسة الدولية يؤكدون أن الدرس الأليم الذي ألقته الحرب على الدول والأمم العظمى لا يمكن أن يمر دون أن يحدث أثره؛ وأن الشعوب أشد ما يكون اليوم زهداً في خوض الحرب والتعرض لويلاتها المروعة؛ وكنا نشهد ابتهاج الساسة والحكومات كلما عقد ميثاق جديد بعدم الاعتداء بين دولتين أو أكثر، أو حلت مشكلة دولية صغيرة على يد عصبة الأمم بطريق التحكيم والحسنى، أو ظهرت بوادر تفاهم ووئام بين خصوم الأمس؛ كنا نشهد ذلك وأمثاله خلال الأعوام التي تلت الحرب، فيخيل إلينا أن نزعة الحرب والاعتداء قد ضعفت، وأن عقلية الشعوب قد تبدلت، وأن العالم مقبل على عصر جديد، تتبوأ فيه قضية السلام مكانها اللائق، وتغيض فيه الخصومات والأحقاد القومية القديمة، ويسود الوئام والحسنى بين الشعوب. ولكنا نشهد اليوم منظراً آخر؛ فان الأفق الدولي يفيض بالتشاؤم، وعلائق الدول المختلفة في اضطراب دائم، وعبارات الوعيد والحرب والانتقام تتردد في بعض الدوائر، وأحياناً يلوح بها بعض الساسة المسئولين؛ وهنالك بعض المسائل الخطيرة التي خلفتها الحرب الكبرى مثل مشكلة نزع السلاح، ومسألة السار، ومسائل الحدود والأقليات، ومسألة المستعمران الألمانية وغيرها تزداد اليوم خطورة وتعقيدا، بل إنا لنشهد اليوم انتحار مؤتمر نزع السلاح في جنيف، وهو ذلك المؤتمر الذي علقت عليه قبل بضعة أعوام آمال كبيرة في تخفيض التسليح والتقريب بين الأمم، ونشهد عصبة الأمم تفقد هيبتها الدولية وتنحدر بسرعة إلى زاوية النسيان، وهي الصرح الذي هللت له الأمم يوم إنشائه، وقيل إنه سيكون منارة السلام العالمي والعدالة الدولية، وملاذ الأمم الضعيفة والمظلومة.
والخلاصة أن تلك الآمال العريضة التي ساورت العالم حيناً عقب دروس الحرب الأليمة في أن تعتبر الأمم بتلك العبر القاسية وبتلك الضحايا الهائلة، وتغلب الروية والتفاهم في حسم مشاكلها، قد أخذت في الأعوام الأخيرة تنهار تباعا، ولا نكاد نلمس اليوم من آثارها شيئاً. لقد اختتمت الحرب الكبرى بعدة معاهدات للصلح بين الأمم المتحاربة، أعظمها وأهمها معاهدة فرساي، التي أريد أن تكون دستوراً جامعاً لتنظيم أوربا الجديدة سواء من الوجهة الجغرافية، أو العسكرية أو الاقتصادية.
ولكن معاهدات الصلح، كأية معاهدة يعقدها الغالب مع المغلوب، أو بعبارة أخرى يمليها الغالب على المغلوب، لم تخل من المبالغة والاغراق، ولم تحرص على مراعاة الحقائق التاريخية الخالدة، ولم تراع العواطف القومية لأمم عظيمة، وإنما روعي فيها قبل كل شيء أن تحقق شهوات الظافرين ومطامعهم وخططهم في تمزيق الأمم المغلوبة وتحطيم قواها ومواردها.
ففي معاهدة فرساي أرغمت ألمانيا على الإقرار بأنها مسئولة عن آثار الحرب الكبرى، وألزمت بناء على ذلك بدفع تعويضات الحرب الهائلة، ونص على تجريدها من السلاح، وتدمير أسطولها، وانتزعت منها الألزاس واللورين لترد إلى فرنسا، كما انتزعت سيليزيا العليا، ودانتزج، ووادي السار، وفرضت عليها غير ذلك قروض مرهقة كثيرة؛ وفي معاهدة سان جرمان حلت إمبراطورية النمسا والمجر القديمة لتقوم على أنقاضها عدة دول جديدة، انتزعت منها أراضي كثيرة لتعطي لإيطاليا ويوجوسلافيا ورومانيا؛ هكذا غيرت معاهدات الصلح حدود أوربا القديمة، وأثارت في كل مكان مشاكل الأقليلات القومية، ودفعت بالشعوب المغلوبة إلى غمار البؤس والفاقة، وأثارت بذلك مشاكل اجتماعية خطيرة.
ولم يكن يدور بخلد الساسة الذين أملوا هذه المعاهدات المرهقة على الأمم المغلوبة، أنها ستغدو منذ يوم وضعها مثاراً لمشاكل لا نهاية لها، وأنها ستنقض غير بعيد في كثير من نصوصها، وأنها ستعتبر في النهاية أصل كل متاعب أوربا الجديدة، وأنها إذااستمرت على حالها فقد تثير ضرام الحرب مرة أخرى، ولكن هذا ما وقع بالفعل، وهذا ما نشهد اليوم، فقد عدل كثير من نصوص معاهدة الصلح في الأعوام الأخيرة، وهي اليوم مثار حملات شدية، لا من ألمانيا وباقي الدول التي أرهقت بنصوصها فقط، ولكن من إيطاليا إحدى دول الحلفاء التي اشتركت في إجتناء مغانم النصر، بل أنا لنرى مستر لويد جورج أحد الأقطاب الذين وضعوا المعاهدة وأشدهم وقت وضعها وطأة على ألمانيا ينادي اليوم بفداحة الشروط التي وضعت ويقترح مثل إيطاليا تعديل المعاهدة وأدمجه الحلفاء فيها كنتيجة لنزع سلاح ألمانيا؛ وفي أواسط أوربا وشرقها تثار عشرات المشاكل التي ترتبت على إجحاف معاهدات الصلح بالحقوق الجغرافية والقومية لمختلف الدول.
والخلاصة ان معاهدات الصلح تغدو اليوم كالثوب المهلهل.
ويغدو الأفق الدولي مثقلاً بالسحب ومختلف الاحتمالات. قبل الحرب كانت السياسة القومية المغرقة والسلام المدجج بالسلاح، وإنشاء المحالفات العسكرية الدفاعية والهجومية، وعقد المعاهدات السرية، هي قواعد السياسة الدولية، وهي التي توجه علائق الدول بعضها ببعض.
ولم تكن الفكرة في تنظيم علائق الأمم قد تقدمت يومئذ كثيراً عما كانت عليه قبل ذلك بقرون؛ فقد كانت هذه القواعد هي الغالبة في العلاقات الدولية في جميع عصور التاريخ الحديث مذ قامت أوربا الحديثة على أنقاض العصور الوسطى، بل كانت هي الغالبة في العصور الوسطى والقديمة مع فروق يسيرة في علائق السلام والحرب؛ وكانت الأطماع القومية في بسط النفوذ وإجتناء مغانم الاستعمار والتجارة هي التي تحرك الأمم بعضها ضد بعض، وكانت الحرب وسيلة فريدة لتحقيق هذه المثل؛ وقد كشفت لنا الحرب الكبرى عن المدى الذي وصلت إليه الدول العظمى ما قبل الحرب في الاعتماد على التسليح والمعاهدات السرية، وفي التنافس على اجتناء المغانم الاستعمارية واستعباد الأمم الضعيفة؛ ثم جاءت معاهدات الصلح بعد محنة الحرب دليلاً قوياً على أن هذه النزعات الخطرة لم تخمد بل أذكاها الظفر في نفوس الأمم الغالبة، على أن نزعة أخرى برزت من خلال هذه الغمار ترمى إلى العمل على التقريب بين الأمم، وتخفيف حدة الأحقاد القومية التي أثارت الحرب؛ وقد أريد أن تكون عصبة الأمم رمزاً لهذا الاتجاه الجديد؛ ولكن العصبة ولدت ميتة من هذه الناحية، واستطاعت العوامل السياسية الخفية أن تسيطر عليها منذ الساعة الأولى، وأن توجهها حيث شاءت، وأن تستغل نفوذها الدولي؛ ولما أن بدت بوادر التفاهم بين ألمانيا وخصومها بالأمس، وفازت سياسة التقرب والحسنى بعقد ميثاق لوكا رنو سنة 1925، هلل العالم مرة أخرى، واستقبل هذا الميثاق الذي يجمع بين أعداء الأمس ويقضي بتأمين منطقة الرين بين فرنسا وألمانيا، بوابل من الآمال الكبيرة، واعتقد أن الميثاق سيكون فاتحة لظفر السلام وقضيته؛ وساد في الأفق الدولي مدى حين نوع من التفاؤل، وحلت أثناء ذلك عدة مشاكل دولية خطيرة بالتفاهم والحسنى؛ ثم كانت الخطوة التالية بعقد ميثاق تحريم الحرب، أو ميثاق كيلوج سنة 1929، وهو الميثاق الشهير الذي يقضي بتحريم الحرب كأساس للسياسة القومية ووسيلة لمعالجة المشاكل الدولية، ويقضي باستعمال التحكيم كوسيلة لحسم المنازعات بين الأمم، وقد جمع هذا الميثاق بين جميع الدول العظمى وبين أعداء الأمس، وانضم إليه عشرات من الدول في أوربا وأمريكا وآسيا، ووقعته مصر أيضاً، واعتبر يوم وضعه كأنه إنجيل جديد للسلام، واستقبل بأناشيد المديح والإعجاب في كل مكان؛ وكان عقد ميثاق تحريم الحرب في الواقع ذروة لظفر النزعة السلمية التي حملت الساسة والأمم في ذلك الحين؛ ولكنه كان ظفراً نظرياً فقط؛ ولم يمض سوى عام واحد حتى ظهر أن تطبيق الميثاق مستحيل من الوجهة العملية، وأنه ولد ميتاً كمشروع عصبة الأمم. وهكذا ظهر عبث العهود والمواثيق الدولية مرة أخرى، وانهارت جميع الجهود التي بذلها أنصار السلام من الوجهة العملية؛ ولم يبق أمامنا من تراث هذا الماضي القريب سوى عصبة الأمم.
ومأساة العصبة معروفة، فقد ظهر فشلها وعقمها في كل مسألة دولية خطيرة، وكل مسألة تقتضي العدالة والإنصاف، وظهر أنها أداة مسيرة في يد الدول الاستعمارية تتجاذب في داخلها النفوذ والوحي؛ وهذا مؤتمر نزع السلاح الذي أنشأته العصبة لتحقق على يده برنامجها السلمي يحتضر ويسير إلى الموت محقق.
ولم يشهد العالم منذ نهاية الحرب ظرفاً أظلم فيه الأفق الدولي مثل الظرف الذي نشهد اليوم؛ فاليابان قد انسحبت من العصبة لتطلق العنان لمشاريعها الاستعمارية في الصين، وهي اليوم بتوغلها في الصين وتحديها جميع الدول الأخرى تثير خطر الحرب في الشرق الأقصى؛ وقد انسحبت ألمانيا الهتلرية أيضاً من العصبة، وهي اليوم تعود إلى تسليح نفسها متحدية خصومها بالأمس ولا سيما فرنسا، وتعمل بكل ما وسعت لإثارة الأحقاد القومية في الداخل والخارج، وفرنسا من جانبها تعود بمنتهى الشدة إلى سياستها القومية القديمة وتبذل جهوداً فادحة لتقوية جيشها وتسليحاتها، وإنكلترا وأمريكا تسيران في نفس الطريق وتعملان لتقوية التسليحات البحرية والجوية؛ وإيطاليا تقوي جيشها وتسليحاتها منذ أعوام وتلوح من آن لآخر بالحرب، ولا تخفى مطامعها الاستعمارية في آسيا وأفريقية، وروسيا السوفيتية تقف لليابان بالمرصاد في الشرق الأقصى، وتركيا تطالب بالعود إلى تحصين الدردنيل بعد أن قضت معاهدة لوزان بنزع سلاحه؛ وتجري في القارة من أقصاها إلى أقصاها حركة انزعاج وتوجس، وتجري مختلف المفاوضات بين دول البلقان وأوربا الوسطى ودول البلطيق، وتعقد المواثيق هنا وهناك لتنظيم الجباه السياسية والعسكرية وأحكام المحالفات، وتتنافس دول القارة العظمى أعني فرنسا وألمانيا وإيطاليا في تنظيم هذه الحركات وتسييرها. والواقع أن التاريخ القريب يتكرر ويتصل؛ وما يجري اليوم في العالم من الأحداث السياسية والمنازعات الدولية يشبه من وجوه كثيرة ما كان يجري قبل الحرب بأعوام قلائل فقط، من تسابق الدول العظمى في التسليح والاستعداد الحربي، ومن تنافسها وتنازعها في إجتناء المغانم الاستعمارية والتجارية، ومن توتر أعصاب الحكومات والساسة، ومن العمل على إذكاء الأحقاد القومية؛ وقد ثارت في الأعوام القلائل التي سبقت الحرب بعض مشاكل دولية خطيرة كانت مقدمة لانقضاض العاصفة؛ والأفق الدولي مثقل اليوم بكثير من هذه المشاكل؛ ويكفي أن مسألة كمسألة السار قد تضرم الشرارة الأولى، كما أن مسألة أغادير كادت قبل الحرب بعامين تضرم هذه الشرارة؛ ونستطيع أن نشبه رحلة مسيو هريو رئيس وزارة فرنسا الأسبق إلى روسيا منذ عام، أو رحلة مسيو بارتو وزير خارجيتها إلى بولونيا ودول الاتفاق الصغير، برحلة مسيو بوانكاريه إلىروسيا قبيل الحرب الكبرى بأسابيع قلائل.
ولقد وصفت المعاهدات الدولية في فاتحة الحرب على لسان بعض الساسة الألمان بأنها قصاصات ورق والتاريخ يؤيد هذا القول في كثير من المواطن؛ ولكن هذا القول اعتبر أثناء الحرب من الكبائر وسجل على ألمانيا ضمن الأخطار الفادحة التي بنيت عليها مسئوليتها في إثارة الحرب.
أما اليوم، ونحن نشهد عقم المواثيق والعهود الدولية الكثيرة التي وضعت لتسوية المشاكل والعلائق الدولية؛ ونشهد انهيار عصبة الأمم ومؤتمر نزع السلاح، وميثاق تحريم الحرب، ومعاهدة واشنطون التي تعهدت الدول العظمى فيها بتحديد التسليح البحري، ونقض معاهدات الصلح سواء من جانب الغالب أو المغلوب، فانه يسمح لنا أن نكرر القول القديم بأن العهود والمواثيق الدولية تغدو دائماً قصاصات من الورق كلما شاءت السياسة والاعتبارات القومية. محمد عبد الله عنان المحامي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١